تحقيق

تحقيق

25/02/2017

مسلمو بورما في محرقة الإبادة


مسلمو بورما في محرقة الإبادة

ضحايا التعصّب الوثني، والتخاذل عالمي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إعداد: أحمد الحسيني ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ليس جديداً ما تتحدّث عنه التقارير الواردة من إقليم أراكان في بورما أحد أطراف الجسد الإسلامي العليل، والبلد الذي دخل أهله الإسلام بفعل ما لمسوه من تعامل أتباع دين الرحمة والتسامح.

لكنّ تطوّر وسائل الإعلام والتواصل أفصح عن إبادة تعرّض لها شعب هذا البلد النائي مراراً وتكراراً، ويتعرّض لها اليوم بفعل الوحشية الوثنية للرهبان البوذيّين والحكومات المتعاقبة فيه؛ ما ألزم «هيئة الأمم المتحدة» ومنظّماتها بالتنديد بما يتعرّض له مسلمو بورما من قتل وتهجير وهتك للحرمات، لم يوفّر صغيراً ولا كبيراً ولا امرأة ولا رضيعاً، في الوقت الذي تنهمك فيه بعض أنظمة الدول الإسلامية بإذكاء نار الفتن بين المسلمين ومدّ يد التعاون إلى الصهاينة الغاصبين.

هذا التحقيق، يُلقي الضوء على جانبٍ من مأساة المسلمين في بورما، وقد أُعدّ استناداً إلى تقارير «مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات»، و«وكالة أنباء الروهنغيا»، و«شبكة النبأ المعلوماتية»، ومعلومات الوكالات الإخبارية.

 

«بورما» أو جمهورية «اتحاد ميانمار»، هي إحدى دول جنوب شرق آسيا، تُحاذي الصين، والهند، وبنغلادش، ولاوس، وتايلاند.

عاصمتها نايبيداو، أمّا أكبر مدنها وأهمها من الناحيتين السياسية والاقتصادية فهي العاصمة السابقة «رانغون».

مساحة البلاد تتجاوز 670 ألف كلم مربّع، وعدد السكان 55 مليون نسمة.

نسبة المسلمين من مجمل السكان يتراوح تقديرها بين 5 و20 بالمائة. مردّ هذا التفاوت الكبير في النِّسَب إلى الإجراءات «الرسمية» الجائرة التي اتّخذتها السلطات المتعاقبة على البلاد بحقّ المسلمين منذ العام 1942م، بدءاً من تصنيف المسلمين على أنّهم مواطنون من «الدرجة الثالثة»، وصولاً إلى تجريدهم من جنسياتهم وعدم تسجيل مواليدهم في قيودات الأحوال الشخصية، مروراً بالتعامل معهم في المؤسسات والإدارات الحكومية والمحلية على أنّهم لاجئون أو مقيمون غير شرعيين، حيث تُفرَض قيود صارمة على تنقلاتهم داخل البلاد وحصولهم على الخدمات، ويُحظر عليهم الحصول على الجنسية، ويُطلق عليهم، زوراً، «البنغال» للإيحاء بأنّهم وافدون من بنغلادش المجاورة، مع أنّ الحقائق التاريخية تدحض هذه المزاعم.

يتواجد المسلمون في كبريات المدن البورمية، إلّا أنّ النسبة الأكبر منهم تستوطن إقليم «أراكان» الواقع غرب البلاد، والمعزول بحكم العوامل الطبيعية، حيث تفصله عن بقية ولايات بورما جبال «يُوما»، وهي امتداد لسلسلة جبال «هملايا»، وفي جنوبه خليج البنغال والمحيط الهندي، وفي أقصى شماله نهر «ناف»، وهو الحدّ الطبيعي بينه وبين جمهورية بنغلادش.

يُعرف مسلمو أراكان بـ«الروهنغيا»، وفي بعض الدراسات أنّ المصطلح مشتقّ من الكلمة العربية «الرحمة». وهم سلالة الشعب الذي دخل الإسلام في القرن الثامن الميلادي بعد انتشار الدعوة الإسلامية في حاضرتهم، عبر مجموعة من التجار المسلمين. وقد بلغ من قوّتهم أنّهم أسّسوا مملكة مستقلة (مملكة أراكان، وتعني مملكة بلاد العرب أي المسلمين) تعاقب عليها 48 حاكماً، طوال أربعة قرون، وانتهت سنة 1748م مع الاجتياح البورمي البوذي.

يتجاوز عدد مسلمي «أراكان» حالياً، وفق تقديرات 2015م، الأربعة ملايين نسمة، وقد صنّفتهم الأمم المتحدة في العام 2012م «الأقلية الأكثر اضطهاداً في العالم».

يعاني مسلمو «أراكان» من تردّي أحوالهم الاقتصادية، ويعيشون ظروفاً أشبه بالفصل العنصري؛ حيث يُحرمون من حقوق المواطنة، ويعمل السواد الأعظم منهم في الزراعة وصيد الأسماك وتربية المواشي، ولا يتاح لهم ذلك إلا بعد تقديم الرشاوى لرجال الشرطة، باعتبارهم «مقيمون غير شرعيين»، وخلال الـ 75 سنة الماضية تمّ الاستيلاء على مساحات واسعة من أراضيهم وممتلكاتهم من قبل عِرق «الموك أو الماغ» البوذي، بغطاء وحماية من السلطات الرسمية.

 

 

بدأت عمليات «التطهير العرقي بحقّ مسلمي الروهنغيا»، وفق تعبير مجلة «كورييه إنترناسيونال» الفرنسية في العام 1942م، عندما قُتل أكثر من مائة ألف مسلم على يد شعب «الموك» بفتاوى دينية من الرهبان البوذيين، وخلال العقود اللاحقة حصلت أكثر من عشرين عملية إبادة وتهجير ممنهج، آخرها مذابح العامين 2012 و2016م (ما تزال مستمرة)، ما أسفر عن مقتل وتشريد مئات الآلاف من الروهنغيا، وهم موزّعون في مخيمات اللاجئين في بنغلادش، والهند، وتايلاند، وماليزيا، وأندونيسيا، وتقيم نسبة ضئيلة منهم في بعض الدول العربية والإسلامية، أو في أوروبا.

سير المذابح الحالية في بورما

يوم التاسع من شهر تشرين الأول 2016م، أعلنت حكومة ميانمار في بيان ملتبس عن مقتل ثلاثة من شرطة حرس الحدود مع بنغلادش، في اشتباكٍ مع «مجموعة من المسلحين المتسلّلين إلى داخل البلاد».

وفي اليوم التالي، أي في العاشر من تشرين الأول، أعلنت الحكومة إقليم «أراكان» منطقة عسكرية، فحشدت قوات الجيش، وأمدّتها بتعزيزات من الدبابات والمروحيات والقوارب الحربية، وأطلقت حملة واسعة لتفتيش المنازل في قرى وبلدات الإقليم، تخلّلتها عمليات نهب وسلب واغتصاب من قبل جماعات من «الموك»، يترأّسها رهبان بوذيون، ثم تطوّر الأمر إلى قتل النساء والأطفال والشيوخ على قارعة الطرقات، وقصف مروحي بأسلحة ثقيلة على المدنيين العزّل، وكشفت صور للأقمار الصناعية عن محو قرى بأكملها، كما ورد في أحد تقارير منظمة «هيومن رايتس ووتش».

ويمكن القول، بعد الاطّلاع على التقارير الصادرة عن «الأمم المتحدة»، أو عن المنظمات الحقوقية العالمية، أنّ طبيعة المذبحة الجارية حالياً في بورما – كسابقاتها – هي واحدة من أقذر الجرائم في تاريخ الإنسانية وأكثرها دموية وتوحّشاً، وما يزيد من فظاعتها أنّها تتمّ بفتاوى وتحريض ورعاية من قبل تنظيم ديني بوذي متطرّف يُعرف بــ«حركة 9-6-9»، ويترأسه الراهب «آشين ويراثو» الذي تُباع خطبه التحريضية ضدّ المسلمين والمسجّلة على أقراص مدمجة في الأكشاك والمحلات التجارية عبر البلاد. وتشير الأرقام الثلاثة في اسم التنظيم على التوالي إلى «فضائل» بوذا، و«تعاليمه»، و«رهبنته».

وكانت مجلة «التايم» البريطانية نشرت عقب مذابح العام 2012م، تقريراً مفصّلاً عن جرائم آشين ويراثو، عنوَنته على غلافها بـ«وجه الإرهاب البوذي»، وقد بلغ من صلافة هذا الراهب أنه، وعقب فوز المرشح الجمهوري الأميركي دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية، نظم قصيدة ونشرها على الإنترنت، يدعوه فيها إلى تخليص العالم من «رجس المسلمين».

صرخات مسلمي الروهنغيا لم تبلغ مسامع العالم إلّا بعد أربعة أشهر من بدء المجزرة بنسختها الأخيرة. ففي الثامن من شهر شباط الفائت نقلت وكالة «رويترز» عن مسؤولين في الأمم المتّحدة «قلقهم من عدم إدراك العالم الخارجي بشكل كامل لفداحة الأزمة التي تتداعى في إقليم أراكان».

مفوضيّة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، نشرت تقريراً نصّ حرفياً على أنّ عمليات القوّات المسلحة البورمية تضمّنت «جرائم حرق واغتصاب وتطهير عرقي... وأسفرت عن سقوط مئات القتلى، ودفعت نحو 66 ألف شخص إلى الهرب إلى بنغلادش، و22 ألفاً آخرين إلى النزوح داخل البلاد».

ونقل التقرير رواية سيّدة من الروهنغيا لمحقّقي الأمم المتحدة عن كيفية «ذبح رضيعها البالغ من العمر ثمانية أشهر»، كما استشهد التقرير بقصص رواها الناجون عن «قتل رضّع وأطفال تحبو، وصغار، ونساء، ومسنّين، وفتح النار على أناس يلوذون بالفرار، وحرق قرى بأكملها واحتجاز جماعي... وعنف جنسي وإتلاف متعمّد للغذاء وموارد الطعام».

وفي العاشر من شهر شباط 2017م، أكّد المتحدّث باسم الأمين العامّ للأمم المتحدة، استيفان دوغريك أنّ «السلطات الأمنية في ميانمار ارتكبت خروقات جسيمة لحقوق الإنسان في أراكان، اشتملت على جرائم قتل واغتصابات جماعية، وإخفاء قسري، والتي ترقى إلى جرائم ضدّ الإنسانية».

أضاف: «من بين 204 شخص تمّت مقابلتهم بشكل فردي من قِبل محقّقي الأمم المتحدة، أفادت الغالبية منهم بأنّهم شهدوا عمليات قتل، وذكر نصفهم تقريباً أنّ شخصاً من عائلاتهم قد قُتل أو أصبح في عداد المفقودين، ومن بين نحو مائة امرأة تمّت مقابلتهنّ، أكثر من نصفهنّ تعرّضن للاغتصاب أو غيره من أشكال العنف الجنسي».

وقال دوغريك: «ومن بين القصص التي رواها هؤلاء للمحقّقين، ما حدث من انتهاكات مروّعة ضدّ أطفال تتراوح أعمارهم من ثمانية أشهر إلى ستّ سنوات، بعضهم ذُبحوا بالسكاكين أو تعرّضوا للقتل الوحشي».

مجزرة العام

2012

كانت بورما تحت حكم عسكري صارم منذ العام 1962م، بعض نتائجه على المسلمين تهجير مليون ونصف مليون منهم إلى خارج البلاد، لا سيّما في موجتين كبريَين من التهجير عامَي 1982 و1991م.

في العام 2008م، وبعد المتغيّرات الدولية، شهدت البلاد استفتاءً على دستور جديد وعملية انتخابات برلمانية، أسفرت عن تشكيل حكومة شبه مدنية عملت شكلياً على التخفيف من معاناة المسلمين، وقرّرت في حزيران من العام 2012م منح أبناء الروهنغيا «بطاقة مواطنة»، تسمح لهم بالتجوال والتنقّل، والانتساب إلى المدارس والجامعات، ومزاولة أصناف محدّدة من المهن.

هذا القرار الحكومي كان كفيلاً بإطلاق الوحش البوذي من عقاله، لا سيّما الرهبان المتوجّسين بنحوٍ مَرَضيّ من انتشار الإسلام، فاندلعت أعمال عنف هستيرية في إقليم «أراكان»، استهلّها البوذيون بذبح عشرة مسلمين كانوا يستقلّون حافلة في طريق عودتهم إلى قريتهم.

احتجّ المسلمون واحتشدوا في المساجد، ردّت القوات الأمنية، مدعومة بالمدنيّين البوذيّين، بمحاصرة المحتشدين وإطلاق النار عليهم واعتقال عشرة آلاف مسلم. كما أسفرت هذه العمليات التي استمرت حتى صيف العام 2013م، عن مقتل المئات وتهجير عشرات الآلاف بشكل نهائي من موطنهم، فضلاً عن الإجراءات المعهودة من هدم المساجد، وتدمير المنازل، وحرق المحاصيل، والاعتداء على النساء.

ويؤكّد عطاء الله أركاني، وهو ناشط مدني روهنغي مقيم في العالم العربي، أنّ عصابات بوذية تعمل في الإتجار بالبشر، عمدت خلال عامَي 2012 و2013م إلى خطف أطفال مسلمين، وتواطأت مع المستشفيات المحلية لسرقة أعضاء المرضى والمصابين بعد الإجهاز عليهم، كما شيّدت الحكومة البورمية مستوطنات في القرى الإسلامية التي هُجِّر أهلها، واستقدمت مواطنين بوذيّين للإقامة فيها.

دوافع الجيش والرهبنة البوذية

يشير الأستاذ عطاء الله أركاني إلى أنّ الرهبان يعتبرون بورما بمنزلة «قبلة الديانة البوذية» في العالم، ويخافون من انتشار الإسلام فيها، وبحكم نفوذهم التاريخي يمارسون تحريضاً دائماً ضدّ المسلمين على المستويين الشعبي والرسمي.

ويُمكن تلخيص دوافع الجيش البورمي والرهبان البوذيين للتنكيل بالمسلمين على هذا النحو المتكرّر، بالنقاط التالية:

1) خشية الفريقين – الرهبان والعسكر – من مطالبة المسلمين بالاستقلال والحكم الذاتي، باعتبار أنّ إقليم «أراكان» محتلّ منذ العام 1784م.

2) إخلاء «أراكان» من المسلمين، وإحداث تغيير ديموغرافي عبر استقدام البوذيين وتوطينهم مكان الروهنغيا المهجرين.

3) الصراع الخفيّ بين الجيش والحكومة شبه المدنية، المدعومة بشكل كامل من الغرب، لا سيّما الولايات المتحدة. يتعمّد الجيش بثّ الفوضى في «أراكان» لإظهار الحكومة بمظهر العاجز عن إدارة البلاد، ما يمهّد لاستعادة دوره المطلق في الحكم.

4) يسعى الجيش إلى إفشال جهود «لجنة الوفاق والتعايش السلمي»، التي يرأسها الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة كوفي عنان، ويعاونه فيها الأكاديمي اللبناني غسّان سلامة، هذه اللجنة شُكّلت في آب 2016م بالتعاون بين الحكومة البورمية والأمم المتحدة، وتعمل على «دراسة أحوال الروهنغيا ومنحهم حقوقهم، وإيجاد تعايش سلمي في أراكان».

نماذج من الإجراءات الحكومية الجائرة

اتّخذت الحكومات التي توالت على السلطة في ميانمار مجموعة من الإجراءات التعسّفية، وفرضت قوانين ظالمة بحقّ المسلمين ومصالحهم وممتلكاتهم، بدءاً من العام 1962م، أبرزها ما يلي:

1) تأميم الأملاك والعقارات التابعة للمسلمين في أراكان بنسبة 90%، ومصادرة أوقاف المساجد، والمدارس الإسلامية وهدمها، أو تدنيسها بتحويلها إلى أماكن مبتذلة.

2) منع الإصدارات الدينية وطباعة المصحف الشريف. كما يُمنع المسلمون من إطلاق لحاهم، وارتداء الزيّ التقليدي الإسلامي في الأماكن العامة.

3) منذ العام 1983 يُمنع استخدام مكبّرات الصوت لرفع الأذان حتى في شهر رمضان المبارك، ويُحرم المسلمون من أداء فريضة الحجّ لعدم امتلاكهم أوراقاً ثبوتية.

4) اعتقال قيادات إسلامية وتجريدهم من حقوقهم المدنية وإعدام عدد منهم... إلى غير ذلك من لائحة معاناة المسلمين المتواصلة منذ عقود، والتي سيكون لنا معها وقفات أخرى بعونه تعالى، تفي هذه الجماعة المسلمة والمضطهدة شيئاً من حقّها.

قال الله تعالى في سورة البروج، مخبراً عن اضطهاد الكافرين لأصحاب الأخدود المؤمنين: ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾.

اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

25/02/2017

دوريات

  إصدارات أجنبية

إصدارات أجنبية

نفحات