بسملة

بسملة

27/03/2017

موسم ثقافة الدار والمَمَرّ، الآخرة والدنيا


موسم ثقافة الدار والمَمَرّ، الآخرة والدنيا

بقلم الشيخ حسين كَوْراني

للأشهر الثلاثة رجب، شعبان، وشهر رمضان، شخصيّة واحدة، تأتي يوم القيامة لتشهد لمَن عمل فيها بطاعة الله تعالى، ولذلك فهي موسم واحد مهمّته تثبيت ركائز الإيمان بالغيب في شخصيّة المؤمن، في صراط أنّ الآخرة هي كلّ الحياة، ما عداها ليس إلّا حياةً دنيا، وظلّاً زائلاً، ومجرّد ممرّ يجب التعامل معه بجدّ وبصيرة، فلا يُصَغَّر فيُهمَل ويُضيَّع، ولا يُكبَّر فإذا به وكأنّه دار الخلود.

تعزّز ثقافة الأشهر الثلاثة أصول الدين، وتدرّب على التفاعل مع فروعها، وفق هندسةٍ نظريّةٍ وعمليّةٍ معجِزة، يشكّل حجر الزاوية في بنائها البديع ربط المبدإ بالمعاد –وبالخصوص- العرض على الله تعالى.

وكلّ موضوعٍ يرتبط بالآخرة، هو موضوعٌ مستقبليّ، فهو بالتالي أهمّ من كلّ موضوعات الحداثة، وما بعدها، لأنّ مستقبل البشريّة هو الخلود، وهو القمّة التي تَخلُق كلّ الحداثات دون سفْحها وتتلاشى.

* «أشبه بشكٍّ لا يقينَ فيه»

ولا يكاد ينقضي العجب كيف أنّا نوقن بالآخرة، ثمّ يُحيل اشتباكنا بالدنيا اليقين إلى «ظنّ»، ثمّ يضعف الظنّ فيُمسي شكّاً، سرعان ما ينقلب إلى جحودٍ عمليٍّ في الغالب.

قال تعالى:

﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آَيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾.

وقال أمير المؤمنين عليّ عليه السلام:

أ) «ما رأيتُ يقيناً لا شكَّ فيه أشبهَ بشكٍّ لا يقينَ فيه من الموت».

ب) «عجبتُ لمَن نسيَ الموت، وهو يرى الموتى».

 

* الإنسان ابن عمله

والسبب في نسيان الموت والجحود العمليّ باليقين، أنّ السلوك العمليّ يبني الشخصيّة بما يتناسب معه، فالإنسان ابن عمله: ﴿يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ..﴾.

يبدأ الإنسان رحلته في الحياة الدنيا محصّناً بالعقل، مزوّداً بالهوى والعاطفة. يحدّد العقل الحقّ، وتجمح الغرائز بأهوائها والعاطفة المشبوبة إلى الباطل.

بمقدار ما يَحكُم العقل الغرائز، وينْظم –العقل- الأهواء والعواطف والشهوات يتجلّى الحقّ في الفكر والسلوك.

وبمقدار ما تُخَرِّق الشهواتُ العقل، وتُلغي حكومته، يكون الباطل.

لا سبيل إلى تحكيم العقل، وتعزيز اليقين، وصيانته من عدوان عبادة هوى الغرائز، إلا مواصلة تثقيف النفس بذكر الموت، ومنازل الآخرة، وبالخصوص يوم الحساب.

لسان حال الإنسان إذا أراد تحكيم العقل ومجانبة الهوى والشهوات وتسلّط الغرائز، ما ورد في أدعية شهر رجب : «أللّهمّ اجعلْ لعقلي على هوايَ سلطاناً مبيناً».

ولكلٍّ من تسلُّط الغرائز، وسلطان العقل، ساحاته وجنوده، وكَرُّها والفرّ.

ساحتهما الأولى المشتركة هي النفس، ميدان المعارك الحامية الوطيس أبداً، و«الربح والخسارة بعد العرض على الله» كما رُوي عن الإمام الصادق عليه السلام.

وقد تعاظم في القرن الأخير –وما يزال- اقتحام جنود الجهل والثقافة المادّيّة، لحصون العقل وثقافة الآخرة.

أبرز ما مكّن تسلّط الغرائز، من احتلال حصون العقل، والحديث باسمه -كما يتحدّث الصهيونيّ المحتلّ باسم القدس وفلسطين- هو النفخُ في ضرم الغرائز والأهواء، وتثبيت «منهج» التفكير بالحواسّ، و«قيمة» اللّذة الزائلة المبنيّة على التدليس والتزييف.

ولقد زاد الطين بِلّة، وتسلُّطَ الغرائز استبداداً، عدم وفرة التأليف والتدريس في ثقافة المعاد والآخرة، ثقافة الواقع كلّه، حتّى صار الإيمان بالغيب مجفوّاً في أكثر ساحاته، يُتعامل معه وكأنّه أمر «غائب».

* أضرار تغييب ثقافة الآخرة

نتج عن تغييب ثقافة المعاد والآخرة - ثقافة الإيمان بالغيب- من الأضرار الفادحة ما يفوق التصوّر.

من ذلك:

أولاً: تغييب ثقافة المبدأ، الذي يشكّل المعاد رجوعاً إليه سبحانه، وحساباً بين يديه على كلّ صغيرة وكبيرة.

ثانياً: قلّة المقاربات المنهجيّة الجادّة، لأبحاث الولاية الإلهيّة وتجلّياتها.

ثالثاً: ضعف التفاعل مع حدود الله –أحكام الشريعة- التي لا يكون المؤمن مؤمناً إلّا بمقدار التزامها، وتفاقم الضعف لينحصر الاهتمام بثقافة الأحكام الخمسة، في حدود الاهتمام بفعل بعض الواجبات، وترْك بعض المحرمات.

رابعاً: تحييد نظام العبادات المؤقّتة المستحبّة، من الصلاة والصيام، وتلاوة القرآن، والدعاء، والزيارات، والأعمال والأوراد والأذكار، من دون ملاحظة أنّنا مأمورون بالتأسّي فيها -أيضاً- بالنبيّ الأعظم صلّى الله عليه وآله، ومن دون ملاحظة أنّ مهمّتها الرئيسة تقويتنا على عدم الوقوع في الحرام.

خامساً: التندّر على روايات الثواب الكثير المتلازمة عادةً مع نظام العبادات المستحبّة، لتستشري أمراض «المادّيّة» العضال، وتضرب عوارضها المرَضيّة بالدرجة الأخطر تفسير الآيات القرآنيّة التي يرتفع فيها منسوب جرعة الغيب، فاستحكم في ساحات الغيب داءُ حمْل الحقائق القرآنيّة على المجاز والتشبيه.

من ذلك -مثلاً- اعتبار شهادة الجلود والجوارح على الإنسان يوم القيامة، شهادة مجازيّة.

ولكي ندرك أيّ مخزون تربويّ استراتيجيّ عظيم، يُشطب بهذا التبسيط الجاهل، نتأمّل معاً قوله تعالى:

﴿وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ﴾.

* ملء الفراغ بالمناهج الدخيلة

بديهيّ أنّ مَن تتعاظم قائمة شطْبه لمفاصل ثقافة الغيب -ولو عن حُسن نيّة- سيجد نفسه أمام فراغٍ تتّسع هوّته فيه بمقدار بُعده عن تظهيرات ثقافة الإيمان بالغيب في المسارات النفسيّة والتربويّة والإداريّة، وسيعمد إلى ملء هذا الفراغ الذي يستبدّ به، بالسِّلع «الثقافيّة» الجاهزة ولو كانت على غرار موادّ «الإرشاد الأُسريّ» المستوردة من غربٍ لا يُحترم فيه مفهوم الأسرة، أو «البرمجيّات العصبيّة» أو «القبّعات الستّ»، أو «العادات السبع» وهلمّ جرّاً.

قد يكون الذي يجد نفسه مشدوداً إلى هذه المعلّبات الثقافيّة، من خيرة المخلصين، الأتقياء، إلا أنّه واجه إقبالاً على «التديّن» وعانى من مخالفات مسلكيّة، أو تسرّب من أجواء التديّن، ولم يتنبّه إلى محوريّة التثقيف بتجلّيات الإيمان بالغيب، فإذا به يبحث عن الحلّ خارج السِّرب وهو «يحسب أنّه يُحسن صنعاً».

* لا حلّ إلا بتعزيز ثقافة الآخرة

الحلّ العمليّ لهذه المعضلة الأخطر التي نواجهها، خصوصاً في إطار ما عُرف باسم «الإسلام الحركيّ» في مختلف البلاد الإسلاميّة، هو العودة إلى ثقافة الوحي بقسمَيه القرآن الكريم، والحديث الشريف عن النبيّ وآله صلّى الله عليه وآله، وعن أهل البيت عليهم السلام، وهي ذاتها ثقافة الآخرة، والإيمان بالغيب.

ولقد أَولى علماء الإسلام عبر القرون أولويّة قصوى لتظهير حقائق هذه الثقافة، وتملأ أبحاث المعاد موسوعات التفسير والحديث والفقه والعقائد، وسائر ألوان المعارف وبالخصوص الحكمة، كما تزدحم المكتبات بالمؤلّفات في هذا المجال، إلا أنّ الغزو الثقافيّ قد حال بيننا وبينها في ثلاثة مجالات:

1) جعلنا نُعرض عن هذا المخزون العظيم من التراث الإسلاميّ في مجال أبحاث المعاد ومنازل الآخرة.

2) جَعَلَ الغالب في النتاج الفكريّ والثقافيّ الإسلاميّ، بعيداً عن المعاد، بدءاً من سكرات الموت ووصولاً إلى دخول الجنّة أو النار.

3) والغزو الثقافيّ ماضٍ قُدماً في «إقناعنا» بأنّ «الغيب» شيء، والواقع الموضوعيّ شيء آخر!!

***

ثقافة الأشهر الثلاثة هي المدخل إلى التعافي من كلّ أمراض الغزو الثقافيّ ولوثاته. ليتنا نجرّب أن تعتمد المعاهد العلميّة والجامعات والمدارس الإسلاميّة تكثيف الدورات والورش في الأشهر الثلاثة على محور ما كتبه علماؤنا الأعلام في سياق تظهير الآيات والروايات حول فضائل هذه الأشهر وأعمالها.

إنْ جرّبنا في موسمٍ واحدٍ فسنلمس عظيم النتائج الإيجابيّة في التزكية والتعليم، والإدارة وحُسن السلوك المرتبطين في جوهرهما بمعرفة النفس.

اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

27/03/2017

دوريات

  إصدارات أجنبية

إصدارات أجنبية

نفحات