الوثيقة الحَسَنيَّة الخالدة

الوثيقة الحَسَنيَّة الخالدة

29/07/2011

إصدارالمركز الإسلامي

ملحق شعائر
دَوري يصدر عن مجلّة «شعائر»

الوثيقة الحَسَنيَّة الخالدة

إصدارالمركز الإسلامي


بسم الله الرحمن الرحيم


أَللّهُمَّ صَلِّ عَلَى الْحَسَنِ بِنِ عَلِيِّ، عَبْدِكَ وَابْنِ رَسُولِكَ الَّذِي انْتَجَبْتَهُ بِعِلْمِكَ، وَجَعَلْتَهُ هَادِيَاً لِمَنْ شِئْتَ مِنْ خَلْقِك، وَالدَّلِيْلَ عَلَى مَنْ بَعَثْتَهُ بِرِسَالاتِك، وَدَيَّانَ الدِّينِ بِعَدْلِك، وَفَصْلَ قَضَائِك بَيْنَ خَلْقِك، وَالْمُهَيْمِنَ عَلَى ذَلِكَ كُلِّه...  (كامل الزّيارات، إبن قولويه)  

تقديم

هذا هو النصُّ الأَكمل لِخطبة السِّبط الأكبر، الإمام الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليهما السلام، كما رواها الشيخ الطوسي (385-460 هجريّة).
أَوْرد الإمام الحسن عليه السلام، هذه الخطبة في الكوفة بعد ما عُرف بـ «الصُّلح مع معاوية بن أبي سفيان».
إتَّفقت كلمة المسلمين في جميع الأجيال وكلِّ مراحل التَّحَوُّلات السياسيّة، على أنَّ خلافة الإمام الحسن عليه السلام، كانت الخلافة الشَّرعية، وأنَّ انتقال الحُكم بالقوَّة التي لا تقوم على أَدْنى شرعيَّة، إلى آل أبي سفيان، كان خروجاً عن خلافة رسول الله صلّى الله عليه وآله، إلى «المُلك العَضُوض».

تَكمن أهميّة هذه الوثيقة الحَسنيَّة الخالدة، في كَوْنِها تكشفُ حقيقة انقلاب قريشٍ على الوحي والنُّبوَّة، عبر إقامة «الإمبراطوريّة الأمويّة» ثمّ ما تلاها من إمبراطوريّات العباسيّين وغيرهم.

كان الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله، قد أسَّس لِمواجهة هذه المرحلة الأخطر في تاريخ الأمَّة، باعتماد الخطوط العامّة التالية:
1- التَّحذير من مخالفة أهل البيت عليهم السلام، توكيداً للمبدأ القرآني: ﴿..قل لا أسألكم عليه أجراً إلَّا المودَّة في القربى..﴾ الشورى:23.
2-  تثبيت قيادة الإمام الحسن عليه السلام، وإمامتِه، وأنَّ ما يفعله هو بِأَمر الله تعالى، ولو كان بِظاهره عَصيَّاً على الفهم.
3- التّحذير من آل أبي سفيان، ومن معاوية بالخصوص، ومن آل أبي العاص عموماً، الذين إذا بلغوا ثلاثين، «إتّخذوا مال الله دِوَلاً، وعباده خِوَلاً».
كانت هذه التحذيرات النَّبويَّة -أيضاً- تحصيناً للأجيال من أمواج التَّزييف الإعلامي، التي تعاظم تلاطمُها عبر إطلاق  «نكراء معاوية وشيطنتِه» شبكاتِ وَضْع الحديث المُفترى، وقَلْبِ الحقائق وطَمْسِها.

ولقد طال لَيْل «إمبراطوريّات المُلك العَضُوض»، إلَّا أنَّ الثوابت النبويّة مَكّنَت الأُمَّة من ردِّ السِّحر على الساحر ﴿..ولا يفلح الساحر حيث أتى﴾ طه:69.

يجد القارئ في هذه الوثيقة الحَسَنيَّة توكيدَ كلِّ الأُسُس النبويَّة المباركة، وتثبيت أصول الدِّين، خصوصاً ما يرتبط منها بالتوحيد والنبوَّة والإمامة، لِتَتجلّى حقيقةُ أنّ الهدف من «خَرْق السَّفينة» أن تَسْلَمَ لأهلها. بقاء الإسلام بإذن الله تعالى رَهْنُ موقف الإمام الحسن عليه السلام. ولِتَتجلّى كذلك  بعضُ أبعاد الحديث الشريف في تشبيه العقل، بالإمام الحسن.
أورد عددٌ من كبار المُحدِّثين عن رسول الله صلّى الله عليه وآله، أنّه قال: «.. ولَو كان الحِلْمُ رجلاً لكان عَلِيَّاً، ولَو كان العقلُ رجُلاً لكان حَسَناً، ولَو كان السَّخاء رجلاً لكان حُسَيْنَاً، ولَو كان الحُسْن شخصاً لكان فاطمة، بَلْ هيَ أعظم، إنَّ فاطمة ابنتي خيرُ أهل الأرض عُنصراً وشرَفاً وكَرَمَاً».
والحُسن هو المعنويُّ أولاً، ومعه المادِّيّ.

**

روى الشيخ الطوسي، هذه الخطبة في كتابه المعروف بـ (الأمالي) أو (أمالي الشيخ)، وأوردها بالسَّند التالي:
«أَخبرَنا جماعة، عن أبي المفضَّل، قال: حدّثنا أبو العبّاس أحمد بن محمّد بن سعيد بن عبد الرحمن الهمداني بالكوفة وسألته، قال: حدّثنا محمّد بن المفضل بن إبراهيم بن قيس الأشعري، قال: حدّثنا عليّ بن حسّان الواسطي، قال: حدّثنا عبد الرحمن بن كثير، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن جدّه عليّ بن الحسين عليهم السلام..» (الأمالي، الشيخ الطوسي،  ص 561 – 567)
ولا تُقلِّل بعض الثغرات في السَّند، خصوصاً ما وَرَد في المصادرالمُختصَّة حول أبي المفضَّل، وعبد الرحمن بن كثير، -لا تُقِّلل هذه الثغرات- من أهميّة عناية الشيخ الطوسي قدّس سرّه، بهذه الخطبة عناية فائقة جعلَتْهُ يختارها لمجالسه العلميَّة الخاصة، التي تَقع في سِياق ما يُعرف بـ «الأمالي» التي هي «أعلى مراتب التعليم، وكيفيّتُها أن يُملي العالم في مجلس أو عدَّة مجالس تُعقَد له في الجامع أو المدرسة على طَلَبة العلم ما توصَّل إليه في بحوثه وتحرِّياته فتُكتَب عنه»، لا سيَّما بملاحظة تطابُق مضمون الخطبة مع الثوابت.
نترك القارىء الكريم مع هذه الوثيقة الحَسَنيّة الخالدة، التي يجب العناية التامَّة بها، بعض وفاءٍ للسِّبط الأكبر إمام زمان الإمام الحسين بعد أمير المؤمنين عليهم جميعاً السلام.
وقد تمَّت إضافة عناوين فرعيَّة، لِفقرات الخطبة للتوضيح.

والحمد لله ربِّ العالمين
المركز الإسلامي، ومجلة «شعائر».

الوثيقة الحَسنيَّة الخالدة
خطبة الإمام الحسن عليه السلام  بعد «الصُّلح»
 برواية الشيخ الطُّوسي


عن الإمام السجَّاد عليِّ بن الحسين عليهما السَّلام:
«لمّا أجمعَ الحسنُ بن عليّ عليهما السلام على صُلح معاوية خرج حتى لقيَه، فلمّا اجتمعا قام معاوية خطيباً، فصعد المنبر ".." ثمّ تكلّم معاوية فقال: أيّها الناس هذا الحسنُ بن عليّ وابنُ فاطمة، رآنا للخلافة أهلاً، ولم يرَ نفسه لها أهلاً، وقد أتانا ليُبايِع طوعاً ".." فقام الحسن عليه السلام فَخَطَب، فقال:

* التوحيد

 ألحمدُ لله المُستحمَد بالآلاء وتتابُعِ النَّعماء، وصارِف الشَّدائدِ والبلاءِ عند الفُهماء وغير الفُهماء، المُذعِنين من عبادِه، لامتناعه بِجلالِه وكبريائه، وعُلُوِّه عن لُحوق الأوهام بِبَقائه، المُرتفِع عن كُنه طيّات (طيّات كُنه ظنانة) المخلوقين، من أنْ تحيط بِمَكنون غَيْبِه رويَّات عقول الرَّائين.

وأشهدُ أنْ لا إله إلَّا الله وحدَه في ربوبيّته وَوُجودِه ووَحدانيَّته، صَمَداً لا شريك له، فَرْداً لا ظهيرَ له.

*النبوّة 

 وأَشهدُ أنّ محمّداً عَبْدُه ورسولُهُ، إصْطَفاه وانتَجَبه وارْتَضاه، وبَعَثَه داعياً إلى الحقِّ سِراجاً مُنيراً، ولِلعباد ممّا يخافون نذيراً ولِما يأمُلون بشيراً،
 فنصح لِلأُمّة وصدَع بالرّسالة، وأبانَ لهم درجاتِ العمالة [أي العمل]، شهادةً عليها أُماتُ وأُحشر، وبها في الآجلة أُقَرَّبُ وأُحْبَرْ.


* أهل البيت عليهم السلام

وأقول: يا مَعشر الخَلائق فاسمَعوا، ولكُم أفئدةٌ وأسماع فَعُوا، إنّا أهلُ بيتٍ أكرَمَنا الله بالإسلام، واختارَنا واصطفانا واجْتبانا، فأَذهبَ عنا الرِّجس وطَهَّرَنا تطهيراً،
والرِّجسُ هو الشكّ، فلا نَشكّ في الله الحقِّ ودينِه أبداً، وطَهَّرَنا من كلِّ أَفَنٍ، وغَيَّة، مُخْلَصين إلى آدم، نعمةً منه، لم يَفترق الناس قَطُّ فرقتَيْن إلَّا جعلَنا الله في خَيْرِهما. فأدّت الأمورُ، وأَفْضَت الدُّهور إلى أنْ بَعَثَ الله محمّداً صلّى الله عليه وآله للنبوّة، واختارَه للرّسالة، وأَنزَل عليه كتاباً، ثمّ أمره بالدعاء إلى الله عزَّ وجلَّ.

*أمير المؤمنين عليه السلام

فكان أبي عليه السلام أوّلَ مَن استجاب لله تعالى ولرسوله صلّى الله عليه وآله، وأوّلَ مَن آمن وصدَّق اللهَ ورسولَه. وقد قال الله تعالى في كتابه المُنزَل على نبيِّه المُرسل: ﴿أَفَمَن كان على بيّنةٍ من ربِّه ويتلوه شاهدٌ منه..﴾ هود:17، فرسولُ الله الذي على بيّنة من ربِّه، وأبي الذي يَتْلوه، وهو شاهدٌ منه.

وقد قال له رسول الله حين أَمَرهُ أنْ يَسير إلى مكَّةَ والموسمِ بِبَراءة: سِرْ بها يا عليّ، فإنّي أُمِرتُ أن لا يَسير بها إلَّا أنا أو رجلٌ منّي، وأنتَ هو، فعليٌّ من رسول الله، ورسول الله منه.

وقال له النبيّ صلّى الله عليه وآله حين قَضى بينه وبين أخيه جعفر بن أبي طالب ومولاه زَيْد بن حارثة في إبنة حمزة: أمّا أنت يا عليّ فَمِنّي وأنا منك، وأنت وليُّ كلِّ مؤمن من بعدي، فَصَدَّق أبي رسول الله صلّى الله عليه وآله سابقاً وَوَقاه بِنَفسه. ثمّ لم يَزَل رسولُ الله في كلِّ موطن يُقدِّمه، ولِكلِّ شديدٍ يُراسله، ثقةً منه به وطمأنينةً إليه، لِعِلْمه بنصيحته لله ورسوله، وأنَّهُ أقرب المُقرَّبين من الله ورسوله.
 وقد قال الله عز وجل: ﴿والسّابقون السّابقون * أولئك المقرّبون﴾ الواقعة:10-11، فكان أبي سابقَ السّابقين إلى الله تعالى وإلى رسوله صلّى الله عليه وآله، وأقربَ الأقربين.
 وقد قال الله تعالى: ﴿..لا يستوي منكم من أنفق من قبلِ الفتح وقاتل، أولئك أعظم درجة..﴾ الحديد:10، فأبي كان أوّلَهم إسلاماً وإيماناً، وأوّلَهم إلى الله ورسوله هجرةً ولُحوقاً، وأوّلَهم على وُجْدِهِ وُوسعِهِ نفقةً.
 قال سبحانه: ﴿والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غِلّاً للذين آمنوا ربنا إنّك رؤوف رحيم﴾ الحشر:10.
 فالنَّاس من جميع الأُمم يَستغفرون له بِسَبْقِه إيّاهم إلى الإيمان بنبيِّه، وذلك أنَّه لم يَسبقْه إلى الإيمان به أحد، وقد قال الله تعالى: ﴿والسابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار والذين اتّبعوهم باحسان..﴾ التوبة:100، فهو سابقُ جميع السَّابقين، فكما أنّ الله عزَّ وجلَّ فضَّل السابقين على المُتخلِّفين والمُتأخِّرين، فكذلك فضَّل سابقَ السَّابقين على السَّابقين.
وقد قال الله تعالى: ﴿أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كَمَن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله..﴾ التوبة:19، فهو المجاهدُ في سبيل الله حقّاً، وفيه نزلت هذه الآية.

* الحمزة وجعفر، ونساء النبيّ، ومسجد النبيّ

وكان مِمَّن استجابَ لرسول الله صلّى الله عليه وآله عمُّه حمزة وجعفرُ ابنُ عمِّه، فقُتِلا شهيدَيْن رضِي الله عنهما، في قَتْلى كثيرة معهما من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله. فجعل اللهُ تعالى حمزة سيِّد الشهداء من بينهم، وجعل لجعفر جناحَيْن يطير بهما مع الملائكة كيف يَشاء من بينهم، وذلك لمكانِهما من رسول الله صلّى الله عليه وآله ومَنْزِلتِهما وقَرابَتِهما منه، وصلّى رسول الله صلّى الله عليه وآله على حمزة {بسبعين تكبيرة} من بين الشهداء الذين استُشهدوا معه.
وكذلك جعل الله تعالى لنساءِ النبيّ صلّى الله عليه وآله، للمُحسِنَةِ منهنّ أجرَين، وللمُسيئة منهنّ وِزرَيْن ضِعْفَينِ، لِمَكانهنّ من رسول الله صلّى الله عليه وآله.
وجعل الصلاة في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وآله بألف صلاةٍ في سائر المساجد إلّا مسجد الحرام، مسجدِ خليلِه إبراهيم عليه السلام بِمكَّة، وذلك لمكان رسول الله صلّى الله عليه وآله من ربِّه.

* الصلاة على محمّد وآل محمّد

وفرضَ اللهُ عزَّ وجلَّ الصلاة على نبيِّه على كافّة المؤمنين، فقالوا: يا رسول الله كيف الصلاة عليك؟ قال: قولوا: أللَّهمَّ صلِّ على محمّدٍ وآل محمّدٍ، فحقَّ على كلّ مسلمٍ أن يُصلّيَ علينا مع الصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وآله، فريضةً واجبة. وأحلَّ الله تعالى خُمسَ الغنيمة لِرسوله، وأَوْجَبها له في كتابِه، وأوْجَبَ لنا من ذلك ما أَوْجَبَ له، وحرَّم عليه الصدقة وحَرَّمها علينا معه، فأدخلَنا -وله الحمد- في ما أَدخل فيه نبيَّه صلّى الله عليه وآله، وأَخرجَنا ونزَّهَنا ممّا أخرَجَهُ منه ونَزَّههُ عنه، كرامةً أكرَمنا اللهُ عزَّ وجلَّ بها، وفضيلةً فضَّلنا على سائر العباد.

* آية المباهلة:

 فقال الله تعالى لمحمّدٍ صلّى الله عليه وآله حين جحدَه كَفَرَةُ أهلِ الكتاب وحاجُّوه: ﴿..فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين﴾ آل عمران:61، فأخرجَ َرسولُ الله صلّى الله عليه وآله من الأنفُس معَه أبي، ومن البَنين أنا وأخي، ومن النساء أُمّي فاطمة من الناس جميعاً، فنحن أهلُه ولحمُه ودمُه ونفْسُه، ونحن منه وهو منّا.

* آية التطهير

وقد قال الله تعالى: ﴿..إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً﴾ الأحزاب:33، فلمّا نَزَلَت آية التطهير جمعَنا رسول الله صلّى الله عليه وآله، أنا وأخي وأُمّي وأبي، فجلَّلَنا ونفسَه في كِساءٍ لأُمِّ سلمة خَيبريّ، وذلك في حُجْرتها وفي يومها، فقال: أللَّهمَّ هؤلاء أهلُ بيتي وهؤلاء أهلي وعِتْرتي، فَأَذْهِب عنهم الرِّجس وطهِّرهم تطهيراً. فقالت أمُّ سلمة رضي الله عنها: أَدخُلُ معهم يا رسول الله؟ قال لها رسول الله صلّى الله عليه وآله: يَرحمُكِ الله أنتِ على خَير، وإلى خَير، وما أرضاني عنك، ولكنّها خاصّةٌ لي ولهم.
 ثمّ مكث رسول الله صلّى الله عليه وآله بعد ذلك بقيّةَ عمرِه حتّى قَبَضَهُ الله إليه، يأتينا في كلِّ يومٍ عند طلوع الفجر فيقول: الصلاة يَرحمْكُم الله، إنّما يُريد الله لِيُذهب عنكم الرِّجسَ أهلَ البيت ويُطهِّرَكم تطهيراً.

* سدّ الأبواب إلا بابَه

 وأَمَر رسول الله صلّى الله عليه وآله بسدِّ الأبواب الشارعة في مسجده غيرَ بابنا، فكلَّموه في ذلك، فقال: أما إنّي لم أَسُدَّ أبوابَكم، ولم أفتح باب عليٍّ من تِلقاء نفسي، ولكنّي أَتَّبِعُ ما يُوحَى إليّ، وإنّ اللهَ أَمَرَ بسدِّها وفتحِ بابِه، فلم يَكُن من بعد ذلك أحدٌ تُصيبه جنابة في مسجد رسول الله، ويُولَد فيه الأولاد غير رسول الله صلّى الله عليه وآله وأبي عليّ بن أبي طالب عليه السلام، تَكرمةً من الله تبارك وتعالى لنا وفضلاً، إختصّنا به على جميع الناس. وهذا باب أبي قرينُ بابِ رسول الله في مسجده، ومنزلُنا بين منازل رسول الله صلّى الله عليه وآله. وذلك أنّ الله أَمَر نبيَّه أنْ يَبني مسجدَه، فَبَنى فيه عشرة أبيات، تسعةً لِبَنيه وأزواجه، وعاشِرها، وهو متوسّطها، لأبي، وها هو بسبيلٍ مُقيم، والبيت هو المسجد المُطهّر، وهو الذي قال الله تعالى: ﴿أهل البيت﴾، فنحن أهلُ البيت، ونحن الذين أَذهبَ اللهُ عنّا الرِّجس وطهَّرنا تطهيراً.

* وأنا ابن النبيّ النذير البشير، وابن عليٍّ وليِّ المؤمنين

أيُّها الناس، إنّي لو قُمتُ حولاً، أذكرُ الذي أعطانا الله عزَّ وجلَّ، وخَصَّنا به من الفضل في كتابه، وعلى لسان نبيّه صلّى الله عليه وآله لم أُحصِهْ، وأنا ابن النبيّ النَّذير البَشير والسِّراجِ المُنير، الذي جعلَه الله رحمةً للعالمين، وأبي عليٌّ عليه السلام وليُّ المؤمنين وشبيهُ هارون.

 وإنَّ معاويةَ بنَ صخرٍ زَعَمَ أنِّي رأيتُه للخلافة أهلاً، ولم أرَ نفسي لها أهلاً، فَكَذَب معاوية وَأَيْمُ الله، لَأنا أَولى النَّاس بالنَّاس في كتاب الله وعلى لسان رسول الله صلّى الله عليه وآله، غير أنّا لم نزل -أهلَ البيت- مَخِيفِينَ، مظلومين مُضطَهَدين، منذ قُبِضَ رسول الله. فاللهُ بيننا وبين مَن ظلمَنا حقَّنا، ونَزَلَ على رقابنا، وحَمَل الناس على أكتافنا، ومنعَنا سهمَنا في كتاب الله من الفيء والغنائم، ومنع أمَّنا فاطمةَ عليها السلام إرثََها من أبيها.

إنَّا لا نُسمِّي أحداً، ولكنْ أُقسِمُ بالله قَسَما تأَلِّياً، لو أنَّ النَّاس سَمِعوا قَوْلَ الله ورسولِه لأعطتْهم السماءُ قَطْرَها، والأرضُ بَرَكَتَها، ولَمَا اختلفَ في هذه الأمَّةِ سَيْفان، ولَأكلوها خضراءَ {نَضِرَةً} إلى يوم القيامة، وإذاً، ما طَمِعْتَ يا معاويةُ فيها. ولكنّها لمَّا أُخرجت سالفاً من معدَنِها، وزُحْزِحَتْ عن قواعدِها، تنازعَتْها قريشٌ بينَها وترامَتْها كَتَرامي الكُرَة، حتّى طمِعْتَ فيها أنتَ يا معاويةُ وأصحابُك من بعدك.

* لو وجدْتُ عليك أعواناً لجاهدتُك

 وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: ما وَلَّت أمّةٌ أمرَها رجلاً قَطّ، وفيهم مَن هو أعلمُ منه، إلَّا لم يزل أمرُهم يَذهب سِفالاً حتّى يَرجعوا إلى ما تَركوا. وقد تَرَكَت بنو إسرائيل، -وكانوا أصحابَ موسى عليه السلام- هارونَ أخاه وخليفتَه ووزيرَه، وعَكَفوا على العِجل، وأطاعوا فيه سامِرِيَّهُمْ، وهم يعلمون أنَّه خليفةُ موسى عليه السلام. وقد سَمِعَت هذه الأمَّة رسولَ الله صلّى الله عليه وآله يقول ذلك لأبي: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى، إلَّا أنّه لا نبيّ بعدي.

 وقد رأوا رسولَ الله صلّى الله عليه وآله حين نَصَّبه لهم بغدير خمٍّ وسَمِعوه، ونادَى له بالولاية، ثمَّ أمرهم أن يُبْلِّغَ الشاهدُ منهم الغائب، وقد خرج رسول الله صلّى الله عليه وآله حَذَراً من قومه إلى الغار، لمّا أجمعوا على أن يَمكروا به، وهو يدعوهم، لمَّا لم يجدْ عليهم أعواناً، ولو وَجد عليهم أعواناً لَجاهَدَهُم.

 وقد كَفَّ أبي يدَه وناشدهم واستَغاثَ أصحابَه، فلم يُغَـثْ ولم يُنْصَرْ، ولو وَجَد عليهم أعواناً ما أَجابهم، وقد جُعِل في سَعَةٍ كما جُعل النبيُّ صلّى الله عليه وآله في سَعة.

* وقد خذلَتْني الأمَّة وبايَعَتْكَ يا ابن حربْ

 وقد خَذَلَتْني الأمَّة وبايَعَتْكَ يا ابنَ حربْ، ولو وجدْتُ عليكَ أعواناً يُخْلِِصون ما بايعتُك، وقد جعلَ اللهُ عزَّ وجلَّ هارونَ في سعَةٍ حين استضعفَه قومُه وعادَوْه. كذلك أنا وأبي في سعَةٍ من الله حين تَركَتْنا الأمَّة، وبايعَتْ غيرَنا، ولم نَجِد عليه أعواناً، وإنما هي السُّنَنُ والأمثال يَتْبَعُ بعضُها بعضاً.

 أيُّها النَّاس، إنّكم لو التَمَسْتُم بين المشرق والمغرب رجلاً جدُّه رسولُ الله صلّى الله عليه واله، وأبوه وصيُّ رسولِ الله، لم تَجِدوا غيري وغيرَ أخي، فاتَّقوا اللهَ ولا تَضِلُّوا بعد البيان، وكيف بكم وأنَّى ذلك منكم، أَلَا وإنِّي قد بايعتُ هذا -وأشار بيده إلى معاوية- ﴿وإنْ أدري لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لكمْ ومَتاعٌ إلى حينْ﴾ الأنبياء:111.

* إيمان أبي طالب رضي الله عنه

 أيُّها الناس، إنَّه لا يُعاب أحدٌ بِتَرك حقِّه، وإنَّما يُعاب أن يَأخذ ما ليس له. وكلُّ صوابٍ نافع، وكلُّ خطأٍ ضارٌّ لأهله، وقد كانت القضيَّة فَفَهِمها سليمان فنفعت سليمان، ولم تضرَّ داود، فأمَّا القرابة فقد نَفَعَت المُشرك وهي والله للمؤمِن أَنفع، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله لعمِّه أبي طالب وهو في الموت: «قل لا إله إلَّا الله، أشفعْ لك بها يوم القيامة»، ولم يكن رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول له إلَّا ما يكون منه على يقين، وليس ذلك لأحدٍ من الناس كلِّهم غيرَ شيخِنا -أعني أبا طالب- يقول الله عزَّ وجلّ: ﴿وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك اعتدنا لهم عذابا أليماً﴾ النساء:18.
 
أيُّها الناس إسمَعوا وَعُوا، واتَّقوا الله وراجِعوا، وهيهات منكم الرَّجعة إلى الحقِّ، وقد صارَعَكُم النُّكوص، وخَامَرَكُمُ الطُّغْيانُ والجُحود، أَنُلْزِمُكُمُوها وأنتم لها كارِهون. والسلام على مَنِ اتَّبع الهُدى.

 فقال معاوية: والله ما نَزَل الحسن حتّى أَظلَمَتْ عليَّ الأرض، وهَمَمْتُ أن أَبطش به، ثمّ عَلِمتُ أنَّ الإغْضَاء أقرب إلى العافية».



.. كُنْتُم فِي مُنتَدَبِكُم إلى «صِفِّينَ» وَدِينُكُم أمامَ دُنياكُم ، وَقَدْ أَصْبَحْتُمُ الْيَوْمَ وَدُنْياكُم أَمَامَ دِينِكُم. 
الإمام الحسن عليه السلام 




اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

28/07/2011

  كتب أجنبية

كتب أجنبية

28/07/2011

نفحات