صاحب الأمر

صاحب الأمر

14/02/2018

التمحيص في زمن الغَيبة

 

..حتى لا يبقى منكم على هذا الأمر إلّا الأندر فالأندر

التمحيص في زمن الغَيبة

§      ابن أبي زينب النعماني*

 

إذا تأمّل مَن وهب الله تعالى له حسن الصورة، وفتح مسامع قلبه، ومنحه جودة القريحة، وأتحفه بالفهم وصحة الرواية بما جاء عن الهداة الطاهرين صلوات الله عليهم، على قديم الأيام وحديثها من الروايات المتصلة فيها، الموجبة لحدوثها، ".." علم أنّ هذه الغيبة لو لم تكن ولم تحدث مع ذلك ومع ما روي على مرّ الدهور فيها، لكان مذهب الإمامة باطلاً. لكنّ الله تبارك وتعالى صدّق إنذار الأئمّة عليهم السلام بها، وصحّح قولهم فيها في عصر بعد عصر، وألزم الشيعة التسليم والتصديق والتمسّك بما هم عليه، وقوّى اليقين في قلوبهم بصحّة ما نقلوه، وقد حذّر أولياء الله صلوات الله عليهم شيعتَهم من أن تميل بهم الأهواء، أو تزيغ بهم وبقلوبهم الفتن واللأواء في أيامها، ووصفوا ما يشمل الله خلقه به من الابتلاء عند وقوعها بتراخي مدّتها، وطول الأمد فيها ﴿..لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ..﴾ الأنفال:47.

فإنّه روي عنهم عليهم السلام ما حدّثنا به محمّد بن همام، قال: «..عن رجل من أصحاب أبي عبد الله جعفر بن محمّد عليهما السلام، أنّه قال: سمعته يقول: نَزلت هذه الآية التي في سُورةِ الحديد ﴿..وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ الآية:16، في أهلِ زمانِ الغَيبة، ثمّ قال عزّ وجلّ: ﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ الحديد:17.

وقال: إنّما الأمدُ أمدُ الغَيبة، فإنّه أراد عزّ وجلّ: يا أمّةَ محمّد، أو يا مَعشَرَ الشيعة، لا تكونوا كالذينَ أوتوا الكتابَ مِن قبل فطالَ عليهم الأمَدُ، فتَأويلُ هذه الآية جاءَ في أهلِ زمان الغَيبةِ وأيّامِها دون غَيرِهم من أهلِ الأزمِنة، وإنّ الله تعالى نَهى الشّيعةَ عن الشكِّ في حُجّةِ الله تعالى، أو أن يظنّوا أنّ الله تعالى يُخلي أرضَه منها طَرفةَ عينٍ، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام في كلامه لكميل بن زياد: بلى اللّهم لا تخلو الأرض من حجّةٍ لله إمّا ظاهرٍ معلومٍ، أو خائفٍ مَغمورٍ، لئلّا تبطل حجج الله وبيِّناتُه، وحذّرهم من أن يشكّوا أو يرتابوا فيَطول عليهم الأمَدُ فتَقسو قلوبُهم.

ثمّ قال عليه السلام: ألا تَسمع قولَه تعالى في الآية التالية لهذه الآية: ﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾، أي يُحييها الله بِعدلِ القائِمِ عند ظهوره، بعد موتِها بِجَورِ أئمّةِ الضّلال».

وتأويل كلّ آية منها مصدّق للآخر، وعلى أنّ قولهم صلوات الله عليهم لا بدّ أن يصحّ في شذوذ من يشذّ، وفتنة مَن يفتتن، ونكوص مَن ينكص على عقبيه من الشيعة بالبلبلة والتمحيص والغربلة "..".

والله لَتُمَحّصُنّ، والله لَتطيرنَّ

نذكر في هذا الموضع أحاديث لئلّا ينكر مُنكِر ما حدث من هذه الفرق العاملة بالأهواء، المؤثرة للدنيا، وهو ما أخبرنا به أحمد بن محمد بن سعيد بن عقدة الكوفي - وهذا الرجل ممّن لا يُطعن عليه في الثقة ولا في العلم بالحديث والرجال الناقلين له:

قال: «..عن مالك بن ضمرة، قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام لشيعته: كونوا في النّاسِ كَالنحلِ في الطَّيرِ، ليسَ شيءٌ من الطيرِ إلّا وهو َيستَضعِفُها، ولو يَعلم ما في أجوافِها لم يَفعلْ بها كما يَفعل، خالِطوا النّاسَ بِأبدانِكم، وزايِلوهم بِقلوبِكُم وأعمالِكُم، فإنَّ لِكلِّ امرئٍ ما اكتَسبَ وهو يوم القيامَة مع مَن أحبّ، أما إنّكم لنْ تَرَوا ما تُحبّون وما تأملونَ - يا معشرَ الشّيعة - حتّى يَتفلَ بعضُكم في وجوه بعضٍ، وحتّى يُسمّي بعضُكم بعضاً كَذّابين، وحتى لا يَبقى منكُم على هذا الأمرِ إلّا َكالكحلِ في العَين، أو كَالملحِ في الطّعام، وهو أقلُّ الزّاد. وسَأضربُ لكم في ذلك مثلاً، وهو كَمَثَلِ رَجُلٍ كان له طعامٌ قد ذَراهُ وغَربَلَهُ ونقّاه، وجَعَلَهُ في بيتٍ وأَغلَقَ عليه البابَ ما شاء الله، ثمّ فتَحَ البابَ عنه فإذا السُّوسُ قد وَقَع فيه، ثمّ أَخرجَه ونقّاهُ وذَراهُ، ثمّ جَعلَه في البيتِ وأَغلَقَ عليه البابَ ما شاءَ الله، ثمّ فتَح البابَ عنه فإذا السُّوسُ قد وَقَع فيه، وأَخرجَهُ ونقّاهُ وذَراه، ثمّ جَعلَهُ في البيتِ وأَغلَقَ عليه البابَ، ثمّ أَخرجَهُ بعدَ حينٍ فَوجَدهُ قد وَقَعَ فيه السُّوسُ، ففَعلَ بِه كما فَعلَ مِراراً حتَى بَقِيَت منهُ رزمةٌ كَرزمةِ الأندر، الّذي لا يضرُّه السُّوسُ شيئاً، وكذلكَ أنتُم تُمَحِّصُكُم الفِتَنُ حتى لا يَبقى إلّا عصابةٌ لا تَضرُّها الفِتَنُ شيئاً».

وروي عن أبي عبد الله عليه السلام، أنّه قال: «والله لَتمحّصُنّ، والله لَتطيرنَّ يميناً وشمالاً حتّى لا يبقى منكُم إلّا كلّ امرئٍ أخَذَ الله ميثاقَه، وكتبَ الإيمانَ في قلبِه، وأيَّدَه بِرَوحٍ منه».

وفي رواية أخرى، عنهم عليهم السلام: «حتّى لا يَبقى منكُم على هذا الأمرِ إلّا الأَندَر فالأندر». وهذه الجماعة التي تبقى على هذا الأمر وتثبت وتقيم على الحقّ هي التي أُمرت بالصبر في حال الغَيبة.

فمن ذلك، ما أخبرنا به ".." عن بريد بن معاوية العجلي، عن أبي جعفر محمّد بن علي الباقر عليه السلام، في معنى قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ آل عمران:200، قال: «اصبِروا على أداءِ الفَرائِض، وصابِروا عَدوَّكم، ورابِطوا إمامَكم المنتَظَر».

قال أمير المؤمنين عليه السلام (في حديثٍ طويل): «..أيُّها النّاس، مَنْ سَلَك الطريقَ وَرَدَ الماءَ، ومَن حادَ عنه وَقعَ في التِّيه..».

وفي قوله عليه السلام بيانٌ شافٍ لمَن تأمّله، ودليلٌ على التمسّك بنظام الأئمّة، وتحذيرٌ من الوقوع في التِّيه بالعدول عنها والانقطاع عن سبيلها، ومن الشذوذ يميناً وشمالاً، والإصغاء إلى ما يزخرفه المفترون المفتونون في دِينهم من القول الذي هو كالهباء المنثور وكالسراب المضمحلّ، كما قال الله عزّ وجلّ: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ العنكبوت:2-3.

 

___________________________

* من كتابه (الغَيبة) ص 30-36 باختصار يسير

اخبار مرتبطة

  إصدارات عربية

إصدارات عربية

  سنن وآداب

سنن وآداب

نفحات