فكرٌ ونظر

فكرٌ ونظر

14/02/2018

مدرسة عظمى في البيان والبلاغة والتخلُّق

 

أثر (الصحيفة السجّادية) في الثقافة المصرية المعاصرة

مدرسة عظمى في البيان والبلاغة والتخلُّق

ـــــــــــــــ إعداد: السيد محمّد مهدي الخرسان* ـــــــــــــــ

 

من خير ما قرأت حول أدعية (الصحيفة السجّادية) ما كتبه بعض الأعلام المصريين، وهم من حمَلة الشهادات العالية، فقد أخذوا إعجاباً بما حوته تلك الإضمامة العبقة بطِيب نشْرها الفوّاح، ورأوها من خير وسائل الصلاح والإصلاح، فمنهم من كتب عنها مستوحياً منها ما ينفع الناس، كما صنع الشيخ طنطاوي جوهري، ومنهم من استوحى فلسفة الإمام عليه السلام منها، كما فعل الأستاذ أحمد محمّد جمعة الأبيوقي، ومنهم من سجّل خواطره عنها كما فعل الأستاذ محمّد كامل حسين.

وآثار هؤلاء الثلاثة نشرتها (مجلة الرضوان) الهندية في سنتيها الثالثة والرابعة، ونظراً لعدم تيسّر الاطلاع عليها لجميع القرّاء، آثرت نشرها نقلاً عنها على الترتيب المتقدّم عند ذكرهم.

 

 

الشيخ طنطاوي جوهري (مفسِّر وفيلسوف توفّي سنة 1940م)

لقد أطلعني ابننا الشاب الهندي الطالب بالجامع الأزهر الشريف على كتاب فيه أدعية وابتهالات وتضرّعات منسوبات إلى الإمام عليٍّ زين العابدين (عليه السلام)، وهذا الطالب هو المجتبى حسن من المجدّين في طلب العلم الذين أحرزوا شهادات قيّمة في الهند، وهو الآن يحضّر للدكتوراه في الجامع الأزهر الشريف في علم الفلسفة وعلم التاريخ. وقد طلب منّي أن أنظر فيها وأستنتج ما يكون فيه نفعٌ لأُمّة الإسلام، فتأمّلت فيها مليّاً، وفكّرت فيما احتوت عليه فهالني الأمر، وعظمت آثار هذه التضرّعات في نفسي، وقلت: يا ليت شعري كيف تجاهل المسلمون هذه المآثر، وكيف ناموا قروناً وقروناً وهم لا يشعرون أنّ هناك علماً جمّاً، وكنوزاً ادّخرها الله لهم، ومواهب خزَنها لهم؟....

وأدعية الكتاب قسمان؛ تخلية وتحلية: قسم سلبيّ وقسم إيجابيّ، وبعبارة أُخرى وجدتُ هذه الأدعية موضوعة بهيئة رمزية عجيبة، بحيث إنّ ما كان منها للندم، والتوبة، والخشوع، والخضوع، ودفع النوائب، ورفع المظالم، والشفاء من الأمراض، قد جاء أكثره في أوائل الكتاب.

وما كان من الأدعية فيه إعظامٌ بجلال الله، وتعجّبٌ من صُنعه وإحكام تدبيره، والاحتجاج بمصنوعاته، فإنّ ذلك أكثره في أواخر الكتاب، الله أكبر! أليس هذا من العجب... فالحقيقة التي لا مراء فيها أنّ أحوال الناس في الدنيا لا تعدو أمرين اثنين: الأمر الأوّل التخلية عن النقائص، والأمر الثاني التحلية بالفضائل، والفوز بالمعارف والعلوم الشريفة المكملة للنفس الناطقة بعد طهارتها لتنال القرب من ربّها، وذلك بالنظر في هذه العوالم المصنوعة صنعاً متقناً، حار فيها الأوّلون وحار فيها الآخرون...

... اللّهمّ إنّ هذا القرآن هو كتابك، وهذه الأدعية هي القولُ المأثور عن سيّدٍ من سادات آل البيت، اتفق يا ربّاه القولان؛ القولُ المنزل من السماء والمقام الأقدس، والقول الّذي صدر عن صدّيقٍ من صدّيقي آل البيت الكرام. فها أنا ذا يا ربّ أُعلن هذا على رؤوس الأشهاد في الهند وفي بلاد الإسلام...

د. أحمد الأبيوقي (كلية الشريعة الإسلامية)

السياسة الحازمة والخطة الحكيمة في تهذيب النفوس، وتربية الشعوب، وقيادة الأُمم، وتكوين الخُلق الفاضل، فلسفة جديدة، وطريقٌ مبتكر في علم التربية لـ«عليٍّ زين العابدين» عليه السلام.

لله درّ هذا الإمام الربّانيّ، والغالب الروحانيّ، والمربي الأخلاقيّ الذي يسوس نفوس البشر وقلوب الأُمم، ويأخذ بيد الأجيال من مبدأ عشرين قرناً إلى أن تعود الخليقة إلى دائرة الفناء، يأخذ بأيديهم فيسلك بهم سبيل الحياة الحقة، ويجنّبهم ضيق العيش، وعبث الطيش، ويُفهمهم معنى الحياة، وقيمة العمر، وعزّة هذا الزمان.... بلاغةٌ في تصوّف، وأدبٌ في ضراعة، وسحرٌ في عبودية، ودرايةٌ بصنوف البيان وضروب البديع.

إبطال مذهب شائع

توافقت طوائف كثيرة من الأُمة الإسلامية على رأيٍ شنيع، ومذهبٍ داحض، ذلك قولهم بأنّ الإنسان مجبَرٌ في أقواله وأفعاله، مقهورٌ بإرغام الله تعالى له على الخير والشرور والآثام، وعضدوا ذلك بواهي الدليل، وزائف البرهان، وغلبت عليهم شقوتهم، وأفعموا بسيل الجدل حتى وقعوا في حبائل نسبة الإرغام والإلزام إلى الذات الأقدس، فهم يريدون أن يرتكبوا القبائح والشرور في ظلّ تلك التعاليم، ولَعمري إنّه مذهبٌ يملأ الأرض فساداً، ويُفني نظام الكون.

فجاء زين العابدين عليه السلام واخترق بنافذ بصيرته الملهمة حجبَ الأحداث المستقبلة، ونظر بعين الحقّ ما ستره الغد المتجهّم الكتوم، فقوّض بناء هذا الإلحاد، وقصم ظهر الباطل بسيف الحقّ الباتر، وقرّر ما لله من الكمال والنزاهة والعدل والفضل؛ فهو يقول: «.. فَكُلُّ البَرِيَّةِ مُعْتَرِفَةٌ بِأَنَّكَ غَيْرُ ظَالِمٍ لِمَنْ عَاقَبْتَ، وشَاهِدَةٌ بِأَنَّكَ مُتَفَضِّلٌ عَلَى مَنْ عَافَيْتَ، وكُلٌّ مُقِرٌّ عَلَى نَفْسِه بِالتَّقْصِيرِ عَمَّا اسْتَوْجَبْتَ، فَلَولَا أَنَّ الشَّيْطَانَ يَخْتَدِعُهُمْ عَنْ طَاعَتِكَ مَا عَصَاكَ عَاصٍ، ولَولَا أَنَّه صَوَّرَ لَهُمُ الْبَاطِلَ فِي مِثَالِ الحَقِّ مَا ضَلَّ عَنْ طَرِيقِكَ ضَالٌّ ".." فَتَبَارَكْتَ أَنْ تُوصَفَ إِلَّا بِالإِحْسَانِ، وكَرُمْتَ أَنْ يُخَافَ مِنْكَ إِلَّا الْعَدْلُ، لَا يُخْشَى جَوْرُكَ عَلَى مَنْ عَصَاكَ، ولَا يُخَافُ إِغْفَالُكَ ثَوَابَ مَنْ أَرْضَاكَ...».

د. محمّد كامل حسين (طبيب ومفكّر، توفّي سنة 1977)

.... إنْ كنّا نعمل كما عمل الإمام عليّ عليه السلام بأنْ طلّق الدنيا ولم يأبه بما فيها من زينة حياتها، بل لو كنّا نقول كما قال: «يا دنيا.. غُرّي غَيري» كان للإسلام شأنٌ آخر غير هذا الشأن، ولكان المسلمون الآن في مجدٍ لا يضارعه مجد، ولكن شهوة الدنيا والحرص عليها صرفت المسلمين عن مقصد الإسلام الأسمى، وأبعدتهم عن حقيقة التوحيد والإيمان، فافترقوا شِيعاً وأحزاباً متطاحنة متضاربة، فذلّ المسلمون بعد عزّ، وضعفوا بعد قوّة...

ذكرت هذا كلّه وأنا أُقلّب بين يديّ كتاباً صغير الحجم، نفيس القيمة، يجمع بعض أدعية مولانا الإمام زين العابدين، وكنت أرجو أن أكتب عن هذه الأدعية وما فيها... ولكن أنّى لي بالكلمات التي تُسعدني بوصف شعوري حينما قرأت هذه الآيات البيّنات التي يقف اللّسان عندها عاجزاً، ويضطرب العقل حائراً، ويرتجف القلم بين الأنامل، فلا يستطيع أن يخطّ حرفاً واحداً بعد أن عهد فيه الانثيال.

هنا فقط أعترف بالعجز عن الكتابة والقصور في التعبير خشية التقصير في إيفاء الموضوع حقّه، فإنّ وصف شعوري وما اعتراني عند قراءتي أدعية عليّ السجّاد عليه السلام لَفوق طاقتي، و﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا..﴾. (البقرة:286)

ولكنْ خطر لي شيءٌ آخر؛ هو أنّي رأيت الكتّاب والأُدباء ومؤرّخي الأدب، قد اتّجهوا إلى دراسة تراث الأقدمين من شعرٍ ونثر... ونراهم قد تركوا أمثال هذه الأدعية التي تُعدّ من آيات البيان العربيّ، لأنّها صادرة عن نفس نقيّة صافية هي نفس الإمام تخاطب المولى عزّ وجلّ، فهي أثرُ شعورٍ فاض من الله تعالى على عبده، وتوجّه بها عبدُه إلى الله تعالى، ففي هذه الأدعية الدينية مثلٌ أعلى لوحي الدين وإلهام التّقى، أو نداء الورع، نجد فيها ألحاناً عذبةً محبّبة إلى النفوس يلذّ وقْعها في الآذان، ويستمع القلب إلى معانيها الخلاّبة وألفاظها الجزلة، فيهتزّ لها طرباً ويخشع لها متعبّداً، أُنظر إلى عليٍّ زين العابدين عليه السلام يمجّد ربّه فيقول: «الحمدُ للهِ الّذي تجلّى للقلوبِ بالعظَمة، واحتجبَ عن الأبصارِ بالعزّة، واقتدرَ على الأشياءِ بالقدرة، فلا الأبصارُ تَثبتُ لرؤيته، ولا الأوهامُ تبلغُ كُنْهَ عظَمتِه، تجبّرَ بالعظَمة والكبرياء، وتعطَّفَ بالعزّ والبرِّ والجلال، وتقدّسَ بالحُسن والجمال، وتَمجّدَ بالفخرِ والبهاء..».

فهل تجد في البيان العربيّ سحراً أكثر من هذا البيان، وقولاً أبلغ في النفس من هذه الألفاظ الجميلة، والمعاني الجليلة التي تشفي لبان الصدور وترقى بالنفس إلى المراتب العليا - التي لا تبلغها إلا النفوس الصافية النقيّة - من أدران الحياة الدنيا.

هذا هو الأدب الدينيّ الذي تتذوّقه القلوب فتخرّ خاشعة، تسمعه الأُذن فتترنّم بنغماتها، ويقبله العقل فيسبح في ملكوتٍ غير هذا الملكوت، ومع هذا كلّه انصرف الناس إلى بديع الزمان، والحريري، وإلى أبي نؤاس، والمتنبي، وشتّان بين الأدب الديني وأدب هؤلاء، فالفروق شاسعة من جهة اللفظ، ومن جهة المعنى، ومن جهة الصبغة الأدبية نفسها، فليتّجه الأُدباء إلى هذه الناحية الأدبية الجليلة، فيجدون مغنماً وكنزاً دفيناً.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* مقدمة كتاب (حاشية ابن إدريس على الصحيفة السجادية)، من إصدارات التعبة العلوية المقدسة 2008م، والنصوص الواردة أعلاه مختصرة

 

اخبار مرتبطة

  إصدارات عربية

إصدارات عربية

  سنن وآداب

سنن وآداب

نفحات