الملف

الملف

13/04/2018

المهديّ المنتظَر

 

المهديّ المنتظَر

آخر أوصياء رسول الله صلّى الله عليه وآله


استهلال

خليفة الله في الملك والملكوت

الحكومة العالمية الواحدة

الشيخ حسين كوراني

المهدويّة والأصول الخمسة

إدريس هاني

«الولاية» بين القرآن وفلسفة التاريخ

محمود حيدر

 
 

 

خليفةُ الله في المُلك والملكوت

«خاتَمُ الولاية المحمّدية، ومقبضُ فيوضات الأحمدية الذي يظهر بالربوبية بعدما ظهر آباؤه، عليهم السلام، بالعبودية، فإنّ العبودية جوهرةٌ كُنهها الربوبية.

خليفةُ الله في المُلك والملكوت، وإمام أئمّة قُطّان الجَبَروت، جامعُ أحَدية الأسماء الإلهية، ومَظهر تجليّات الأوّلية والآخرية، الحجّةُ الغائبُ المنتظَر، ونتيجةُ مَن سلفَ وغَبَر، أرواحنا له الفداء، وجعلنا اللهُ من أنصاره».

(من إجازة الإمام الخميني الفلسفية للميرزا جواد الهمداني

عام 1354 هجري قمري، صحيفه نور:

ج 1، ص 4 – 6، والنص في الأصل بالعربية)

 

 

 

الحكومة العالمية الواحدة

§      الشيخ حسين كوراني

* «الحكومة العالمية الواحدة: المناخات المؤاتية» هو عنوان بحثٍ قدّمه سماحة العلامة الشيخ حسين كوراني إلى «ملتقى الإمام المهديّ عليه السلام»، والذي أُقيم في مدينة مشهد الإيرانية في شهر ذي الحجّة من سنة 1424 هجرية، وتتضمّن المقالة أدناها فقراتٍ منه.

يستهلّ سماحته هذا البحث بالحديث عن «دَحْو الأرض» من تحت الكعبة المشرّفة باعتباره الحدَث المفتتَح لعالم الدنيا وما ستشهدها «البسيطة» من تقلّب بني البشر في أودية التّيه بحثاً عن الطريق القويم، وصولاً إلى حيث تُفضي بها الشقاوة المستديمة إلى الإذعان بحقّانية دعوات الأنبياء، فتنشد خلاصها على يدَي وارث النبوّات والوليّ الخاتم. ويلفت سماحته في السِّياق إلى أن العناوين الفكرية والثقافية المطروحة اليوم على مستوى العالم، لا تعدو كونها تطفّلاً بشرياً متأخّراً على المشروع الإلهيّ الذي حمله إلى الإنسانية الأنبياء وأوصياؤهم.

«شعائر»

 

 

تكشف النظرة الشمولية في مسيرة النبوّات أن من أبرز ثمراتها البعيدة والنهائية إقامة الحكومة العالمية الموحّدة، بل يُعتبر ذلك من أوضح ما ينتج عن استحضار أخْذ العهد على النبيّين بالاعتقاد بنبوّة النبيّ الخاتَم، وبشاراتهم به، وادّخار نبيّ الله عيسى لنصرة خاتم أوصيائه.

وبناءً عليه، فإن موقع الحكومة العالمية الواحدة من منظومة الرؤية الكونية التوحيدية، هو موقع أوان الثمرة من الشجرة... ومن اللافت جدّاً أن النصّ الدينيّ يتحدّث عن نقطة واحدة هي «مكّة» و«البيت الحرام» بالخصوص، بل وجوار الكعبة، ويقدّم هذه النقطة منطلقاً لحدثَين عالميّين هما «دَحْو الأرض»، و«الحكومة العالمية»، على يد المهديّ المنتظَر صلوات الله تعالى وسلامه عليه، ويحمل ذلك – في ما يحمل – الإشارة إلى أن هذه البداية بدَحْو الأرض تبلغ ذروتها مع هذا الحدث العالميّ؛ بدءِ إعلان الحكومة العالمية الواحدة.

 

دورة الزمن الضرورية

لم يكن أيّ نبيّ من الأنبياء يأمل بتحقيق كلّ ما يصبو إليه في زمنه، بل كان كلُّ هَمّ النبيّ السابق أن يؤسّس للنبيّ الذي يأتي بعده، وكان حلم الجميع أمرين:

1) ظهور الدين الخاتم الذي يقدّم للبشرية الرؤية التوحيدية الأكمل.

2) كما كان حلم الجميع أن يطوي الزمن الدورة الضرورية لبلوغ الرشد البشريّ كماله الذي يمكّن من إقامة الحكومة العالمية الواحدة على يد آخر وصيّ لآخر نبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وجميع الأنبياء.

والمقصود بدورة الزمن الضرورية، هو أن هذه الخطوط العريضة المتقدّمة والعناوين الرئيسة المرتبطة بها، وإنْ كانت قد طُرحت على يد الأنبياء منذ القِدم، إلا أن تفاعل الناس معها على أوسع نطاق، وإدراك مدى أهميتها بجذرية وعمق، وتحوّلها إلى مطلب بشري عالمي شديد الإلحاح، يحتاج – ذلك كلّه - إلى وقت طويل يخوض فيه هذا الإنسان الذي شاءه الله تعالى مختاراً، تجارب مريرة بسوء اختياره، تؤدّي به في النهاية إلى العودة بقناعة ووعي إلى الحقيقة النبوية التي كانت في متناوله منذ الانطلاقة، إلا أنه أعرض عنها ونأى بجانبه.

وعندما نتأمل في ما حفل به تاريخ البشرية في التعامل مع النصّ الديني، الذي حمل إلى البشرية الخطوط العريضة لحركة النبوّات، كما حمل العناوين الرئيسة المرتبطة بها، فإننا سنجد بكلّ جلاء، أن الدنيا بكلّ عصورها والقرون، هي المدى الذي لا بد منه لبلوغ البشرية مرحلة متقدّمة في فهم الخزين المعرفي الكامن في هذا النصّ، والالتزام العملي به.

ولا ينافي ذلك أن يتمكّن بعض الناس في كلّ عصر من التفاعل مع الحقائق بدرجة متقدّمة على عصرهم، فالحديث هنا عن تحوّل التفاعل مع الخزين المعرفي الذي يحمل النصُّ المعصوم رسالته، إلى حالة عامة مستقرّة.

وفي هذا السياق يقع التدرّج في الرسالات السماوية، وصولاً إلى خاتمتها المتمثّلة في الإسلام، ووصولاً بعد ذلك إلى مرحلة ﴿.. لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ..﴾ (التوبة:33)، وتحقّق العولمة الحقيقية، بقيام حكومة العدل العالمية.

ولتوضيح فكرة التدرّج هذه، يكفي استحضار ما بذلته البشرية من جهود فكرية دؤوب ومعاناة وعذاب ودماء، لإدراك قيمة الحرية - مثلاً - ومع ذلك فالبشرية اليوم تعاني من الظلم والاستبداد، ما يكشف عن الحاجة إلى المزيد من بلورة مفهوم الحرية نظرياً، بالإضافة إلى جهود مضنية لتثبيتها في الواقع العملي.

إن معنى كون الإنسان مخلوقاً مختاراً هو أن يُترك له سلوك النَّجْد الذي يريد، وهو في علم الله تعالى سيخبط خبْط عشواء ويذهب في دروب الضلال بعيداً، إلا أنه في النتيجة سيكتشف بملء اختياره أن الخلاص والسعادة في ﴿هُدَى الله﴾ الذي أعرض عنه، فكانت معيشته ضَنْكاً.

وقد اقتضت رحمة الله تعالى بالإنسان أن يقدّم له – بالإضافة إلى القانون بنُسَخه المتعددة، ثم بنسخته النهائية - النماذج الفريدة في الحكم ليكون في متناوله أن يقارن بينها وبين ما يصبو إليه، وفي هذا السياق كانت نماذج الحكم على عهد نبيّ الله سليمان، والنبيّ الأعظم، وسيّد أوصيائه أمير المؤمنين، واحات الضوء في عالم الحكم المظلم، تشير للأجيال أن تصبو إليها وتحلم بمثيلاتها.

وحيث إن البشرية ستصل في النهاية إلى وعي هذه الحقيقة وإدراكها بعمق، فقد ادّخر الله سبحانه آخر وصيٍّ لآخر نبيّ صلّى الله عليه وآله ليرعى هذه الحالة في مراحل نموّها وتطورها، ويقود زمام البشرية عند اكتمال دورة الزمن الضرورية، ويتولّى ترشيدها وتحقيق أهدافها، كما ادّخر نبيّه عيسى عليه السلام الذي تمسّ الحاجة إلى وجوده لكثرة أتباعه الذين ضلّوا السبيل.

حركة الفكر والثقافة العالميّين

عندما يكون الحديث عن الفكر والثقافة، فلا بد من الخروج من كلّ دوائر جذب الأخطبوط المالي والسياسي والعسكري الذي يصوِّر العالم بسهولة رقيقاً للقطب «الأوحد» الأمريكي وملك يمينٍ له يتصرّف به كيف شاء.

إنها الضحالة التي يربأ المفكّر بنفسه عن السقوط في وَهْدتها. وهي، بعدُ، الظاهر الذي يحترم المفكّر نفسه فيغوص في الأعماق بعيداً عنه.

ينبغي أن نرصد بموضوعية وتبصّر ما سيؤول إليه أمر العالم، متسلّحين بوعيٍ منطقيّ للتجارب التي ازدحمت في التاريخ البشري حتى وصلت إلى ما يملأ ضجيجه عالمَ اليوم.

سنهتدي بيُسر إلى الحقيقة التي تملأ آفاق النفس والوجود: أمريكا إلى زوال، وكلّ التفرعن والتمرّد والطغيان مندثرٌ، ولو بعد حين.

ولا تقودنا إلى ذلك ما يحلو لبعض القشريّين من تسميته «طوباوية النصّ الديني» واعتماد نفس «منهجية» إدارة جورج بوش – الأب والإبن - في الصدور من أصولية دينية تعتمد الإسقاطات التاريخية لتصوغ الحاضر والمستقبل على أساسها. بل يقودنا إلى ذلك ثلاثة عوامل:

الأول: فقه صعود الدول وسقوطها.

الثاني: القراءة المتأنية في تراكم الخزين المعرفي البشري عبر القرون، والتأمل بأناة في نتائجها الفكرية والثقافية التي بلغتها، وكذلك في مآل الحركة التصاعدية والرسم البياني لهذه النتائج.

الثالث: المقارنة الموضوعية بين ما بلغه الراهن الفكري والثقافي على مستوى العالم، وبين الخطوط العريضة، والعناوين الرئيسة لحركة النبوّات.

وفي ما يلي موجز في ذلك:

يتميّز عصرنا الحاضر - رغم السلبيات - بالحديث عن خصائص بالغة الأهمية، لم يشهد تاريخ البشرية تداولاً لها وتظهيراً على نطاق واسع وبهذا المستوى. من هذه الخصائص:

1) قيمة المعرفة.

2) حقوق الإنسان.

3) الحريات.

4) القانون.

5) وأخيراً: العولمة.

وما أرمي إليه بالتحديد هو وفرة طرح هذه القيم أفقياً، وتنامي التعلّق بها والتوق إليها في أرجاء المعمورة.

يتّضح إذاً، أنني أستثني صوابية المنطلقات الفكرية التي تصدر منها هذه الطروحات، كما أستثني صوابية المقاربة، فضلاً عن الرائج بقوّة من اتّخاذ هذه الطروحات ستاراً لنوع آخر من الهيمنة والاستعمار أكثر دموية، وأشدّ افتراساً، كما يجري الآن بعد أحداث الحادي عشر من أيلول.

ولدى التأمل العلمي المتأني في هذه العناوين، ودراستها بموضوعية، نجد أنها محاور أساسية في النصّ المعصوم، يُعمل على تجذيرها منذ أول نبيّ وإلى يومنا هذا، وهي تشكّل العمود الفقري لمشروعه المستقبلي في إقامة الحكومة العالمية الواحدة والعادلة.

كما نجد أنها تشكّل الترجمة غير المنقّحة للخطوط العريضة لحركة النبوّات وللعناوين الرئيسة الواقعة في سياقها والمدى.

المهديّ الغوث، والمنقذ، والمنجي

في هذا السياق ينبغي أن تُدرس الروايات التي تتحدّث عن ظهور «المهديّ المنتظَر» الذي أجمعَ المسلمون على حتمية ظهوره عجّل الله تعالى فرجه الشريف. وسنجد بكلّ وضوح أن الروايات حين توضَع في هذا المناخ تكشف عن الترابط بين الماضي والحاضر والمستقبل، لتقدّم لنا مشهداً كونياً واحداً وواعداً.

كما سنجد أن التفاصيل الكثيرة التي نغرق فيها فتحجب رؤيتنا عن النظرة الشمولية، تنتظم جميعاً في المشروع الربانيّ الواحد الذي يُظهر أن المؤمنين وأتباع الدين القويم في صُلب هذا المشروع، وأن كلّ المعرضين عن الهدى الإلهي، متطفّلون على العمود الفقري للمسيرة البشرية، غرباء عن هذا المشروع الماضي قُدماً مهما تجاهلوه وتنكّروا له، وأن أولى الناس بتحقيق سعادة البشرية والعمل لخدمتها هم أولى الناس بهذا البيت الذي بدأ دَحْو الأرض من تحته، وسيأتي اليوم الذي تعود فيه الأمور إلى نصابها، وتوضع فيه النقاط على الحروف:

- ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾. (الأنبياء: 105)

- ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾. (القصص:5)

وعلى هذا الأساس، فلنتأمّل النصوص التالية:

1) حول اكتمال دورة المعرفة البشرية، وبلوغها الذروة، يقول الإمام الصادق عليه السلام:

‌أ) «العلمُ سبعةٌ وعشرون جزءاً، وجميعُ ما جاءت به الرسُل جزءان، فلم يعرف الناسُ حتّى اليوم غير الجزءين، فإذا قامَ القائمُ أخرج الخمسةَ والعشرين جزءاً فبثّها في الناس، وضَمّ إليها الجزءين حتّى يبثّها سبعةً وعشرين جزءاً». (خرائج الراوندي: 2/841، ح 59)

‌ب) «إذا قامَ قائمُنا وضعَ اللهُ يدَه على رؤوسِ العباد؛ فجمع بها عقولَهم وكَمُلَت به أحلامُهم».

(الكافي: 1/25، ح 21)

أما «قيمة المعرفة»؛ فإن حضورها في النصّ المعصوم في مراحل ما قبل الخلق والهدف منه، وما بعده، وعلى يد كلّ معصوم، بما لا يدع مجالاً للشكّ في أن البشرية لم تعرف المعرفة ولا قيمتها إلا بتعليم المعصومين.

2) وحول حقوق الإنسان و مطلق الحقوق، التي هي المحور في النصّ الديني وفي حركة دولته العالمية، على يد المهديّ المنتظَر عليه السلام، هذه بعض الإشارات السريعة.

‌أ) ‌ورد في وصف الإمام المهديّ أنه: «يدعو إلى الحقّ». «إمامُ الحقّ». «قائمُ الحقّ». وقد وُصفت دولته بـ«دولة الحقّ».

‌ب) ورد في زيارته عليه السلام: «اللّهُمّ فأَحِي بوليّك القرآن، وأرِنا نوره سرمداً لا ليلَ فيه، وأحِي به القلوبَ الميتة، واشفِ به الصّدورَ الوَغِرة، واجمَعْ به الأهواءَ المختلفةَ على الحقّ، وأقِم به الحدود المعطّلةَ والأحكامَ المهملة، حتى لا يبقى حقٌّ إلا ظَهَرَ ولا عدلٌ إلا زَهَر». (مصباح المتهجّد للطوسي: ص 415)

‌ج) يقول الإمام العسكريّ مخاطباً الإمام المهديّ عليهما السلام: «تهتزُّ بك أطرافُ الدنيا بهجةً، وتنشرُ عليكَ أغصانُ العزّ نضرةً، وتستقرّ بواني الحقّ في قرارها، وتؤوب شواردُ الدّين إلى أوكارها..». (كمال الدين للصّدوق: ص 450)

3) وحول العدالة والحريات، وهما صُلب حقوق الإنسان، يكفي ما اشتهر حدَّ التواتر والقطع: «يملأُ الأرضَ قِسطاً وعدلاً، كما مُلئتْ ظلماً وجَوراً..»، وقد ورد في بعض المصادر بصيغة «يملأ الدنيا». وثمة وفرة نصوص في هذا المجال المركزيّ، منها:

‌أ) «..ويسوّي بين الناس حتّى لا ترى محتاجاً». (البحار: 52/390)

‌ب) «..نادى منادٍ من السّماء: ألا أيّها الناس، إنّ اللهَ قطعَ عنكم مدّة الجبّارين والمنافقين وأشياعهم».

(ملاحم ابن طاووس، ص 287)

‌ج) «...ووَضعَ ميزانَ العدلِ بين النّاس، فلا يظلمُ أحدٌ أحداً». (كمال الدين للصّدوق، ص 372)

‌د) «..قَسَمَ بالسّوِيّة وَعَدَلَ في الرَّعِيّة». (الغَيبة للنعماني، ص 243)

4) وحول القانون: «..يستخرجُ التوراةَ وسائرَ كُتبِ اللهِ عزّ وجلّ [الأصلية] من غارٍ بأنطاكية، ويحكمُ بينَ أهلِ التّوراةِ بالتّوراة، وبينَ أهلِ الإنجيلِ بالإنجيل، وبينَ أهلِ الزَّبور بالزَّبور، وبينَ أهلِ القرآنِ بالقرآن».

(الغَيبة للنعماني، ص 243)

وليلاحظ، أن هذا لا ينافي ما ورد من أن الدستور آنذاك هو القرآن الكريم، فالكُتب السماوية من مشكاةٍ واحدة، ولا تَبايُنَ بينها. والسابقُ يشير إلى اللاحق الذي يتكامل معه ولا يناقضه. وعليه، فالمراد أن جميع أتباع الكتب السماوية يلتزمون بمقتضى كُتبهم بالعمل بالقرآن الكريم.

وموقع القانون في النصّ المعصوم موقع «حدود الله تعالى»، وهي المحور منذ بداية الحياة. وما هو الهدف هنا توكيد أن المستقبل سيشهد تحقّق سلطة القانون العادل.

5) وحول العولمة الحقيقية، لا هذه المدّعاة:

‌أ) «...يومُ الفتح؛ يوم تُفتح الدنيا على القائم..». (تأويل الآيات للأسترابادي: 2/445)

‌ب) «...يملكُ الدنيا شرقاً وغرباً». ( كمال الدين للصّدوق، ص 423)

‌ج) «إذا تناهتِ الأمورُ إلى صاحب هذا الأمر؛ رفعَ اللهُ تبارك وتعالى له كلَّ منخفضٍ من الأرض، وخَفَضَ له كلّ مرتفعٍ منها، حتّى تكون الدنيا عندَه بمنزلةِ راحتِه، فأيّكم لو كانت في راحتِه شعرةٌ لم يُبصرها».

(كمال الدين للصّدوق، ص 674)

من وجهة نظر الإسلام تشكّل العولمة مستقبلَ البشرية الواعد، حيث تكتمل دورة المعرفة وتتجلّى في أبهى صوَرها، ويعمّ العدل وترفرف راية الحرية على ربوع الكرة الأرضية كلّها، في ظلّ القانون الواحد، ليصبح الحديث عن القرية الكونية الواحدة أمراً واقعاً وحقيقةً ماثلة، ينبع من مفهوم الأسرة الكونية الواحدة ﴿..خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا..﴾. (الحجرات:13)

ولذلك، فهو حديثٌ ينبض بكلّ أحاسيس الحبّ الإنسانية الصادقة، وينأى عن ظلامية الأنانية والهيمنة والاستعلاء، ويربأ بنفسه عنها وعن ذهنية الربحية والجدوى الاقتصادية، وعن كلّ ما لا ينبغي للأسرة في علائقها ومعاملاتها، وهو لا ينافي أن يحفظ لكلّ ذي حقٍّ مادّي حقّه، إلا أن حفظ الحقوق المعنوية هو الأصل.

أما آن لنا أن نكتشف البعد العالميّ في الأديان السماوية بصيغتها الأصيلة، التي لا يخلو حتّى المحرّف منها من حضوره المميّز حتّى الهيمنة على ما عداه؟

ولا يكاد ينقضي العجب ممّن يرى في النصّ المعصوم هذا الموقع المتميّز للحجّ ولأحكامه، ثم يفصل بين ذلك وبين أن النصّ المعصوم، يقدّم للبشرية فكرة «الأسرة الواحدة» التي تبدو العولمة إزاءها طرحاً متخلّفاً.

أما آن لنا أن نكتشف عالمية الإسلام من خلال الحجّ مثلاً، الذي ترقى فكرته إلى حدّ الإعجاز؟

أليس في طليعة أفضل السُّبل لتهيئة البشرية للحكومة العالمية الواحدة، هذه اللقاءات العالمية الدورية والقيمية الفريدة؟!

وما أكثر الحقائق الإسلامية التي تجسّد هذا البعد، الذي يحمل في طيّاته دلالات تطوّر المعرفة البشرية ورقّيها، وصولاً إلى حيث تصبح العناوين المشار إليها أعلاه مداميك الكرة الأرضية والرواسي.

من هنا، فإن تصاعد الحديث عن هذه العناوين الخمسة، وتعلّق النفوس بها، وتجذّر التَّوق والشوق إليها -بالرغم من السلبيّات - ليس إلا إرهاصات لما سيتحقّق في نطاق مشروع المستقبل «الإسلام» وحكومته العالمية على يد الإمام المهديّ المنتظَر أرواح العالمين لتراب مقدمه الفداء.

[يراجع للتوسّع: كتاب (في المنهج: المعصوم والنصّ) للكاتب، ص 330 – 336، وقد استفاد هذا البحث منه في عدة مواضع بتصرّف يسير]

 

 

المهدويّة والأصول الخمسة

رؤية في أركانها ومرتكزاتها الإلهية

§      د. إدريس هاني

* «لو نظرنا إلى المهدويّة على أنها قاعدة وجدانية استدلالية، وليس فكرةً مستدلّاً عليها، فإنّها ستصبح موضوعاً جامعاً لكلّ المعتقدات الإسلامية؛ وأعني ههنا الأصول الخمسة. لأنها العنوان الذي يمثّل النتيجة الحتمية للاعتقاد بالأصول الخمسة، كما أنّ الاعتقاد بالمهدويّة يجعل الاعتقاد بالأصول الخمسة أمراً حتميّاً».

بهذه الفكرة يمهّد الباحث الإسلامي الدكتور إدريس هاني لفصل «المهدويّة في ضوء الأصول الخمسة» من كتابه (المهديّ المنتظَر – فلسفة الغَيبة وحتمية الظهور، ص 109 – 135)، ومنه اخترنا مقتطفات من كلامه على الصِّلة بين «المهدويّة» وكلٍّ من التوحيد والنبوّة.

«شعائر»

 

ربّما شقّ على البعض أنْ يكون الحديث حول المهدويّة هو فرعٌ للحديث عن الإمامة نفسها، كما لو كان القول في المهدويّة لا يقع إلاّ في طول القول في الإمامة. ومع أنّ جانباً من الصحّة يعكسه هذا الرأي، إلاّ أننا نعتقد أيضاً أنّ المهدويّة هي بالأحرى عقيدة قائمة بذاتها؛ حيث إنّ موضوعها ثابت في الوجدان الديني وغيره على النحو الأعمّ..

إنّها بهذا المعنى، فكرة راسخة في الوجدان البشريّ. بل هي المشترك الذي قد يحصل تصوّره بدفعة واحدة؛ ولا تأتي المكابرة إلاّ في مرحلة ثانوية، بعد أنْ كانت المهدويّة حدساً يتعقّله الوجدان حضورياً.

فلو سألتَ أيّ كائن بشريّ في كل جيل وفي كل دين؛ هل ترجو شيئاً؟ أو لمَ تحمل بعض الأمل على الرغم من كل صنوف العذابات التي تلمّ ببني البشر؟ لأجاب فوراً: نعم أرجو الكثير وآمل في الكثير. إنّ المستقبل في وجدان البشر لا محالة هو أفضل. وإذا سألت كيف تتوقّعه؟ ربما هام وفتح المجال لأقصى الخيال.

وبين سؤال الأين وسؤال الكيف، خرج الموضوع عن الإجماع بالجملة، لتتكاثر الأفكار والأحاسيس والرسوم...

ولو أسّسنا لهذه القاعدة الكلامية، لاعتبرنا المهدويّة أساساً صالحاً للبرهنة على ما قبلها من اعتقادات.

إنّ المهدويّة بهذا المعنى، لو أصبحت قاعدة وجدانية استدلالية وليس فكرةً مستدلّ عليها، فإنّها ستصبح موضوعاً جامعاً لكل المعتقدات الإسلامية؛ وأعني ههنا الأصول الخمسة. لأنها العنوان الذي يمثّل النتيجة الحتمية للاعتقاد بالأصول الخمسة، كما أنّ الاعتقاد بالمهدويّة يجعل الاعتقاد بالأصول الخمسة أمراً حتمياً.

المهدويّة والتوحيد

تؤكّد العقيدة المهدويّة أنّ مستقبل البشرية متجّهٌ نحو الوحدة والتوحيد. بل هي الوسيلة الأقرب إلى الوجدان، دلالةً على إمكان التوحّد على فكرةٍ خلاصيةٍ للنوع. بهذا المعنى تصبح المهدويّة ضرورةً توحيدية.

لقد ارتبط ذكر المهديّ عليه السلام بالتوحيد والوحدة. فهو يَجمع البشريةَ على توحيد الله وعلى وحدة الاجتماع السياسيّ القائم على وحدة النظام وشريعة محمّدٍ صلّى الله عليه وآله وسلّم كما يتدبّرها بالتأويل من أُوتي الحكم الواقعيّ.

فإذا كان التكاثر في وجهات النظر مردّه إلى سيادة الظّنون، وانحسارٍ في العلم الواقعيّ، فإنّ سياسةَ الخلق بالحكم الواقعيّ والقطع الجاري مجرى المطابقة القطعية، كفيلٌ بتوحيد الناس على نسَقٍ اجتماعيّ وسياسيّ. إن أكبر تجلٍّ للتوحيد وظهور دين الله في الأرض سيكون على يد المهديّ عليه السلام؛ وبذلك يكون المهديّ ضرورة توحيدية، في عالمٍ تصدّع بالتكاثر وتمزّقت أطرافه وازدادت تناقضاته. وحيث سيؤلّف المهديّ بين الجموع المتنافرة ويوحِّد الخلق على الناموس، يكون قد عبّر عن تجلّي الوحدة والتوحيد. وبه يتحقّق الوعد الإلهيّ: ﴿.. وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا..﴾ (آل عمران:83)، وهي لن تتحقّق، إلاّ بمجيء المهديّ عليه السلام الذي «سيملأُها عدلاً كما مُلئتْ جَوراً».

إنّك تجد أنّ المهديّ عليه السلام يجسّد منتهى تجلّي التوحيد في العالم. فلو نظرتَ إليه من خلال الأسماء الحسنى الإلهية لرأيته مصداقاً أوفى لها. وذلك تأسيساً على النبويّ الذي حثّ المؤمن على التقرّب بالنوافل، حتّى «يكون سمْعَه الذي يسمعُ به، ويدَه التي يبطشُ بها...» وما إليها من معانٍ أحصاها العرفاء في مستوى قرب الفرائض وقرب النوافل، مع فارق جوهريّ بين أن يصبح المؤمن هو يد الله التي يبطش بها، وبين أن يصل مقاماً يكون الله هو سمعُه الذي يسمع به ويده التي يبطش بها. وهو مصداق قوله تعالى: ﴿.. وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى..﴾ (الأنفال:17)؛ مقامات متاحة لعموم السُلاّك والعارفين، فكيف بمن وُعد بالتمكين وكان قائماً حجّةً على الخلق؟!

إنّ عنوان التمكين الذي يعكس القدرة الإلهية، سمةٌ من سمات القائم عليه السلام، وهو أثرها الأوفى. وهكذا يمكننا قراءة مظاهر الظهور في ضوء الصفات الثبوتية، لندرك أن المهديّ، هو تجلّي صفة العلم، حيث سيُؤتى تمامه.

كما أنّه تجلٍّ لصفة الحياة، حيث طول العمر مصداقٌ أوفى للحياة، فليس ذلك على الله بعزيز وهو الحيّ القيّوم. وهكذا سائر الصفات الثبوتية كالكلام، والقدرة، والعدل، والوحدانية التي ستسم عصر المهديّ عليه السلام؛ عصراً سيُوقف البشرية على أحكام الله الواقعية والحقائق كما هي وفي نفس الأمر. وهي الأمور التي متى غابت تكاثرتْ حولها أهواء البشر، فتكون الوحدانية والتوحيد عنواناً بارزاً في عصرٍ يضع حداً لشقوة التكاثر برسم الأهواء. حيث في التكاثر عنوان الضعف والتباسُ الحقائق وامتناع العلم واشتداد الانسداد. ومع الحجّة القائم، هناك ظهورٌ لكلّ شيء؛ للعلم والحقائق والمقاصد، وغياب الحواجز والتمكّن من بلوغ المصالح بالطرق العادلة وخارج سطوة الإنسان وظُلمه. فمن يطلب التكاثر بالباطل والتعدّد بالهوى حينئذٍ، لا يكون إلا شقيّاً!

المهدويّة والنبوّة

إذا كانت وظيفة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كامنةً في التنزيل، فوظيفة الإمام عليه السلام كامنةٌ في التأويل. وكما قاتل أمير المؤمنين عليه السلام على التأويل، سيعود الأمرُ قبل استتباب الأمر لمهديّ الأُمّة كما بدأ، فيبارزه الناس بالتأويل الفاسد، ويقاتلهم بالتأويل الصّحيح. فينتصر، وهو آخر الأوصياء وخاتم (الأولياء).

فمتى أدركنا أنّ الأمور أشباه، اعتبر آخرها بأولها. ومتى أدركنا أنّ لا وجود لأمرٍ تكوينيّ أو تشريعيّ إلاّ وفق حكمة مقاصدية كما أكّد الأئمة الأطهار، فإنّ وجود الإمام هو في مقام البدل الشاغل للفترات قبل بعثة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهم بالأولوية أبدال ما بعد الرسالة الخاتمة لانقطاع الوحي وختْم الرسالة. فكيف يُقال بلا جدوى حضور المهديّ عليه السلام، وقد اتّسعت دائرة الانسداد، وحيث عادت قاعدة قبح العقاب بلا بيان، العمدة في زمان ما بعد العلم والبيان؛ واستبدّت الظنون خاصّها وعامها؟

إلاّ أنْ يقال؛ إنّ الأمّة عاشت زمان التنزيل دون أنْ تدرك من زمان التأويل ما يقيم البيان ويعضده. وحيث لا يعلم متشابه التنزيل إلاّ الله والراسخون في العلم، وقد ظهر أن الراسخين في العلم هم الأئمّة من العترة الطاهرة، حيث أجاب الصادق عليه السلام شارحاً الآية الكريمة: ﴿.. وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ..﴾ (آل عمران:7)، فقال: «نحن نعلمُه». وحيثما استمرّت أطياف المتشابه وتلابست الأمور كان لازماً وجود الراسخين في العلم؛ ومصداقهم المهديّ المخلّص عليه السلام: «فأينَ تَذهبون وأنّى تُؤفكون والأعلامُ قائمةٌ والآياتُ واضحةٌ والمنارُ منصوبة، فأينَ يُتاهُ بكم، بل كيف تَعمهون وبينكم عترةُ نبيّكم؟»، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام.

إنّ ظهور الإمام المهديّ عليه السلام وخفاءه لا يؤثّر في الدور الذي يقوم به، إلاّ أنّ لظهوره شأناً عظيماً يفوق ما يقوم به من أدوار في الخفاء. وهذا ما يؤكّد أنّ الإمام حاضرٌ في إجماعات الفقهاء اليقينية، فهو مانعُهم من انعقاد إجماعهم على الخطأ.

ودائماً، وبناء على الأولوية القطعية، نقول: إذا كان المهديّ شأنه شأن الخضر - وهو حقاً خضر الأمّة - يحضر في البسائط من الأمور وما يخصّ أفراد الأمّة، يتدبّر أمورهم، كيف لا يكون حضوره آكد في القضايا المصيرية للأمة وما يختصّ بالجماعة، كما هو حال الإجماعات؟

إذا لم تكن مهدويّة الخضر مزاحمةً لنبوّة موسى، فما الغرابة في وجود مهديّ الأمّة إذاً؟! لا بل إنها في حال عدم وجود النبيّ هي آكد بالأولوية القطعية. وإذا كانت مهدويّة الخضر ونظائره في تاريخ الرسالات الذي عرفنا منه القليل وجهلنا منه الكثير، نافعة في زمان البعثات، فما وجه الغرابة أن تكون نافعة في زمان غياب الرسُل؟ بل سوف تكون إذ ذاك آكد في النفع متى أدركنا أن الرسالة الخاتمة تستدعي وجود مهديٍّ يحمل من خصائص عظَمة الرسالة الخاتمة أيضاً، حيث لا يمكن انبعاث نبيّ آخر.

إنّ مقتضى الخاتمية أن يكون المهديّ عليه السلام، حيث لا فترة بعد النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم. فتصبح الخاتمية دليلاً أقوى على ضرورة «المهديّ» أكثر من الرسالات غير الخاتمة، متى أدركنا مقاصد النبوّة ومقاصد المهدويّة.

إن فكرة الخلاص الأخير والمهدويّة بأوصافها العظيمة هي الدليل على عظَمة النبوّة نفسها، حيث ثبوت العظَمة للفرع هي عنوان ثبوتها للأصل. فحيثما اتّجه النظر إلى المستقبل، تضخّم الإحساس بضرورة الخلاص وشموله. فالمهدويّة بالأوصاف العظمى التي خلّدتها التعاليم الدينية هي الدليل الأبرز على أن ما كان قبلها من رسالة هو الأعظم والخاتَم بلا شكّ.

إنّ وظيفة المهديّ عليه السلام مكمّلة لوظيفة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم. وقد يقال ههنا كيف يتمّ ذلك وقد أكملَ اللهُ دينه وأتمّ نعمته؟ غير أن الشبهة هنا واضحة التهافت. فتمام الرسالة ببيان وظيفة المهديّ والإخبار عنه؛ فهو مشمولٌ في آية الإكمال. وشاهده قول الإمام الرضا عليه السلام: «إنّ الله تبارك اسمُه لم يقبضْ رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم حتّى أكملَ له الدينَ؛ فأنزلَ عليه القرآنَ فيه تفصيلُ كلّ شيء، بيّنَ فيه الحلالَ والحرامَ والحدودَ والأحكام وجميعَ ما يحتاج الناس إليه كَمَلاً؛ فقال عزّ وجلّ: ﴿..مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ..﴾، وأنزل عليه في حجّة الوداع - وهي آخر عُمره: ﴿..الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا..﴾، وأمرُ الإمامة من تمام الدين..». وبها يتحقّق تمام النعمة بالتأويل كما تمّت النعمةُ قبله بالتنزيل. (الأنعام:38) (المائدة:3)

إنّ تمام النعمة في زمن التنزيل كان بالقوّة. بينما سيكون تمام النعمة في زمن التأويل بالفعل. وهذا ما أكّدته الآيات والأخبار، حيث جاء لسانها بصيغة (اللّو)، نظير قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ..﴾. (الأعراف:96)

لكنّ وقوع ذلك سيكون في زمن المهديّ بالفعل، حيث سيتحقّق ذلك كما دلّت الآيات والأخبار. فمن الآيات قوله تعالى: ﴿بَقِيَّةُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ..﴾. (هود:86)

ومن الأخبار، ما جاء في رواية لأمير المؤمنين يشرح فيها قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ..﴾، فسأل الجالسين: «أَظَهَرَ بعدُ ذلك؟

قالوا: نعم.

قال: كلا، فالّذي نَفسي بيده، حتّى لا تبقى قريةٌ إلا ويُنادى فيها بشهادة أنْ لا إلهَ إلا اللهُ بُكرةً وعَشِيّاً».  (التوبة:33)

أقول، إنّ المهديّ مصداقٌ لمعنى الآية، حيث ذكر إرسال الرسول بالهدى. فالهدى والظهور، هما أصدق في المهديّ الذي هو من متمّمات هذا الأمر.

ليست وظيفة المهديّ التكميلية منافية لكمال التنزيل.. بل هي إكمالٌ في طول المضامين النبوية. إنّها ليست اجتراحاً لدينٍ جديد أو رسالةٍ جديدة على نحو الجعل البسيط، بل هي إكمال وتأويل وتشكيل متطوّر لرسالة الإسلام على نحو الوجود المركّب. إن المهديّ سيحقّق كلّ مطالب النبوّات والرسالات بإقامة العدل بين الناس، والقضاء على الظلم والطغيان. وما دام أن أكثر دعوات الأنبياء لم تتحقّق في توحيد البشرية على التوحيد وتطهير الأرض من الظلم، كدعوة نوح بأنْ لا يذَرَ على الأرض من الكافرين ديّاراً؛ فإن المهديّ عليه السلام سيتوفّر له من وسائل الإعجاز ما لم يتوفّر لغيره. بل ما من معجزةٍ كانت لنبيّ إلا ويؤتاها حتّى يتحقّق المراد. أو كما قال الإمام الباقر عليه السلام: «ما من معجزةٍ من معجزاتِ الأنبياءِ والأوصياء إلا ويُظهر اللهُ تبارك وتعالى مثلَها على يد قائمِنا لإتمام الحجّة على الأعداء».

إنّ المهديّ عليه السلام هو محقّق رجاء كلّ الأنبياء؛ وليس إلاّ المهديّ حقيقٌ بهذا الدور؛ فالمهديّ بهذا المعنى هو ضرورة نبويّة ورساليّة!

 

 

                                    

 

 

 

 

 

 

 

حقائق الولاية

من الكلام الإلهيّ إلى فلسفة التاريخ*

§      محمود حيدر**

* في ما يلي محاولة بحثية تعالج واحدة من أبرز المسائل العقائدية في الفكر الإسلامي - عنينا بها عقيدة الولاية - استناداً إلى الآيات البيّنات في القرآن الكريم، وكذلك إلى فلسفة التاريخ.

يسعى هذا البحث إلى تأصيل مفهوم الولاية عبر تنظير معرفيّ يقاربه من وجهين متلازمين:

الأول: تبيين مكانة الوليّ في القرآن الكريم.

الثاني: الكشف عن حضور الوليّ الإحيائي في فلسفة التاريخ.

«شعائر»

 

الفرضيّة التي ابتنينا عليها هذا المسعى تقوم على مبدأ الثبوت والإثبات في مقاربة مفهوم الولاية، وذلك بمقتضى أصلٍ عقَديّ قوامه: «لا بدّ من وجود حجّةٍ لله تعالى في كلّ زمان».

تبعاً لهذه القاعدة نجدنا أمام رُكنين أساسيّين: ركن الحضور في الغَيب، وركن الحضور في التاريخ. هذان الركنان يتكاملان ويتمِّم أحدهما نظيره، وإن كان لكلٍّ منهما سبيله ومنهجه المخصوص في البيان والتبيين. أما الأصل في تكاملهما فيعود إلى امتداد الوحي في التاريخ، تبعاً لسيْرِيَّة جوهرية مبدأها واحد وختامها واحد. وما ذاك إلا لكون الاعتناء الإلهيّ بدنيا الإنسان لا يدَعُ مجالاً للفراغ والمصادفة.

يترتّب على هذا التأصيل طائفة من المسائل العقدية والمعرفية تدخل دخولاً بيِّناً في التنظير المعاصر لمفهوم الولاية. ولكي يستوي الإجراء التنظيري على نصاب منهجي نقترح العمل على الخطوط التالية:

أولاً: التعرُّف إلى فلسفة الغَيبة والانتظار والظهور، والتعريف بها.

ثانياً: فهم ضرورة الامتحان الإلهيّ للبشرية، والغاية منه.

ثالثاً: استقراء سرّ مكان هبوط الوحي، حيث شاء الله أن تكون جغرافية التنزيل أرض الأمة الوسط. وهي الأرض التي شهدت ظهور النبوّات والرسالات منذ آدم إلى الرسالة الخاتمة. كما في قوله تعالى:

﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا..﴾. (البقرة:143)

رابعاً: تبصُّر الغاية الإلهية من الخلق. حيث إن شأن الدنيا مثابة جسر عبور من عالم الخلق إلى عالم الحق، ومن عالم الكثرة والتشظّي إلى عالم الوحدة والانسجام. وهنا تتجدّد وظيفة الوليّ، وتالياً المهمات التي يتولاها الأولياء الممهّدون عبر التاريخ.

خامساً: استشعار التواصل المستتر بين الوليّ المنتظَر والأولياء الممهّدين، بما يعني وجود ترابط وطيد بين إمام الزمان أو الوليّ الخاتَم وأئمّة الأوان (الممهّدون)، بغية إنجاز المطلوب الإلهيّ.

تلازم التوحيد مع الولاية

تقرّر فلسفة الولاية أن حقيقة الإيمان بالتوحيد يعادل الإقرار بالولاية، وأن التوحيد والولاية أمران لا ينفصلان، وأن الولاية هي الدليل على تجلّي الأسماء والصفات والأفعال الإلهية في كلّ طورٍ من أطوار التوحيد. بهذا تكون الولاية عنصراً ذاتياً من عناصر خَتم النبوّة. فالوليّ هو خليفة النبيّ، ومبيّن الشريعة من بعده، وهو الذي يتولّى صيرورة الدّين الخاتم إلى غاياته ومقاصده. بل إنه يؤكّد من خلال تولِّيه لأحكام الدين، استمرار الصِّلة بعالَم الغيب بعد انقضاء عهد النبوّة. ولأجل ذلك تحظى الوراثة النبوية بدور حلقة الوصل والعروة الوثقى بين الحقّ والخلق. 

والتأسيس الإلهيّ للوليّ المعصوم بصفة مخصوصة، وللأولياء الممهّدين بعامة، حاضرٌ بالمجمل في الخطاب الإلهي: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ(المائدة:55)، وفي التفسير أن الولاية هي لله بالأصالة في عالمَيْ الأمر والخلق. وللرّسول بالأصالة في عالم الخلق، ثم للوليّ المعصوم من بعد الختم النبويّ، ثم للخاصّة من المؤمنين إلى نهاية التاريخ. ولا يخفى على المتأمل أن المآل واحد.

حاصل المقصد الإلهيّ من آية الولاية المذكورة، أن منازل الولاية تقوم على ثلاث مراتب وجودية هي: ولاية الله – ولاية النبيّ – ولاية الوليّ.

المرتبة الأولى -  ولاية الله: وهي الولاية الحقيقية المطلقة، وتكون بالأصالة للوليّ الواحد الأحد على العالمين. وفي القرآن المجيد من الآيات البيّنات ما يشير إلى الأصالة الإلهية لولاية الله. وما سمّى الله تعالى ذاته المقدسة بالوليّ إلا لأنه المهيمن بأسمائه وصفاته على كلّ شيء: ﴿..مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا. (الكهف:26)

المرتبة الثانية - ولاية النبيّ: وهي من الله بالجَعل عن طريق الوحي. أي أنها امتدادٌ لولايته تعالى ومن أمره. ولأن ولايته تعالى محيطة بكلّ شيء، ومدبّرة لنظام الخلق، وبسُنَنِها تنتظم هندسة الكون، فولاية النبيّ الخاتَم صلّى الله عليه وآله وسلّم، المستمدة من الرحمانية هي - بهذه الصفة الاستمدادية - ولاية للعالمين. ولكونها كذلك، فهي ظهورٌ لمشيئة الله وإرادته في عالم الإنسان: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾. (الأنبياء:107)

المرتبة الثالثة - ولاية الوليّ: وهي متّصلة بالولايتين الأولى والثانية، بها تتجلّى الحقيقة المحمّدية في عالمَيْ الغيب والواقع، ومن خلالها يكشف الحقّ عن عنايته بشؤون الخلق. فإن أولياءه هم المكلَّفون بالمعاينة والمتابعة وحفظ الكتاب. وولاية الوليّ مصرَّحٌ عنها في القرآن الكريم بوجود شاهدٍ على المسلمين يتلو رسول الله: ﴿ أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ.. (هود:17). ومعنى «يتلوه» أي يخلُفه، ومعنى خلافته له هو قيامه مقامه في كلّ شيء ما خلا النبوّة التي خُتمت به صلّى الله عليه وآله وسلّم.

ولقد عيّن الله سبحانه هذا «الشاهد» بالإشارة والوصف، فوصفه تارةً بأنه من رسول الله كما في الآية. ووصفه تارة أخرى، بأنّ «عندَه عِلم الكتاب» كما في قوله سبحانه: ﴿..قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (الرعد:43).

وبهذا التقدير الإلهيّ سنجد كيف يحدّد القرآن الكريم الإطار المعرفيّ لحركة الإنسان في الزمان التاريخي. وهو ما تُظهره الآية: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾. (النساء:26)

 

 

الوليّ بوصفه مدبِّراً للأمر الإلهيّ

للوليّ في حكمة التدبير الإلهيّ للبشرية مهمّتان رئيستان: مهمّة الحضور في حضرة الله حيث يتجلَّى الله من خلاله في عالم الناس.. ومهمّة الحضور في حضرة الناس الذين يرون فيه بشراً وآيةً إلهيّةً في الوقت نفسه. فأنْ تكون في حضرة الوليّ يعني أن تحضر أمام الله عبر هذا الوصيّ، الذي هو في الوقت عينه، الشاهد على التاريخ البشريّ أمام الله.

لعلّ النقطة المحورية في «فلسفة الولاية» أن الغيب يظهر نتيجةً لفعل الحضور المزدوج هذا. فالوليّ المعصوم على الخصوص، هو صورة المعرفة بالله وجوهرها. لكن إنْ لم يُدرك هذا الجانب من مهمّة الامام، قد يقع الموحِّد في شرَكِ الشِّرك الخفيّ الذي لا يفرّق بين الشاهد الشهيد وهو الإمام، وبين الله الباطن الذي يشهد على وجوده، والذي لا يُدرك إلا بهذه الشهادة. وبذلك، يكون الإمام هو الصورة الحكمية، أي الوجه الذي منه يُؤتى فيض الغيب، والذي سوف تدركه الإنسانية كلّها في نهاية المطاف.

بفضل هذا الحضور المتبادل او المشترك يصبح الإمام حجّةً على العالمين، وهو الشهيد الظاهريّ والهادي الباطنيّ. ويتّضح هذا الحضور المشترك في ما ينقله الشيخ الصّدوق عن الأئمّة عليهم السلام: «من عَرفَنا فقد عرف الله». وبذلك يكون الحاصل أنّ مَن عَرَفَ نفسه عَرَف إمامه، ومن عرفَ إمامه عرف ربّه.

فالإمام الوليّ هو القطب الروحيّ الباطنيّ الذي لولاه لَساخت الأرض بأهلها. يعني هذا أن ارتباط حضور الإمام باستمرارية عالم الإنسان هو من قبيل الحفظ الإلهيّ للوطن البشريّ بواسطة الإمام. وبذلك يكون الإمام كمبعوثٍ إلهيّ في نهاية التاريخ أشبه بالسرّ المقدّس. ولذا، لا يخلو العالم من إنسانٍ هو مستودعُ الأسرار الإلهيّة، حتّى وإن لم يظهر للعوامّ من هذا المستودع شيءٌ على نحو المباشرة. فالولاية، وهي النبوّة الخفيّة، هي حركة جوهرية مستمرّة إلى آخر الزمان.. ما يعني أن الحاجة إلى الإمام هي حاجة وجودية للاجتماع البشريّ، تبعاً لرعاية الحقّ ولُطفه بعالم الخلق.

 

مملكة الإنسان الكامل.. إلهية

مرتبة الوليّ هي مرتبة الإنسان الكامل الذي هو ملك العالم التكوينيّ. لكنّ مملكته لا علاقة لها بالاعتبارات السياسية الظرفية والعارضة، ولا بالنصر السياسيّ الزائل، ولا بالفكرة التي تقول إن الأكثريات هي دوماً على حقّ بذريعة أنها هي التي تصنع التاريخ. ذلك بالطبع لا يضادّ حقيقة أن التدبيرات الجزئية هي من مهمّة أئمّة الأوان الذين انعقد بينهم وبين إمام الزمان ميثاقٌ باطنيّ يتلقّون من خلاله الترشيد والتوجيه والأمرة عند كلّ منعطف.

إمام الزمان هو الإنسان الكامل المعصوم، وبما أن هذا الإنسان المفرد هو سببُ وجود العالم الدنيويّ وغايته، فلا يُمكن أن يستمرّ وجود عالم الإنسان من دون إمام. وهذا بالتحديد هو معنى الوجود الغامض الذي يتميّز به الامام الثاني عشر الغائب عن الحواسّ الخمس، وإدراكات العقل الأداتيّ.

وعليه، فإنّ لفلسفة الولاية ركنين متلازمين لا انفصالَ في وحدتهما: ركن الاعتقاد بالغيب، وركن الأخذ بسببية حركة التاريخ. وهذا مبدأ إلهيّ كما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: «أبى اللهُ أن يُجريَ الأشياء إلا بالأسباب. فجعل لكلّ شيءٍ سَبباً، وجعل لكلّ سببٍ شرحاً، وجعل لكلّ شرحٍ عِلماً، وجعل لكلّ عِلمٍ باباً ناطقاً، عَرَفه من عَرَفَه، وجهِلَه من جَهِلَه، ذلك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ونحن».

وبمقتضى هذين الركنين نرانا بإزاء وصلٍ وطيدٍ بين حركة التاريخ والحقيقة الدينية، وبمعنى أعمق بين المخطّط الإلهيّ للتاريخ وإرادة الناس في درء انحرافات التاريخ وعيوبه. يجري ذلك ضمن جدلية التفاعل الخلاّق بين الفعل البشري المؤسَّس على الصّراط والوحي الذي يسدّده ويؤيّده فلا ينفكّ عنه طرفة عين. هنا، لا يعود عالم الشهادة منقطعاً عن عالم الغيب. كما لا يعود الحضور في التاريخ مفارقاً للغائب المنتظَر. فليس ثمّة انفصال بين الناس وإمام زمانهم. ذلك بأنّ انتظار المخلّص إنما هو انتظار حركة ومجاهدة لا انتظار سكونٍ واستسلام. وبقدر ما يختبر المؤمنون صِلتهم بإمامهم بالقول والعمل، بقدر ما تتحوّل عقيدة الانتظار إلى حضور فعّال في كلّ حقل من حقول النشاط والتضحية والمعرفة. لذا تنطوي منظومة الانتظار الخلاَّق على اتِّساق وانسجام مع سُنّة التاريخ وتطوره. فيها يصير الاعتقاد مطابقاً للواقع، ومن خلالها يُمسي الواقع عين العقيدة، ما دام المؤمنون بنظام السُّنن، وبالهندسة الإلهية للتاريخ، يأخذون بالأسباب التي وصَّاهم بها الحقّ تعالى ليفلحوا، ثم ليبلغوا بواسطتها صلاح أمرهم. وحيث يأخذ المؤمنون بالأسباب الممّهدة للخلاص، لا يعود الإمام الغائب منفصلاً عن الحضور الواقعيّ، بل هو لازمٌ للواقع في كلّ لحظة، يفيض عليه بالتسديد والتأييد والتقريب كلّما تحوّل إيمان المؤمنين بعقيدة الانتظار إلى حركة حيّة وفعّالة باتجاه المخلِّص المنتظَر. ولسوف تتمظهر تلك الحركة الإيجابية الجوهرية بوضوحٍ لا لَبْسَ فيه لدى الآخذين بهذين الركنين وهم يمهِّدون السبيل إلى الغاية القصوى. فإنهم بهذا يتّجهون شطر الالتزام بالولاء الخلاَّق للمكوّن الإيماني والمعرفي والأخلاقي الذي يربط الزمان الفيزيائي بالإمام الغائب. فالاحتدام الذي يُخاض تبعاً لهذين الركنين المتلازمين يفارق الاحتدامات المألوفة، ليتّخذ وضعية يحضر فيها الغائب حضوراً بيّناً في الزمن. وعليه تتحوّل فلسفة الانتظار الخلاّق إلى فقهٍ سياسيٍّ متعالٍ. ذلك بأنه فقهٌ متّصلٌ ومتواصلٌ مع الغَيب، ينمو ويتطوّر ويغتذي بعوامل الديمومة في ميادين المواجهة مع سلطان الظلم.

مثلث الولاية الخاتمة: وحيانية، عقلانية، واقعية

لعلّ ما يمنح فلسفة الولاية الخاتمة حيويّتها الواقعية، وعقلانيتها، أن الاعتقاد بالغائب المنتظَر كحقيقة تاريخية هو عين ما يُفضي إليه الفقه المؤسّس لها... حيث سيظهر حصاد العمل بمقتضاها عن طريق ربط كلّ ما يجري خلال أزمنة الغَيبة الكبرى، بلحظة الخلاص وظهور المنتظَر. مثل هذا التأصيل العقَدي التي تُجريه فلسفة الإمامة يطابق ولا يغاير ما ذهبتْ إليه فلسفة التاريخ. أي التفسير الواقعي العقلاني للأحداث. فلسفة التاريخ هي فلسفة لا تقبل الفراغ. أي أن التاريخ المبنيّ على وحدة الحضور والغياب، هو سَيْريّة (نعني بـ«السيْريّة» الحركة الجوهرية للتاريخ حيث يتجلّى فيها تواصل الغَيب ووحيه مع إيمان البشر وإرادتهم) ميثاقية تقوم على تكامل أركانها لا على انفصالها وتشظّيها. ولذا فإنّ هذه السَيْريّة التي تنتظم التواصل بين المنتظِر (بالكسر) والمنتظَر (بالفتح)، هي حركة مدركة وعاقلة وبنَّاءة تحيط البداية والنهاية برعايتها وتضبط أحقابها بعروة وثقى. وبقدر ما تتجلّى هذه الحركة في الإرادة والفعل الإنسانيين، بقدر ما يحفّزها منطقها الداخلي لتتحوّل إلى حركة جوهرية مؤيّدة بالعناية والتسديد واللطف. وفي هذا المقام سيكون على الآخذين بهذه الحقيقة، أن يمهِّدوا لظهورها في حركة الزمن من خلال التوفّر على أسبابها وشرائطها القريبة والبعيدة.

إن هندسة التاريخ هي كهندسة الطبيعة مستبطَنة بعناية الخالق. ولسوف يتبيّن تبعاً لفلسفة التاريخ أن العناية الإلهية تتدخّل عبر البشر أنفسهم في مسيرة الحضارات. فالله تعالى موجود في الطبيعة والتاريخ. والتاريخ البشريّ، وكذلك التاريخ الطبيعيّ، مظهران لوجوده. وأن عنايته تعالى مباطنة للتاريخ، ولكنها لا تسيّره إلا عبر الأسباب التي يتولاها الإنسان، ذلك بأن التاريخ خاضعٌ لقوانين حتميّة مَثَلُه في ذلك مثلَ العالم الطبيعي.

والوحي واضحٌ في دعوة الإنسان إلى الأخذ بالأسباب كشرطٍ لتحقق العناية وتلقّي التسديد، لأن قوانين التاريخ مباطنة في جوهرها للمخطّط الإلهيّ. فمَن يأخذ بها وفقاً لهذا المخطّط أفلح بالغاية، وأما من اتّخذ سبيل المغايرة والانزياح لهواه، فقد حَبِطَ مسعاه؛ أكان فرداً أم جماعة أم أمة. وهذا ما يدلّ عليه قوله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾. (العنكبوت:41)

أهمية موضوعٍ حيويّ كالذي سعينا إلى تظهيره أنه يستأنف مساءلات طفحَ بها سماءُ الجدل الكلاميّ على امتداد تاريخ الإسلام، إلا أنه يجيء هذه المرة ليلبّي حاجات معرفية راهنة تفترضها حاضرية الإسلام في العالم المعاصر، مع ما يترتّب على هذه الحاضرية من وجوب تظهير حضارة العدل الإلهيّ وتسييلها في الفضاء الثقافي العالمي...

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* بحث مقدّم إلى المؤتمر الدولي الحادي عشر للبحوث القرآنية الذي تنظّمه «جامعة العلوم والمعارف القرآنية» في مدينة قمّ المقدّسة، يومَي 18 - 19 نيسان (أبريل) 2018

** مفكّر وأستاذ محاضر في الفلسفة وعلم الأديان/ رئيس مركز دلتا للأبحاث المعمّقة - لبنان

اخبار مرتبطة

  أيها العزيز

أيها العزيز

  دوريات

دوريات

13/04/2018

دوريات

  إصدارات أجنبية

إصدارات أجنبية

نفحات