الملف

الملف

14/07/2018

أركان النظرية الأخلاقية الإسلامية


أركان النظرية الأخلاقية الإسلامية

رؤية فلسفية

____ طه عبد الرحمن*  _____

تسعى هذه المقالة للفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن إلى تأصيل علم الأخلاق الإسلامي من وجهة نظر فلسفية. فقد ذهب عبد الرحمن إلى وضع مجموعة من الأسس النظرية للأخلاق الإلهية، مشيراً إلى أنّ هذه الأسس لا تستوي على نشأة الاستقامة إلّا إذا اقترنت بالعمل بما جاءت به الشريعة المقدّسة في مجال الأوامر والنواهي، وكذلك بما يستنبطه الإنسان المؤمن من القول الإلهيّ والوحي النبويّ من توجيهات تؤيّد وتسدّد سلوكه العملي في مجمل نواحي نشاطه الاجتماعي.

«شعائر»

 

تنتهج ممارسة الأخلاق أحد طريقين: إمّا طريق الإلزام الذي هو عبارة عن جملة من الأوامر والنواهي التي تُفرض من خارج على إرادة الإنسان، وإمّا طريق الاعتبار الذي هو عبارة عن جملة من المعاني والقيم التي يستنبطها الإنسان تلقائياً، ممّا يشهده من أفعال ويتلقاه من أقوال؛ وإذا تأمّلنا في أيّ واحد من الطريقين يكون أنسب للإنسان المنتظر، وجدنا أنه هو طريق الاعتبار، وذلك لسببين اثنين:

- أحدهما، أنه لا شيء أبغض إلى قلب الإنسان المنتظر في سياق ما سوف يتبقى له من حقوق فردية من أن يأمره أو ينهاه أحد، نظراً لحدّة تشبّثه بالحرية وشدة رغبته في صدوره عن إرادته في كل أفعاله؛ وعلى قدر ما يتلقى هذا الإنسان مضمون الحكم الخُلقي بغير صورة الأمر أو النهي، يخف نفوره منه ويستعد لقبوله، كما إذا صدر إليه في صورة قضية يُطلب منه التسليم بها إلى غاية أن تتكشّف له نتائجها، أو أتى على صورة وصف لحدث يُرجى منه الوقوف عنده حتى يتبين معانيه، أو جاء في صورة سلوك يكون مثالاً بارزاً عليه.

- والثاني أنّ الحياة الأخلاقية للإنسان ليست لحظات منفصلة فيما بينها، تحكم كل لحظة منها أوامر أو زواجر معينة، وإنما هي وحدة من الأفعال التي تشكل تاريخاً خاصاً بصاحبها؛ وبهذا، يكون كل فعل خلقي عبارة عن حدث في هذا التاريخ، وتكون هوية الإنسان قائمة، لا في هذه الفترة أو تلك من فترات تاريخه، وإنما قائمة في هذا التاريخ بكامله منذ ولادته إلى موته.

وإذا نحن جمعنا بين مقتضى الحرية للإنسان المنتظر ومقتضى الحدث للحياة الخلقية، لزمنا الأخذ بطريق الاعتبار، أي إيراد الأحكام الخُلقية، لا في صورة أوامر، وإنما في صورة أخبار، ولا في صورة نَسَق، وإنّما في صورة قَصَص، لأن الأخلاق أفعال حية والأفعال الحية هي تاريخ والتاريخ لا يحيا إلّا بالقصة، فتكون أخلاق الإنسان هي قصته التي تحدد هويته.

فحينئذٍ، لا غرو أن يكثر في القرآن الكريم القصص الجميل، وأن ترد أحكامه ومواعظه في سياق هذا القصص. كما لا غرو أن يقع الإلحاح على العناية بسيرة الرسول صلّى الله عليه وآله، وعلى إقامة ركن الاقتداء؛ فهل السيرة إلّا قصة حقّة! وهل الاقتداء إلّا تشخيص هذه القصة!

فنجتهد إذاً في أن نعرض مضامين الأخلاق الإسلامية في صورة أخبار حُبلى بالإشارات وأحداث غنية بالدلالات، أخبار وأحداث تدعو المتلقّي إلى أن ينكفئ عليها يتأملها ويعتبر بها؛ ولنتساءل عن الوقائع الفاصلة التي حصلت بفضلها الجموع الثلاثة: «الجمع بين العقل والشرع» و«الجمع بين العقل والقلب» و«الجمع بين العقل والحس»؛ ولنبدأ بالحدث الحاسم الذي تقرر فيه الجمع بين العقل والشرع؟

الميثاق الأول والأخلاق الكونية

لا يمكن أن يتم الوصل بين العقل والشرع إلّا إذا جرى بين ذي العقل أي العاقل وبين ذي الشرع أي الشارع ما يشبه الاتفاق، ويكون مضمون اتفاقهما هو أنّ ما يدركه الأول هو نفسه ما يقرّه الثاني، والعكس بالعكس، أي أنّ ما يضعه الثاني هو عينه ما يفهمه الأول؛ إلا أن الشارع هنا ليس شارعاً إنسانياً، وإنّما شارعاً إلهياً، والإله يستحيل في حقّه أن ينقض الاتفاق، في حين يجوز أن ينقضه الإنسان؛ لذلك، يكون الاتفاق من جانب الإنسان العاقل عبارة عن تعهّد ملزم، فهو يتعهّد بأن يكون عقله موافقاً للشرع ومخالفاً للهوى.

وقد حدث هذا التعهد المُلزم في يوم ليس كسائر الأيام، لأنه لم يكن من أيامنا في هذا العالم، يوم لم نعد نذكره بأنفسنا ولكن تُذكّرنا به الرسالات، ألا وهو يوم أن خاطب الإله بني آدم كافة وهم في عالم الغيب قائلاً: ﴿..أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ..﴾؟ الأعراف:72، فأجابوه أجمعين شاهدين على أنفسهم: ﴿..بلى..! ذلك هو الميثاق الذي أخذه الشارع الأسمى من العقلاء وعقولهم؛ فكيف هي إذاً طبيعة الأخلاق التي يجوز أن يزوّد بها هذا الميثاق الأول الإنسان لمواجهة ما ينتظره من تزلزل في هويته؟

لا بدّ لكل مَن يتأمل في هذا الميثاق أن يجد أن الأخلاق التي ينتجها تتّصف على الأقل بالخصائص التالية:

أ- أنّ أخلاق الميثاق الأول أخلاق مؤسَّسة (بفتح السين المشددة): لمّا كان العقل هو الذي يطلب هذه الأخلاق، حتى يكتمل ويستقيم، استحال أن يكون هو نفسه مؤسِّساً لها، لأن في هذا تأسيساً لما هو مفتقر إليه، وواضح أنّه لا تأسيس للشيء مع الافتقار إليه؛ وعلى هذا، فإنه يلزم أن يرجع هذا التأسيس للطرف الثاني المشترك في هذا الميثاق أي للشرع لعلوّ رتبته على العقل واستغنائه بنفسه؛ ومن هنا، يتبين أن الأخلاق لا يمكن أن تقوم على ميثاق يحصل بين البشر وحدهم، ولا بالأحرى بين البشر وما دونهم، لأنّ مثل هذا الميثاق لا ضمان فيه، لأنّ العقل البشري لا يفتأ يتقلّب ويتلوّن، غير متيقّن من فائدة ما يختاره من مقاصد ولا ما يتّخذه من وسائل، والضمان الصحيح لا يكون إلّا مع الثبات الدائم، وهذا الثبات بالذات هو الذي يميّز الميثاق الذي يكون فيه الشارع الإلهي طرفاً متفضلاً؛ فطالما الإنسان يحفظ عهده له، فلا يخشى أن يضرّه تقلّب عقله، لأن هذا الشارع يضمن دوام فائدة هذا التقلّب.

ب- أنّ أخلاق الميثاق الأول متعدية إلى العالم كله: فهذه الأخلاق لا تخصّ صلاح الفرد الواحد ولا صلاح الأمّة الواحدة، وإنّما تبتغي صلاح البشرية قاطبة، بل تبتغي صلاح جميع المخلوقات التي في عالم الإنسان؛ ذلك أنها ترفع همّة الإنسان إلى أن يأتي أفعاله على الوجه الذي يجعل نفعها يتعدى نفسه وأسرته ووطنه إلى العالم بأسره، بحيث تكون كل بقعة من العالم وطناً له، ويكون كل إنسان فيها أخاً له، ويكون كل كائن سوى الإنسان نظيراً له في الخَلق (بالفتح والسكون)؛ انظر كيف أنّ الشارع الإلهي أخذ الميثاق من البشر، وهم في مشهد واحد، بوصفهم من صلب واحد ينزلون إلى أرض واحدة!

ج - أنّ أخلاق الميثاق الأول أخلاق شاملة لكلّ أفعال الإنسان: لمّا كانت كلّ أفعال الإنسان تصدر عن عقله الذي أعطى الميثاق، لزم، بموجب صدورها عن هذا العقل، أن تشملها جميعاً هذه الأخلاق بلا استثناء، فإذاً  كل فعل عقلي يصير فعلاً خلقياً بموجب الميثاق الأول؛ لهذا، يجب أن يحمل علامة هذا الميثاق التي تدل على أنّه يقرّ بواجباته والتزاماته؛ ومن ثم، صحّ الفرق بين «عقل يعقل الأشياء عن نفسه» و«عقل يعقلها عن ربّه»، أو قل بين «عقل منفصل» (أو «مفصول») و«عقل متّصل» (أو «موصول»)؛ فالعقل المنفصل نسي الميثاق أو تناساه، فنسب الأمر له إلى نفسه، بحيث لا يرى في الأشياء إلّا مجالاً لممارسة سيادته؛ أما العقل المتصل، فإنه، على العكس من ذلك، تذكّر هذا الميثاق ودام على حفظه في نفسه، فأوكل الأمر إلى البارئ، بحيث يرى في كلِّ شيءٍ شيئاً، إن في نفسه او أفقه، آية من آيات سيادة بارئه.

ومجمل القول في الميثاق الأوّل أنّه يورث الإنسان أخلاقاً مؤسَّسة (بفتح السين المشددة) ومتعدّية وشاملة، مما يجعلها أنسب أخلاق للعالم المنتظر، وبيان ذلك أنها، بفضل أساسها الإلهي، تجلب الثقة في هذا العالم؛ وبفضل تعدّيها من بعض أفراده إلى الباقي، فإنّها تساوي بين حقوقهم وواجباتهم؛ وبفضل شمولها لجميع الأفعال، فإنها تحفظهم من ظلمهم لأنفسهم أو ظلم بعضهم لبعضهم؛ وبهذا، تكون أخلاق الميثاق هي الأخلاق الكونية بحق وليس سواها.

ومن ثم يكون علينا، نحن المسلمين، أن نجتهد في تعريف غيرنا ممّن لم يبلغهم خبر هذا الميثاق الأول بوجوده وفي اقناعهم بفائدته في تطوير مسار الأخلاق وتجديد هوية الإنسان فيما سيأتي من أيام، ولا سيّما أن هذا الغير قد أعلن ضرورة الاستعداد لهذا الطور الحاسم من أطوار الإنسانية؛ وينبغي أن لا ندخر وسعاً في بيان كيف أن حصول هذا الميثاق في عالم بعيد غير هذا الذي نحن فيه يقوي من فائدته الأخلاقية بما لا يقوّيها ميثاق حاصل في عالمنا هذا؛ فليس تصورنا لهذا الميثاق بأبعد ولا أغرب من تصوّر مواثيق الوجود والتواجد التي وضعها البشر من عندهم؛ فهذا الميثاق الاجتماعي الذي حدّد به بعض الفلاسفة وجود الدولة ميثاق لا يصف أية حالة واقعية، ولا يُحيل على أية لحظة من تاريخ الإنسانية، بل يفترض حالة وهمية، وهي حالة الطبيعة التي كان عليها الإنسان والتي كان مجرداً فيها من كل حضارة إنسانية وحياة اجتماعية؛ فما الفرق في التصوّر الذهني بين هذه العناصر التي يتقوّم بها الميثاق الاجتماعي، وبين العناصر التي تضمنها الميثاق الإلهي؟ ألا يجوز أن تكون عناصر الميثاق الاجتماعي مقتبسة من عناصر الميثاق الإلهي، أو على الأقل متشبهة بها ولو أن الفرق في القيمة الكيانية (أي «الأنطولوجية») بين الميثاقين شاسع، فالميثاق الإلهي جمع إلى كمال الإله ضمانه، بينما الميثاق الاجتماعي لا كمال فيه ولا ضمان؛ فالذي يُسلّم بالميثاق الأخير حريٌّ به أن يسلّم بالميثاق الأول، وإلا جاز القدح في عقله، ناهيك بمن يدعون اليوم إلى أقامة المواثيق مع غير العاقل مثل «الميثاق مع الطبيعة»، أو «الميثاق مع البيئة»، أو «الميثاق مع الأرض»، فهؤلاء أحوج إلى التسليم بالميثاق مع الله متى كانوا عقلاء، أو نسبوا أنفسهم إلى العقل.

اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

14/07/2018

دوريات

  إصدارات أجنبية

إصدارات أجنبية

نفحات