الملف

الملف

10/09/2018

أنصار الله وأنصار رسوله

أنصار الله وأنصار رسوله

قراءة في منزلة أصحاب سيّد الشهداء عليه السلام

 

الشيخ حسين كَوراني

 * تعمد هذه المقالة إلى تسليط الضوء على عنوانٍ أساسيٍّ من عناوين نهضة سيد الشهداء صلوات الله عليه، ما فتئ «غريباً» لم تحظَ أقلام الباحثين – إلا ما ندر – بشرف دراسته وتحليله؛ عنينا به منزلة أصحاب الإمام الحسين عليه السلام وأنصاره المستشهدين بين يديه على امتداد نهضته النبوية؛ بدءاً من المدينة المنوّرة، وصولاً إلى كربلاء يومَ العاشر من محرم سنة 61 للهجرة، والدروس التي يجب استلهامها من سيرتهم، اقتفاءً لأثر من خُتم له بالسعادة بين يدَي إمام زمانه، في أحلك ظرفٍ سياسيّ واجتماعيّ شهدته البشرية، ولن يتكرّر إلا على أعتاب ظهور خاتم الأولياء والأوصياء عجّل الله تعالى فرجه.

هذه المقالة مختصرة عن دراسة مطوّلة استهلّ بها العلامة الشيخ حسين كوراني الجزء الثالث من كتابه النوعيّ (في محراب كربلاء)، والمخصّص لترجمة أصحاب الإمام الحسين عليه السلام. وكان سماحته قدّم مادة سلسلة (في محراب كربلاء) ضمن برنامج بالعنوان نفسه عبر أثير إذاعة «النور» في شهرَي محرّم وصفر لخمس سنوات متوالية، منذ العام 1411 إلى 1415 للهجرة. وقد صدر من هذه السلسلة كتابان؛ الأول تضمّن نظرة تحليلية للنهضة المباركة منذ خروج الإمام الحسين عليه السلام من المدينة، إلى عودة موكب السبايا إليها. أمّا الكتاب الثاني فقد تناول حوادث الكوفة بالتفصيل، مع ترجمة للشهيدين مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة، وغيرهما.

الأجزاء الثلاثة المتبقية ما تزال مخطوطة، وتتناول بالترتيب، تراجم الأصحاب – ومنه هذه المقالة - تراجم القتلة، والجزء الخامس والأخير مخصّص لحركة التوّابين، على أن يتبعها جزء سادس في حركة المختار الثقفي، وجزء مستقلّ تحت عنوان: (في محراب كربلاء: قراءة في التأسيس).

«شعائر»

 

يستوقف الباحث في شؤون نهضة الإمام الحسين عليه السلام أنّ الحديث عن أصحابه رضوان الله تعالى عليهم ما يزال يستدعي المزيد من الجهود المتواصلة للتعريف بهم وتقديم سيَرهم بما يتيح القيام بواجب الولاية لهذه الشخصيات الفريدة التي وفّقها الله تعالى للشهادة بين يدي مَن قال عنه المصطفى الحبيب صلّى الله عليه وآله: «... وأنا من حسين».

ألم يكن جهادهم محمّدياً؟ وهل كان إقدامهم على الشهادة بين يدي سيّد الشهداء إلا بعض الوفاء لرسول الله صلّى الله عليه وآله؟

وبالتالي: فهل الصحابي الذي رأى رسول الله صلّى الله عليه وآله، ثم وقف مع يزيد ضدّ رسول الله صلّى الله عليه وآله، المتجلّي بالحسين عليه السلام، أوفى منهم وأبرّ؟!

لا يشك موحّد في عظيم منزلة الأبرار من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، وليس السياق لطمس ذرّة من عظيم منزلتهم، بل هو لوضع الحديث عن أصحاب الإمام الحسين، روحِ رسول الله، في موقعه الطبيعي.

وقف الصحابة الأبرار مع المصطفى صلّى الله عليه وآله في الضرّاء والسرّاء، ووقف أصحاب الحسين عليه السلام مع رسول الله صلّى الله عليه وآله، عبر موقفهم مع ثاني سبطيه، في ضرّاء لا تُجارى.

كان لأكثر الصحابة إقدامٌ ونكوص، وزاغتِ الأبصار وبلغتِ القلوبُ الحناجر، وزُلزلوا زلزالاً شديداً، ويوم حنين أعجبتهم كثرتهم، إلى غير ذلك ممّا سجّله القرآن الكريم، أو أثبتته السيرة، فإذا فيه الحديث عمّن ذهب في الفرار عريضاً!

ولم يكن للصحابة المحمّديّين الحسينيّين أدنى نكوص ولا زُلزلوا، فضلاً عن أن يكون الزلزال شديداً! ولم يسجَّل عن أحدهم أنّه حدّث نفسه بفرار، فضلاً عن أن يذهب فيه عريضاً!

هكذا يمكننا أن نقارب فهم الوسام المحمّديّ الذي قلّده الإمام الحسين عليه السلام، لأصحابه حين قال: «اللّهُمَّ إِنّي لا أعرِفُ أهلَ بَيتٍ أَبَرَّ، وَلا أَزْكى، وَلا أطهَرَ مِن أهلِ بَيتي، وَلا أصحاباً هم خَيرٌ مِن أصحابي».

ولعلّ في طليعة المعاني التي أراد سيّد الشهداء عليه السلام، إيصالها إلى الأمّة عبر هذا الوسام، أنّ أهل بيته ملحَقون بأهل البيت الذين أوصى بهم التنزيلُ والرسول، وأصحابه ملحَقون بالأبرار من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله، الذين اتّفق المسلمون على أنّ سموّ منزلتهم يأتي بعد أهل البيت عليهم السلام.

 

المدّخرون لفجر البعثة الثاني

يؤكّد ما تقدّم عظيم حقّ أصحاب سيّد الشهداء على المسلمين جميعاً، وهو الحقّ الذي تصبّ روافدُ عديدة في تشكُّل موجه الكربلائي المتلاطم، منها:

1) السياق الكربلائي:

والمراد به أنّ موقع كربلاء من حركة الرسالات السماوية يجسّد أبرز المحطات الفاصلة في مسيرة الأنبياء، بل في مسيرة سيّدهم صلّى الله عليه وآله، وليس وصول يزيد إلى موقع التحكّم بمصائر المسلمين إلّا استمراراً متقّدماً جداً لإجلاب الكفر القرشي الأموي بخَيله ورجله في بدر وأحد والأحزاب، وغيرها من الغزوات التي كان الهدف منها بصريح القرآن الكريم: ﴿..لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ..﴾ الصف:8.

ولئن كانت بين حُنين وفتح مكّة وما بعده، جولات للكفر وصولات، إلا أنّ جولة معاوية ويزيد كانت نتاج كلّ ما سبق وبداية إعلان القضاء على الإسلام، ظنّاً منهما باكتمال طمس معالم التنزيل.

ولئن جسّدت الجهود النبويّة ما بين البعثة والوفاة، مرحلة صدّ كلّ الهجمات التي كانت تهدف إلى إطفاء نور الله تعالى، فقد جسّدت كربلاء - وهي المحمّدية بامتياز تخطيطاً ورعايةً وتنفيذاً - الضربة المحمّدية الإلهية، ولكن هذه المرة لا في اجتثاث أذرع القوّة لأخطار التحريف، كما كانت مهمّة أمير المؤمنين عليه السلام في مرحلة خلافته المباشرة، ولا في إتاحة الفرصة للأمّة لاكتشاف زَيف هؤلاء الأمويّين المتباكين على الإسلام، وكشف زَيف شيخهم وشيطانهم العاتي معاوية، كما كانت مهمّة السبط الأوّل الإمام الحسن عليه السلام، بل في اجتثاث القدرة على التحريف، وإعلان دفن كلّ المحاولات لطمس معالم الإسلام المحمّدي وإلى الأبد، لتحقيق تحصين الأمّة من كل مخاطر المستقبل التي لا يقاس بها شيء من كلّ المخاطر الصغيرة – رغم خطورتها – التي حفل بها تاريخ البلاط «الإسلامي!» وما يزال.

كربلاء هي ليلة القدر الثانية التي حفظ بها الله تعالى القرآن الكريم، الذي نزل على رسول الله صلّى الله عليه وآله في ليلة القدر، بل كربلاء هي القدر المحمّدي الذي كان له موعدان متميّزان: فجر البعثة، ويوم العاشر من محرم.

هذا بعض ما أراده المصطفى الحبيب صلّى الله عليه وآله، للأمّة أن تعيَه قلوبُها بعد العقول، حين دعا إلى التعامل مع سبطَيه باعتبار كلٍّ منهما محمّدَ عصره، وخصّ سبطه الثاني بحديث: «حسينٌ منّي وأنا من حسين»!

2) مدّخَرون لكربلاء:

تقتضي فرادة السياق الكربلائي، أن يكون لكلّ نبيّ مع كربلاء حديث ذو شجون، وهو ما تؤكّده الروايات في هذا المضمار، ومن البديهي أن ترتفع وتيرة اهتمام الأنبياء بكربلاء الأنبياء جميعاً كلّما اقتربت اللحظة الكربلائية، فكيف تجلّت كربلاء في سيرة المصطفى الحبيب صلّى الله عليه وآله، والحديث الشريف؟

غنيٌّ عن البيان أنّ كربلاء كانت مفصلاً بارزاً في السيرة وفي الخطاب النبويَّين، إلّا أنّ ما تمسّ الحاجة إلى استلهام دروسه هو اهتمام الرسول الأعظم بأصحاب الإمام الحسين عليه السلام، وهو محور بالغ الأثر في فهم أبعاد كربلاء.

* عن أبي جعفر (الإمام الباقر) عليه السلام، قال: «قال الحسينُ بن عليّ عليهما السلام، لأصحابه قبل أن يُقتل: إنّ رَسولَ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، قال: (يا بُنيّ، إنّكَ سَتُساقُ إلى العِراق، وهي أرضٌ قد التَقَى بها النّبيُون، وأوصياءُ النبيّين، وهي أرضٌ تُدعى عَمورا، وإنّك تُستَشهدُ بها ويُستَشهدُ معكَ جماعةٌ من أصحابِكَ لا يَجِدونَ أَلَمَ مَسِّ الحديد، وتلا: ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ تكونُ الحربُ عليكَ وعليهِم برداً وسلاماً) فأبشِروا؛ فواللهِ لَئن قتلونا، فإنّا نرِد على نبيِّنا..». (الأنبياء:69)

* وأورد السيّد البحراني عن ابن شهرآشوب قوله:

«...وعُنِّف ابن عباس على تَركِه الحسين عليه السلام، فقالَ إنّ أصحابَ الحُسين عليه السلام، لمْ يَنقصوا رجلاً ولم يَزيدوا رجلاً، نعرفهم بأَسمائِهم من قبلِ شُهودِهم.

أضاف السيد: وقال محمّد بن الحنفيّة: وإنّ أصحابه عندنا لمكتوبون بأسمائهم وأسماء آبائهم».

* وروي عنه صلّى الله عليه وآله، أنّه حثّ جمعاً بينهم أحد أصحاب الحسين، على نصرته عليه السلام: قال البخاري: «أنس بن الحارث قُتل مع الحسين بن عليّ، سمع النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم، قاله محمّد عن سعيد بن عبد الملك الحراني عن عطاء بن مسلم، حدّثنا أشعث بن سحيم عن أبيه: سمعتُ أنس بن الحارث، ورواه البغوي وابن السكن وغيرهما من هذا الوجه ومتنه: سَمعتُ رسولُ الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم يقول: إنّ ابني هذا، يعني الحسين، يُقتل بأرضٍ يُقال لها كربلاء، فمَن شهِد ذلك منكم فليَنصره.

قال: فخرج أنس بن الحارث إلى كربلاء فقُتل بها مع الحسين..». [انظر: الإصابة للعسقلاني: ح 266، نقلاً عن تاريخ البخاري]

3) فرسان المصر:

من النصوص الفريدة والبالغة الدلالة على عظيم منزلة أصحاب الإمام الحسين عليه السلام، النصّ الذي ورد في أكثر من مصدر رئيس من مصادر أحداث كربلاء، وهو ما قاله فيهم رمز الخذلان والتآمر الكوفيّيْن عمرو بن الحجاج، قائد مَيمنة عمر بن سعد في كربلاء، فلقد راعه ما رآه من بطولاتهم، وعرف أنّهم إنْ أُتيح لهم أن يواصلوا المبارزة فستكون النتيجة القضاء على كلّ من ينازلهم، ولذلك رفع صوته بالتحذير من مبارزتهم.

* قال الخوارزمي:

«فقال عمرو بن الحجّاج – وكان على الميمنة: ويلكم، ياحمقاء، مهلاً! أتدرون مَن تقاتلون؟ إنّما تقاتلون فرسانَ المصر، وأهلَ البصائر، وقوماً مستميتين، لا يبرزنّ منكم أحد إلّا قتلوه على قلّتهم.... فقال ابن سعد: صدقت، الرأي ما رأيتَ، فأرسلَ في العسكر يعزمُ عليهم أن لا يبارزَ رجلٌ منكم، فلو خرجتُم وحداناً لأتوا عليكم مبارزة».

ويكشف التعبير عن أصحاب الإمام الحسين عليه السلام، بـ«فرسان المصر»، عن موقعهم الاجتماعيّ المتميّز، فهم من سادة المجتمع ووجوهه البارزة، إذ المِصر الذي هم فرسانه هو الكوفة التي كانت بمنزلة العاصمة الفعلية للعالم الإسلامي، وكانت سِمتها الأبرز التي تحدّد الموقع الاجتماعي، هي الجهاد والفتح، والتي كان الفرز الفردي والقبلي يتمّ على أساسها.

يوصلنا ذلك إلى استنتاج أنّ مصطلح «فرسان المصر» في ذلك المجتمع المجاهد، الذي لم يكن يفصله عن نزول الوحي إلّا ما يقرب من خمسين عاماً، كان يعني ما يدلّ عليه تعبير: أبرز وجوه المصر وأركانه، وأنّهم اكتسبوا هذا الموقع بحكم خصائص، منها جميل بلائهم في لهوات الحروب، حيث تتجلّى فروسية الفارس، ومنها طول المراس وشدّته، حيث لا يصبح المقاتل فارس المصر بمعزلٍ عن تراكم الرصيد الجهادي، جولة إثر جولة.

إنّنا في الحديث عن أصحاب سيّد الشهداء عليه السلام، أمام قادة عسكريّين كبار، وفيهم من يمتدّ رصيده الجهادي إلى بدر، كما تجد في ترجمة الشهيد زهير بن سليم، أو مَن يُحتمل في حقّه ذلك، كالصحابي الشهيد أنس بن الحارث الكاهلي، وغيره.

ولئن لم يكن أصحاب سيّد الشهداء عليه السلام جميعاً من الصحابة، فإنّهم بالتأكيد - بصورة مباشرة، أو غير مباشرة - خلاصة التجارب الجهادية كلّها من بدر إلى كربلاء، ما يجعلهم بحسب المصطلح المعاصر كبار جنرالات العالم الإسلامي، مع فارق جوهري بين طبيعة المصطلح اللادينية اليوم في الغالب، وبين عمق تمازجه مع السابقة الإيمانية والمناقبية آنذاك.

«قيل لرجلٍ شهد يوم الطفّ مع عمر بن سعد: وَيحَك، أَقتَلتُم ذريّة رسول الله صلّى الله عليه وآله؟

فقال: عضضتَ بالجندل، إنك لو شهدتَ ما شهدنا لفعلتَ ما فعلنا، ثارت علينا عصابةٌ أيديها في مقابض سيوفها، كالأسُود الضارية، تحطم الفرسان يميناً وشمالاً، وتلقي أنفسها على الموت، لا تقبلُ الأمانَ، ولا ترغبُ في المالِ، ولا يَحولُ حائلٌ بينها وبين الورود على حياض المنيّة أو الاستيلاء على الملك، فلو كففنا عنها رويداً لأتتْ على نفوس العسكر بحذافيرها، فما كنا فاعلين لا أمّ لك؟!».

4) أصحاب البصائر:

رغم أنّ في النفس شيئاً من أن يصدر هذا الوصف من أعمى البصيرة، الموغل في العداوة والضّعة، ولكن الله تعالى قد يُجري نشر فضيلة وليّه على لسان عدوّه، ثم إنّ ابن الحجاج، وإنْ كان قد وشجتْ على الغدر عروقه، إلّا أنّه كان حتى ما قبل شهر من الزمن، من ثوابت مجلس الشهيد هانئ بن عروة، وكان لمثل هذا المصطلح في ذلك المجلس من قوة الحضور بما يكفي أن يتلقّفه ولو ببغاء.

والبصيرة هي رؤية العقل والقلب للأمور كما هي وعلى حقيقتها. ومن الواضح أنّ من لوازم البصيرة، الثبات على الموقف مهما كان الثمن، فالبصيرة واليقين متلازمان، وهنا يكمن الربط بين التحذير الكوفي من أصحاب سيّد الشهداء، باعتبار أنّهم أهل البصائر.

 في ضوء ذلك يمكننا أن نقارب أحد أبرز الملامح الحقيقية لطبيعة المواجهة في كربلاء، وكيف كان معسكر الإمام تجسيد رسول الله والبررة من أصحابه، وكيف كان معسكر الكفر ركاماً بلا روح، وغثاءً بلا صفوة.

 ومن أفضل النصوص تصويراً لما جسّده المعسكران، ما أورده الطبري في وقائع الليلة العاشرة، حيث قال:

«قال أبو مِخْنَف: (..) فلمّا أمسى حسينٌ وأصحابه، قاموا الليل كلّه يصلّون، ويستغفرون، ويدعون، ويتضرّعون.

قال (الراوي): فتمرّ بنا خيلٌ لهم تحرسنا. [أي خيل لجيش الأمويّين تراقب معسكر الإمام عليه السلام] وإنّ حسيناً ليقرأ: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ..﴾. (آل عمران:178-179)

فسمعها رجلٌ من تلك الخيل التي كانت تحرسنا فقال: نحن وربّ الكعبة الطيّبون. ميّزنا منكم.

 قال (الراوي): فعرفته، فقلت لبرير بن خضير: تدري من هذا؟

 قال: لا. قلت: هذا أبو حرب السبيعي، عبد الله بن شهر. وكان مضحاكاً بطّالاً، وكان شريفاً (وجيهاً) شجاعاً فاتكاً...

 فقال له برير بن خضير: يا فاسق، أنت يجعلك الله في الطيّبين؟

 فقال له: مَن أنت؟ قال: أنا بُرير بن خضير.

 قال: إنّا لله، عزَّ عليَّ، هلكتَ والله، هلكتَ والله يا بُرير.

 قال: يا أبا حرب، هل لك أن تتوبَ إلى الله من ذنوبك العظام؟ فواللهِ إنا لنحن الطيّبون، ولكنّكم لأنتم الخبيثون.

 قال: وأنا على ذلك من الشاهدين!

 قلت (أي الراوي): ويحك أفلا ينفعك معرفتك؟

 قال: جُعلت فداك، فمَن ينادمُ يزيدَ بن عذرة العنزي؟!... ها هو ذا معي!

 قال: قبّح الله رأيك على كلّ حال، أنت سفيه. ثم انصرف عنّا».

 أهل البصائر إذاً هم السابقون في ميادين اليقين، (وهم) بعدُ تجلّي الحّق الذي يصرّ الباطل وأهله على تنكّبه رغم الإقرار بأنّه الحق، تماماً كما رأيت هذا المضحاك البطال ينحني إجلالاً للشهيد برير، مذعناً بأنه ومن معه الخبيثون، وأنّ بريراً ومَن معه الطيّبون.

5) بمطلق الاختيار:

من الروافد التي تلتقي كلّها لتظهر أبعاد الحقّ العظيم لهؤلاء المحمّديين النوعيّين على الأمّة الإسلامية، -بعد السياق الكربلائي، وأنّهم مدّخرون لكربلاء، وأنّهم فرسان المصر، وأهل البصائر- أنّ أصحاب سيّد الشهداء عليه السلام، أقدموا على الشهادة وفاءً لرسول الله صلّى الله عليه وآله، في حفظ وصيّته بعترته، بملء اختيارهم؛ فلقد أذِن لهم الإمام الحسين عليه السلام، بأن يتفرّقوا، ولكنّهم أصروا رغم ذلك على مواجهة القتل، دون أدنى تردّد، بل بمنتهى اللهفة والسعادة.

أورد الطبري أنّ الإمام الحسين عليه السلام، قال لأصحابه:

 «ألَا وإنّي أظنّ يومَنا مِن هؤلاء الأعداء غداً، ألَا وإنّي قد رأيتُ لكم فانطلقوا جميعاً في حِلٍّ، ليس عليكُم منّي ذمام، هذا ليلٌ قد غَشِيَكم فاتّخِذوه جملاً».

لقد اختار أصحاب الحسين عليه السلام الموقف الصعب في الزمن الصعب، وهو ما جعلهم يستلينون ما استَوعَره المترفون، وأبى الإمام الحسين عليه السلام إلّا أن يكشف للأجيال أّنه كان مصرّاً على الشهادة حتى لو بقي من اللحظة الأولى وحيداً، وأن يكشف عليه السلام - أيضاً - ببالغ لطفه وغامر حنانه المحمّديّين الإلهيّين، أنّ معدن هؤلاء الكربلائيّين من نفس الطينة التي خلق اللهُ تعالى منها سادة الواصلين إلى المصطفى الحبيب وآله الأطهار صلّى الله عليه وعليهم، كسلمان والمقداد وعمار وأبي ذرّ رضوان الله عليهم أجمعين.

ومن الواضح أنّ فرق العظمة كبير بين أن يقدِم أهل البصائر وعبّاد المصر وفرسانه على الشهادة بملء اختيارهم، وبين أن يكون تكليفهم الشرعي قد حتّم عليهم ذلك لوجودهم مع سيّد الشهداء في تلك الظروف المصيرية. ومن تسطيح الأمور أن نتصوّر أنّنا ندرك بعيد غَور هذا الإقدام، فضلاً عن بعيد غَور طبيعة البناء النفسي لتلك (النفوس الزكية).

ولقد أدّى أصحاب سيّد الشهداء عليه السلام المهمّة الجسيمة التي تنوء بحملها الجبال، بل تشفق من حملها فضلاً عن أدائها، لتبدأ مسؤولية الأجيال المحمّدية الأصيلة من بعدهم من محرابهم، وعلى الأعتاب، وهي: أن تُجيد الأجيال الإصغاء إليهم. وتُحسن الاقتداء بهم كمظهرٍ لحُسن التأسّي بمَن جعله الله تعالى الأسوة الحسنة، وبآله الأطهار.

دعوة إلى العناية بسيرة جميع الأنصار

هذا الحق العظيم لأصحاب الحسين عليه السلام على كلّ مسلم، بل وعلى كلّ الناس بأجيالهم، تتنازع تضييعه عوامل شتّى، تتراوح بين الجهل المطبق بهم من غير المؤمنين، وبين الجهل بأكثرهم من المؤمنين، وإن كان للجميع في قلب كلّ مؤمن من الموقع ما يجعله ببركة تعليم أهل البيت عليهم السلام، يسلّم عليهم كلّما سلّم على أبي عبد الله، ويذكرهم في الغالب عند ذكره عليه صلوات الرحمن.

وطبيعيّ أن تكون الأولوية في مجالس كربلاء ومجالات العناية بوقائعها لِما يرتبط بسيّد الشهداء، والأوائل من أهل بيته عليهم السلام، ولكن ذلك لا يفسّر تغييب الأصحاب عن دائرة الاهتمام. وهل يكفي أن يجري الوقوف أحياناً عند سيرة بعضهم، فيما لا يَرِد ذكر هذا البعض غالباً إلا في سياق سرد الأحداث؟

كانت النتيجة أنّ أكثر شهداء كربلاء مجهولون، وكأنّه يراد للعلاقة بهم أن تبقى ضبابية، تتحرّك في نطاق العموميات. ولا يلغي هذا الخلل عدم وفرة المعلومات عن الأصحاب، بل يكشف بدوره أنّ التقصير تجاههم مزمنٌ وليس طارئاً. ولولا بعض الدراسات القليلة والجادّة، لظلّ هذا البعد بِكراً لم يمسّ، علماً بأنّ هذه الدراسات لم تتكّفل استقصاء سيرتهم جميعاً، ولا كلّ ما توفرّ ممّا يرتبط بمَن شملته منهم.

ولا بدّ هنا من تسجيل ملاحظة هامّة هي أنّ من فوائد مكننة المعلومات التاريخية والإسلامية عموماً، إتاحة فرصة فريدة للبحث الأوسع حول أصحاب الحسين عليه السلام. ولئن كانت الثغرات ما تزال كبيرة رغم أهمية الإنجازات، إلّا أنّ ذلك يكشف عما يحمله الغد للباحث في هذا المجال وغيره.

 

اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

12/09/2018

دوريات

  إصدارات عربية

إصدارات عربية

نفحات