أحسن الحديث

أحسن الحديث

09/12/2018

التعدّي عن الحدّ في العقل والغضب والشهوة

 

«الإسراف والتبذير» في القرآن الكريم

التعدّي عن الحدّ في العقل والغضب والشهوة

ــــــــــــــــــــــــــــــــ المرجع الديني الشيخ عبد الله جوادي آملي ــــــــــــــــــــــــــــــــ

يكشف التدبّر في القرآن الكريم عن أسرار ولطائف تعكس وجه الإعجاز في هذا البلاغ الإلهيّ المبين، لا سيّما إذا كان التدبّر بحثاً عن المفهوم المتكامل للقضايا والعناوين التي تكون مبثوثة في ثنايا آيات الكتاب المجيد.

ما بين أيدينا، مقالة نموذجية في استنطاق الآيات القرآنية، وهي ترسم صورة واضحة لرذيلتَي «الإسراف والتبذير»، في جميع الجوانب المتعلّقة بالسلوك والقوى الإنسانية، سطّرتها يد المفسّر الكبير العلامة الشيخ عبد الله جوادي آملي.

«شعائر»

 

لا ريب في أنّ الله تعالى قد جعل لكلّ شي‏ء قدراً، كما لا ريب في أنّ كمال الإنسان في سيره المعنوي هو عِرفان قدره وتطبيق سلوكه على مقدور وجوده وما قُدّر له من القوى والآثار، «فرحم الله امرءاً عرف قدره ... وكفى بالمرء جهلاً أن لا يعرف قدره».

ثمّ إنّ الإنسان قد جُهّز بقوى ثلاث، بعضها إدراكيّ، وبعضها الآخر تحريكيّ.

الأوّل: هو العقل، وما هو من جنوده إلادراكية كالخيال والوهم.

أمّا الثاني: فالشهوة للجذب.

والثالث: الغضب للدفع.

ولكلّ واحدة من هذه القوى الثلاث حدُّ وسطٍ واعتدال، يكون السير عليه عدلاً وقسطاً، والتعدّي عنه إسرافاً وإفراطاً، والقصور دونه اقتاراً وتفريطاً.

وحيث إنّ الوسط -وهو العدل والقسط- محبوب لله تعالى ومأمور به، فلا بدّ من التثبّت عليه والاجتناب عن طرفَي الإفراط والتفريط. والتجاوز عن الاعتدال في كلٍّ من تلك هو إسرافٌ فيها، فيكون مذموماً منهيّاً عنه، وموجباً للنقص، ومانعاً عن الرقيّ.

جهات الإسراف في القوى

وحيث إنّ الله تعالى قد أمر بالقسط، ونهى عن التعدّي عنه في كلٍّ من هذه القوى الثلاث، فلا بدّ من الإشارة إلى ذلك حسبما نزل به الروح الأمين على قلب رسول ‏الله ‏صلّى الله عليه وآله وسلّم، فالبحث في مقامات ثلاثة:

الأوّل: في الإسراف بحسب العقيدة، وما هو الحدّ الوسط للعقل: إنّ الإنكار المحض والنفي الصرف والقول: ﴿..مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ..﴾ [الجاثية:24]، تفريط وقصور من القوّة العاقلة.

كما أنّ اتّخاذ الأرباب المتفرّقين إفراط منها، والعدل العقلي والقسط الاعتقادي هو التوحيد ونفي الشريك: ﴿شَهِدَ الله أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ..﴾. [آل عمران:18]

والإسراف في العقيدة هو الذي أُشير إليه في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى﴾. [طه:127]

وأيضاً في قوله تعالى: ﴿..كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ﴾ [غافر:34]، لأنّ التجاوز الاعتقاديّ في أحد الأصول الدينية إسراف وإفراط من العاقلة عن حدّها المقدّر لها في الكمال.

الثاني: في الإسراف بحسب القوّة الغضبية: إنّ الجبن ونحوه تفريط من القوة الغضبية، والتهوّر والنهب والاختطاف والاستلاب ونحو ذلك إفراط لها، والشجاعة ولزوم ما أمر به هو العدل والقسط في القهر والانتقام.

ثمّ إنّه قد عدّ في القرآن الكريم غير واحد من موارد الإسراف في القهر والغضب، نحو قوله تعالى: ﴿..وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ﴾ [يونس:83]، حيث إنّ آل فرعون كانوا يذبّحون أبناء المستضعفين ويستحيون نساءهم ويسومونهم سوء العذاب.

ونحو قوله تعالى: ﴿..وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا﴾ [الإسراء:33]، فلو قتل وليّ الدم جماعة بواحدٍ كان إسرافاً في القتل وإفراطاً في الغضب.

الثالث: في الإسراف بحسب القوّة الشهوية: إنّ الخمود ونحوه تفريط في القوة الشهوية، والشره ونحوه إفراط منها، والسخاوة والعفّة ونحو ذلك اعتدال منها.

ثمّ إنّه قد عُدّ غير واحد من موارد الإسراف في هذه القوة في القرآن الكريم نحو قوله تعالى: ﴿يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾. [الأعراف:31]، والآية شاملة لجميع موارد الإسراف من القوّة الشهوية؛ إذ الأكل والشرب فيها مثال لكلّ ما تجذبه الشهوة من أمتعة الحياة الدنيا، سواء كان في الأكل والشرب، أو في الملبس، أو البناء، أو الصرف في سائر الجوانب المادية.

ونحو قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأنعام:141]، وقد نهى فيها عن الإسراف في الإنفاق لأنّه تعدٍّ مذموم.

آية جامعة لموارد الاعتدال في القوى

 الجامع في ذلك كلّه قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا * وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ الله إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ الله إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا﴾. [الفرقان:67-68]

واُشير إلى التعديلات الثلاثة:

أمّا في القوة الشهوية فقوله تعالى: ﴿وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾، وهكذا قوله تعالى: ﴿وَلَا يَزْنُونَ﴾.

وأمّا في القوة الغضبية فقوله تعالى: ﴿وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ الله﴾.

وأمّا في القوة العاقلة فقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ الله إِلَهًا آَخَرَ﴾.

وحيث إنّ الإسراف هو التعدّي عن القسط والعدل الذي هو الصراط، فقد يكون بالكَمّ وقد يكون بالكَيف، فكما أنّ الأكل الكثير أو الإنفاق الزائد أو البناء الرفيع جدّاً الزائد عن الحاجة إسراف، كذلك صرف النعمة في الحرام إسراف أيضاً، وإن لم يكن كَمُّه كثيراً، كشرب الخمر ونحوه؛ لأنّ استعمال النعمة في الحرام تعدٍّ عن طور العبودية وتجاوزٌ عن العدل المأمور به.

ومما تقدّم يظهر وجه المنع عن التبذير أيضاً كما في قوله تعالى: ﴿وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾ [الإسراء:26-27]؛ إذ التبذير هو نشر البَذر في موطن لا يليق به ومحلّ لا يجدر به، ولا ميز فيه بين كون ذلك لكونه تجاوزاً عن الحدّ الكمّي أو عن الحدّ الكيفي.

علب

استعمال النعمة في الحرام تعدٍّ عن طور العبودية وتجاوزٌ عن العدل المأمور به

التجاوز الاعتقاديّ، كاتّخاذ الأرباب المتفرّقين، إسراف وإفراط من القوّة العاقلة

***

مروءة الصاحب بن عَبّاد

كان الصاحب بن عبّاد من وزراء البويهيّين. من أسرة شريفة، وفريد عصره في الأدب والفضل. وعندما كان يجلس ليُملي علومه يجتمع عليه خلقٌ كثير، فيعاونه ستّة مستملِين ينقلون كلامه للحاضرين. وقد كان للعلويين والسادات والعلماء والفضلاء لديه منزلة رفيعة ومرتبة منيعة. ألّف له شيخنا الفاضل الخبير الشيخ حسن بن محمّد القمّي كتاب (تاريخ قمّ)، وألّف الثعالبي له (يتيمة الدهر).

وكان يُبقي كلّ شخص يدخل عليه بعد العصر، في شهر رمضان، للإفطار في منزله، فكان يجتمع عنده آلاف الأشخاص. وله أشعار كثيرة في مناقب أمير المؤمنين عليه السلام، ومثالب أعدائه.

كانت وفاته بالريّ في 24 صفر سنة 385، وحُملت جنازته إلى أصفهان، وقبره فيها مزار معروف.

يُروى أنّ الصاحب بن عبّاد طلب ذات يوم شراباً، فجاءه أحد غلمانه بشراب في قدح، وقدّمه إليه. وعندما أراد الصاحب أن يشرب، قال له أحد خواصّه: «لا تشربْ، فإنّه شرابٌ دِيْفَ فيه السّم»! وكان الغلام الذي جاء بالقدح ما يزال واقفاً.

قال الصاحب: «ما دليلك على ما تقول؟»، قال: «تجرّبه بالذي ناولك إيّاه».

قال: «لا أستجيزُ ذلك ولا أستحلّه». قال: «فجرّبه في دجاجة».

قال: «التمثيل بالحيوان لا يجوز». وردّ الصاحب القدح وأمر بقلبه، وقال للغلام: «انصرف ولا تدخل داري»، وأمر بإقرار جاريْه (مُرتّبه) وجرايته عليه، وقال: «لا يُدفع اليقين بالشكّ، والعقوبة بقطع الرزق نذالة».

(المحدّث القمّي، منازل الآخرة، ترجمة الشيخ حسين كوراني: ص 131-132)

 

اخبار مرتبطة

  ايها العزيز

ايها العزيز

  دوريات

دوريات

10/12/2018

دوريات

  اجنبية

اجنبية

10/12/2018

اجنبية

نفحات