الملف

الملف

11/05/2020

غزوة حُنين

غزوة حُنين

استبشار الملائكة بأمير المؤمنين عليه السلام

 

استهلال

مناقب أمير المؤمنين عليه السلام في حُنين

هذا الملف

 

أسباب غزوة حُنين

العلامة الشيخ علي الكوراني

وقائع معركة حُنين

الشيخ المفيد قدّس سرّه

تآمر الطلقاء على النبيّ صلّى الله عليه وآله

العلامةالشيخ علي الكوراني

مناقب أمير المؤمنين عليه السلام في حُنين

الشيخ المفيد قدّس سرّه

النبيّ صلّى الله عليه وآله يدافع عن ذراري المشركين

العلامة السيد جعفر مرتضى

مع آيات الواقعة

العلامة السيد محمّد حسين الطباطبائي رحمه الله

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

استهلال

مناقب أمير المؤمنين عليه السلام في حُنين

فانظر الآن إلى مناقب أمير المؤمنين عليه السلام في هذه الغزاة «غزوة حنين»، وتأملها وفكر في معانيها، تجده عليه السلام قد تولى كل فضل كان فيها، واختص من ذلك بما لم يشركه فيه أحد من الأمة. وذلك أنه عليه السلام ثبت مع النبي صلى الله عليه وآله عند انهزام كافة الناس، إلا النفر الذين كان ثبوتهم بثبوته عليه السلام... ولولاه كانت الجناية على الدين لا تتلافى، وأن بمقامه ذلك المقام وصبره مع النبي عليه وآله السلام كان رجوع المسلمين إلى الحرب وتشجعهم في لقاء العدو.

وكان من صلاح أمر الأنصار بمعونته للنبيّ صلّى الله عليه وآله في جمعهم وخطابهم، ما قوي به الدين وزال به الخوف من الفتنة التي أظلت القوم بسبب القسمة، فساهم رسول الله صلى الله عليه وآله في فضل ذلك وشركه فيه لون من سواه.

(الشيخ المفيد، الإرشاد: 1/149)

                                                                                                                          

 

هذا الملف

لا يفتأ القرآن الكريم يوثّق محلّ العِبرة من وقائع ومجريات بناء المجتمع الإسلاميّ الذي قام بجهود النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم، وناصرِه الأوّل أمير المؤمنين عليّ عليه السلام ومَن اتّبعهما بإحسان من رجال ونساء هذه الأمّة. وهو بهذا التوثيق –أي القرآن الكريم– يوصّف الداء الكامن في نفوس مَن نافقوا انحناء لعاصفة الانتصارات الإلهية، أو مرضى القلوب وضِعاف النفوس ممّن أسلم طمعاً بالأمان يوم فتح مكّة، ثمّ يبيّن النعمة والفضل الكبيرين بغلبة قوى الخير على نوازع الشرّ في هذا المجتمع الخليط.

والمقصود هنا تحديداً «وقعة حنين» التي أشار إليها القرآن في آيات من سورة التوبة (25-27) حافظاً للأجيال مشاهد حيّة ممّا جرى صبيحة العاشر من شوّال عام ثمانية للهجرة.

و«حُنين» منطقة قريبة من الطائف، سمّيت الغزوة باسمها لوقوع المعركة فيها، وقد عُبّر عنها في القرآن ب‍«يوم حنين»، ولها من الأسماء «غزوة أوطاس»، و«غزوة هوازن». أمّا تسميتها بأوطاس، فلأنّ أوطاس أرض قريبة من مكان الغزوة، وأمّا تسميتها بهوازن، فلأنّ كبرى القبائل التي شاركت في غزوة حنين تدعى هوازن.

في هذا الملف ستّ من المقالات تعرّضت للواقعة بالسرد تارة، والتحليل أخرى، ومناقشة دعاوى مَن أراد صرف الأنظار عمّا بدا من نقاط ضعف كادت أن تطيح بمنجزات ما سبق من انتصارات، ثالثة. ومصادر هذه المقالات هي: كتاب (الإرشاد) للشيخ المفيد قدّس سرّه، و(تفسير الميزان) للعلامة السيّد محمّد حسين الطباطبائي رضوان الله تعالى عليه، و(الصحيح من سيرة النبيّ الأعظم صلّى الله عليه وآله) للعلامة المحقّق السيد جعفر مرتضى، وموسوعة (جواهر التاريخ) للعلّامة الشيخ علي الكوراني. والمقالات هي:

1- أسباب غزوة حنين.

2- وقائع المعركة.

3- تآمر قريش مع هوازن.

4- مناقب أمير المؤمنين في حُنين.

5- النبيّ صلّى الله عليه وآله يدافع عن ذراري المشركين.

6- مع آيات الواقعة.

 

أسباب غزوة حنين

فكّر رئيس قبيلة هوازن مالك بن عوف أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله، بعد سيطرته على قبائل الجزيرة وانتصاره على اليهود وإجلائهم، لم يبقَ عليه صلّى الله عليه وآله، إلّا أن يهاجم قبائل نجد لإخضاعها، فبادر إلى تحشيد القبائل لحرب النبيّ صلّى الله عليه وآله قبل أن يحاربه!

وقَبض النبيّ صلّى الله عليه وآله في طريقه إلى فتح مكّة على عين لهوازن، أقرّ بأنهم يجمعون لحربه، فأمر بحبسه حتى لا يخبروهم بحركة النبيّ صلّى الله عليه وآله! (الصحيح من السيرة: 21/215)

وبعث إليهم النبيّ صلّى الله عليه وآله عبد الله بن أبي حدرد عيناً، فسمع ابن عوف، يقول: يا معشر هوازن إنّكم أحدُّ العرب وأعدُّها، وإنّ هذا الرجل لم يلقَ قوماً يصْدُقونه القتال، فإذا لقيتموه فاكسروا جفون سيوفكم واحملوا عليه حملة رجل واحد. فأتى ابن أبي حدرد رسول الله صلّى الله عليه وآله فأخبره». (إعلام الورى: 1/228)

وأكملت هوازن تحشيد قواتها واتّخذت مركز معسكرها وادي أوطاس، وهو شمال شرق مكّة، على بُعد بضعة وعشرين كلم من حُنين، قرب الضربية (ذات عرق) ميقات أهل العراق. ثمّ اتّفقوا مع ثقيف على حرب النبيّ صلّى الله عليه وآله، فقدّموا مركز معسكرهم إلى وادي حنين بين الطائف ومكّة، ويُعرف اليوم بالشرائع.

تقدّمت نخبة قوات هوازن وثقيف وعسكرت في حُنين، وهدّدت المسلمين وأهل مكّة، فعطّلت الحجّ في تلك السنة، فقصدهم النبيّ صلّى الله عليه وآله، وكانت المعركة فانهزم الثقفيون إلى الطائف، وهي تبعد نحو تسعين كم عن مكّة، وترتفع عن سطح البحر نحو 1300 متراً. ثمّ انهزمت قبائل هوازن إلى أوطاس القريبة.

 

أخْذُ النبيّ صلّى الله عليه وآله قريشاً معه إلى حرب هوازن

جاء في (مناقب آل أبي طالب: 1/180): «فات الحجُّ من فساد هوازن في وادي حنين! فخرج صلّى الله عليه وآله في ألفين من مكة، وعشرة آلاف كانوا معه».

ورووا أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله، أعلن موعدَ تجمّع جيشه في منى، في مكان مؤتمر قريش وكنانة لمقاطعة بني هاشم! قال صلّى الله عليه وآله: «منزلُنا غداً إن شاء الله بخيف بني كنانة، حيث تقاسموا على الكفر»! (صحيح البخاري: 5/92). وفي ذلك تخليدٌ للمكان، وتذكير لقريش بجرائمها بحقّ الإسلام وبني هاشم!

بقي صلّى الله عليه وآله في مكّة أسبوعين، وكان خروجه إلى حُنين يوم السبت السادس من شوال، ووصلها يوم الثلاثاء التاسع من شوال. (الصحيح من السيرة: 24/53)

وفي (إعلام الورى: 1/228): «ثمّ كانت غزوة حنين، وذلك أنّ هوازن جمعت له جمعاً كثيراً، فذُكِر لرسول الله صلّى الله عليه وآله أنّ صفوان بن أميّة عنده مائة درع فسأله ذلك، فقال: أغصباً يا محمّد؟ قال: لا، ولكن عارية مضمونة.

قال: لا بأس بهذا، فأعطاه. فخرج رسول الله صلّى الله عليه وآله في ألفين من مكّة وعشرة آلاف كانوا معه فقال أحد أصحابه: لن نُغلب اليوم من قلّة! فشقّ ذلك على رسول الله صلّى الله عليه وآله، فأنزل الله سبحانه: ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ..﴾ التوبة:25.

دريد بن الصمّة ينصح هوازن فلا يقبلون

في (إعلام الورى: 1/229): «قال الصادق عليه السلام: وكان مع هوازن دُرَيْد بن الصُّمَّة، خرجوا به شيخاً كبيراً يتيمنّون برأيه، فلمّا نزلوا بأوطاس، قال: نِعْمَ مجالُ الخيل لا حَزَنٌ ضِرْسٌ ولا سهلٌ دَهْس، ما لي أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير وبكاء الصغير؟

قالوا: ساق مالك بن عوف مع الناس أموالهم ونساءهم وذراريهم.

قال: فأين مالك؟

فدُعي مالك له فأتاه، فقال: يا مالك، أصبحتَ رئيس قومك وإنّ هذا يوم كائن له ما بعده من الأيّام، ما لي أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير وبكاء الصغير وثغاء الشاة؟

قال: أردتُ أن أجعل خلف كلّ رجل أهلَه وماله ليقاتل عنهم.

قال: ويحك لم تصنع شيئاً، قدّمتَ بيضة هوازن في نحور الخيل، وهل يَردّ وجهَ المنهزم شيء؟! إنّها إن كانت لك لم ينفعك إلّا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فُضحتَ في أهلك ومالك!

قال: إنّك قد كبرت وكبر عقلك!

فقال دريد: إن كنتُ قد كبرت فتورث غداً قومك ذلّاً بتقصير رأيك وعقلك، هذا يوم لم أشهده ولم أغِبْ عنه! ثمّ قال: حربٌ عَوَان! يا ليتني فيها جذع أخبُّ فيها وأضع»!

وفي (سيرة ابن هشام: 4/290)، أنّ ابن عوف قال: «والله لَتُطيعُنّني يا معشر هوازن أو لأتّكئنّ على هذا السيف حتى يخرجَ من ظهري! وكره أن يكون لدريد بن الصمّة فيها ذكرٌ أو رأي، فقالوا: أطعناك»!

 

وقائع معركة حنين

ثمّ كانت غزاة حنين، استظهر رسول الله صلّى الله عليه وآله فيها بكثرة الجمع، فخرج عليه السلام متوجّهاً إلى القوم في عشرة آلاف من المسلمين، فظنّ أكثرهم أنهم لن يُغلبوا لما شاهدوه من جمعهم وكثرة عدّتهم وسلاحهم، وأَعجب أبا بكر الكثرةُ يومئذٍ، فقال: «لن نُغلب اليوم من قلّة»، فكان الأمر في ذلك بخلاف ما ظنّوه..

فلمّا التقوا مع المشركين لم يلبثوا حتّى انهزموا بأجمعهم، فلم يبقَ منهم مع النبيّ صلّى الله عليه وآله، إلّا عشرة أنفس: تسعة من بني هاشم خاصّة، وعاشرهم أيمن بنُ أمّ أيمن، فقُتل أيمن رحمه الله، وثبت تسعة النفر الهاشميون حتّى ثاب إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله من كان انهزم، فرجعوا أوّلاً فأوّلاً، حتّى تلاحقوا، وكانت الكرّة لهم على المشركين. وفي ذلك أنزل الله تعالى..: ﴿..لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ..﴾ التوبة:25-26، يعني أميرَ المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، ومَنْ ثبت معه من بني هاشم يومئذٍ وهم ثمانية.. وقد ولّت الكافّة مدبرين سوى مَن ذكرناه..

ولمّا رأى رسول الله صلّى الله عليه وآله هزيمة القوم عنه، قال للعباس رضي الله عنه -وكان رجلاً جهورياً صيّتاً: «نادِ في القوم وذكّرهم العهد». فنادى العبّاس بأعلى صوته: «يا أهل بيعة الشجرة، يا أصحاب سورة البقرة، إلى أين تفرّون؟ اذكروا العهد الذي عاهدتم عليه رسولَ الله صلّى الله عليه وآله»، والقوم على وجوههم قد ولّوا مدبرين، وكانت ليلة ظلماء، ورسول الله في الوادي، والمشركون قد خرجوا عليه من شعاب الوادي وجنباته ومضايقه مُصْلتين بسيوفهم وعُمُدهم وقِسيّهم.

قالوا: فنظر رسول الله صلّى الله عليه وآله إلى الناس ببعض وجهه في الظلماء، فأضاء كأنّه القمر ليلة البدر. ثمّ نادى المسلمين: «أين ما عاهدتُم الله عليه؟» فأسمعَ أوّلَهم وآخرهم، فلم يسمعها رجل إلّا رمى بنفسه إلى الأرض، فانحدروا إلى حيث كانوا من الوادي، حتّى لحقوا بالعدوّ فواقعوه.

قالوا: وأقبل رجل من هوازن على جمل له أحمر، بيده راية سوداء في رأس رمح طويل أمام القوم، إذا أدرك ظفراً من المسلمين أكبّ عليهم، وإذا فاته الناس رفعه لمن وراءه من المشركين فاتّبعوه، وهو يرتجز ويقول:

أنا أبو جرول لا براح           

حتى نبيح القوم أو نُباح

        

       

فصمد له أمير المؤمنين عليه السلام فضرب عجز بعيره فصرعه، ثمّ ضربه فقطره، ثمّ قال:

قد علم القوم لدى الصباح

أنّي في الهيجاء ذو نصاح

     

                  

فكانت هزيمة المشركين بقتل أبي جرول لعنه الله.

ثمّ التأم المسلمون وصفّوا للعدوّ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «اللهمّ إنّك أذقتَ أوّل قريش نَكالاً فأذِقْ آخرَها نوالاً». وتجالد المسلمون والمشركون، فلمّا رآهم النبيّ عليه وآله السلام، قام في ركابي سرجه حتّى أشرف على جماعتهم وقال: «الآن حمي الوطيس:

أنا النبيّ لا كذب          

أنا ابن عبد المطلب»

 

 

فما كان بأسرع من أن ولّى القوم أدبارهم، وجيء بالأسرى إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله مكتّفين.

ولمّا قتل أميرُ المؤمنين عليه السلام أبا جرول وخُذل القوم لقتله، وضع المسلمون سيوفَهم فيهم، وأميرُ المؤمنين عليه السلام يقدُمُهم حتّى قتلَ أربعين رجلاً من القوم، ثمّ كانت الهزيمة والأسر حينئذ "..".

وقسّم رسول الله صلّى الله عليه وآله غنائم حنين في قريش خاصّة، وأجزل القسَم للمؤلّفة قلوبهم كأبي سفيان بن حرب، وعكرمة بن أبي جهل ..

وقيل: إنّه جعل للأنصار شيئاً يسيراً.. فغضب قومٌ من الأنصار لذلك، وبلغ رسولَ الله صلّى الله عليه وآله عليهم مقالٌ سخطه، فنادى فيهم، فاجتمعوا ثمّ قال لهم: «اجلسوا، ولا يقعد معكم أحدٌ من غيركم». فلمّا قعدوا جاء النبيّ عليه السلام يتبعه أمير المؤمنين عليه السلام حتّى جلس وسطهم، فقال لهم: «إنّي سائلكم عن أمر فأجيبوني عنه.

فقالوا: قل يا رسول الله.

قال: ألستم كنتم ضالّين فهداكم الله بي؟ 

قالوا: بلى، فللّه المِنّة ولرسوله.

قال: ألم تكونوا على شفا حفرة من النار، فأنقذكم الله بي؟

قالوا: بلى، فللّه المنّة ولرسوله.

قال: ألم تكونوا قليلاً فكثّركم الله بي؟

قالوا: بلى، فللّه المنّة ولرسوله.

قال: ألم تكونوا أعداء فألّف الله بين قلوبكم بي؟!

قالوا: بلى، فللّه المنّة ولرسوله.

ثمّ سكت النبيّ صلّى الله عليه وآله هُنيهة، ثمّ قال: ألا تجيبوني بما عندكم؟

قالوا: بمَ نجيبك فداك آباؤنا وأمّهاتنا، قد أجبناك بأنّ لك الفضل والمنّ والطَّول علينا.

قال: أما لو شئتم لقلتم: وأنتَ قد كنت جئتنا طريداً فآويناك، وجئتنا خائفاً فآمنّاك، وجئتناً مكذّباً فصدّقناك.

فارتفعت أصواتُهم بالبكاء، وقام شيوخهم وساداتهم إليه فقبّلوا يديه ورجليه، ثمّ قالوا: رضينا بالله وعنه، وبرسوله وعنه، وهذه أموالنا بين يديك، فإن شئت فاقسمها على قومك، وإنّما قال مَن قال منّا على غير وَغَرِ صدرٍ وغِلّ في قلب، ولكنّهم ظنّوا سخطاً عليهم وتقصيراً بهم، وقد استغفروا الله من ذنوبهم، فاستغفر لهم يا رسول الله.

فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله: اللهمّ اغفر للأنصار، ولأبناء الأنصار، ولأبناء أبناء الأنصار..».

 

تآمر طلقاء قريش مع هوازن على النبيّ صلّى الله عليه وآله

ذكر القرآن الجوّ العام الذي سبَّب هزيمة المسلمين في حنين، وهو إعجابهم بكثرة عددهم، فقد كانوا في خيبر ألفاً وخمسمائة، وفي مؤتة ثلاثة آلاف، ورأوا أنفسهم في حنين اثني عشر ألفاً فأعجبتهم كثرتهم! فنبّههم الله تعالى إلى خطأ تفكيرهم، وأنّ النصر لم يكن يوماً بالكثرة، قال تعالى: ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ التوبة:25-27.

والخطاب في الآية للمسلمين دون الطلقاء، لأنّها تخاطب الذين نصرهم الله من قبل، والطلقاء ليسوا منهم، وهي تذكر اغترارهم بكثرتهم في أسباب الهزيمة، لكنّها لا تنفي وجود عوامل أخرى، وفي أوّلها اتّفاق الطلقاء مع النجديّين على أن يُسهّلوا لهم هزيمة النبيّ صلّى الله عليه وآله، مقابل عدم هجوم هوازن على مكّة، وبذلك يثأر الطلقاء منه صلّى الله عليه وآله، لأنّه أخضعهم وأجبرهم على خلع سلاحهم!

".." أمّا تآمر قريش مع هوازن على النبيّ صلّى الله عليه وآله، فليس من الضروري أن يكون اتفاقاً مكتوباً، بل تناغماً في هدفهما في قتل النبيّ صلّى الله عليه وآله أو هزيمته.

وتدلّ الحوادث التالية على ضلوع قريش في الهزيمة:

1 - استقسم أبو سفيان بالأزلام، وهو نوع من التبصير بالمستقبل! «أخرج أزلاماً من كنانته فضرب بها وقال: إنّي أرى أنّها هزيمة لا يردّها إلّا البحر».

2 - وقعت محاولتان على الأقل لقتل النبيّ صلّى الله عليه وآله! فقد قال شيبة بن عثمان بن أبي طلحة: «اليوم أُدرِكُ ثأر أبي»! وكان أبوه قُتل ببدر، وجاء ليَقتل رسولَ الله صلّى الله عليه وآله، فأخبره رسول الله بما نواه وأحبط الله سعيه! ثمّ النضير بن كلدة العبدري وقد اعترف بأنّه قصد قتل النبيّ صلّى الله عليه وآله، فأحبط الله تعالى سعيه!

3 - كشف النضير خطة الطلقاء بصراحة، فقال كما رواه الواقدي: «خرجتُ مع قوم من قريش هم على دينهم بَعدُ: أبو سفيان بن حرب، وصفوان بن أميّة، وسهيل بن عمرو، ونحن نريد إن كانت دَبْرَةُ [هزيمة] على محمّد أن نُغير عليه فِيمن يُغير. فلمّا تراءت الفِئَتَان ونحن في حيّز المشركين، حملت هوازن حملة واحدة ظننّا أنّ المسلمين لا يجبرونها أبداً، ونحن معهم وأنا أريد بمحمّد ما أريد، وعمدتُ له فإذا هو في وجوه المشركين واقفٌ على بغلة شهباء حولها رجال بيض الوجوه، فأقبلتُ عامداً إليه، فصاحوا بي: إليك! فأُرعبَ فؤادي وأرعدتْ جوارحي! قلت: هذا مثل يوم بدر، إنّ الرجل لَعلى حقّ وإنّه لمعصوم! وأدخل الله تعالى في قلبي الإسلام، وغيَّره عمّا كنتُ أهمّ به».

4 - قال الطلقاء بعضهم لبعض عند الهزيمة: «أُخذلوه فهذا وقته، فانهزموا أوّل من انهزم وتبعهم النّاس».

5 - أسرع الطلقاء بخبر الهزيمة إلى مكّة، فوصل رسُلهم في يوم وليلة، وبشّروا أهل مكّة بهزيمة رسول الله صلّى الله عليه وآله، فاغتمّ عتّاب بن أسيد حاكم مكّة من قبل النبيّ صلّى الله عليه وآله، وسُرَّ بذلك الطلقاء في مكّة وأظهروا الشماتة، وقالوا: ترجع العرب إلى دين آبائها وقد قُتل محمّد وتفرّق أصحابه! فما أمسَوا من ذلك اليوم حتّى جاء الخبر أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله أوقع بهوازن، فسُرَّ عتَّاب وكبَت الله تعالى أعداء النبيّ صلّى الله عليه وآله.

وممّا يؤيّد وجود هذا التواطؤ بين قريش وهوازن، قولُ الإمام الصادق عليه السلام: «ما مرَّ بالنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، يوم كان أشدّ عليه من يوم حنين! وذلك أنّ العرب تَباغتْ عليه».

كما يؤيّده تناقض روايتهم عن سبب الهزيمة، فقد قالوا إنّ هوازن كمنت في الشعاب في مدخل وادي حنين، فتفاجأت المقدّمة بقيادة خالد بن الوليد بوابل سهامهم وأوقعت منهم قتلى، فانهزم خالد، وتبعه الطلقاء، وتبعهم الباقون، وتركوا النبيّ صلّى الله عليه وآله وبني هاشم وحدهم مقابل هوازن!

وساعد قريش أنّ مقدمة جيش النبيّ صلّى الله عليه وآله، كانت بني سليم بقيادة خالد! وقالوا إنّ الوقت كان فجراً فلم يرَ خالد الكمائن! لكن رووا أنّ الوقت كان قريب الظهر! وقد ناقش مقولاتهم ومبرراتهم للهزيمة صاحب (الصحيح: 24/100).

 

هوازن وأوطاس

قبيلة «هوازن» إحدى قبائل العرب. جاء الإسلام وهذه القبيلة في أوج قوّتها، وقد خرجت للتوّ من انتصار كبير في «حرب الفجار»، وكان هذا من أسباب عتوّها وعدم انقيادها للدين الجديد.

لمّا سمع أبناء هوازن بفتح مكّة على يد النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وما تحقّق له من النصر، أعدّوا للحرب ضدّ المسلمين، وذلك في السنة الثامنة من الهجرة في غزوة حنين بأوطاس في الطائف، والتي انتهت بهزيمتهم.

بعد ذلك، وفي صدر الإسلام وحتى القرن الرابع الهجري، انتشرت هوازن في الشام والعراق وشمال إفريقيا.

أشهر بطون هوازن، قبيلة بني سعد بن بكر، وهي قبيلة حليمة السعدية مرضع النبيّ صلّى الله عليه وآله.

و«أوطاس» وادٍ بين مكّة والطائف، وهو ساحة غزوة حُنين. وأما «سَرِيّةُ أوطاس»، فهي التي قادها أبو عامر الأشعريّ -في أعقاب غزوة حنين وقبل غزوة الطائف- ضدّ المشركين الفارّين من جيش هوازن، والذين كان في قيادتهم دُريد بن الصّمة.

 

 

مناقب أمير المؤمنين عليه السلام في حنين

انظر الآن إلى مناقب أمير المؤمنين عليه السلام في هذه الغزاة، وتأمّلها وفكّر في معانيها، تجده عليه السلام قد تولّى كلّ فضل كان فيها، واختصّ من ذلك بما لم يشركه فيه أحد من الأمّة، وذلك أنّه عليه السلام، ثبت مع النبيّ صلّى الله عليه وآله عند انهزام كافّة الناس، إلّا النفر الذين كان ثبوتهم بثبوته عليه السلام، وذلك أنّا قد أحطنا علماً بتقدّمه عليه السلام في الشجاعة والبأس والصبر والنجدة، على العباس، والفضل ابنه، وأبي سفيان بن الحارث، والنفر الباقين، لظهور أمره في المقامات التي لم يحضرها أحد منهم، واشتهار خبره في منازلة الأقران وقتل الأبطال، ولم يُعرف لأحد من هؤلاء مقام من مقاماته، ولا قتيل عُزيَ إليهم بالذكر. فعُلم بذلك أنّ ثبوتهم كان به عليه السلام، ولولاه كانت الجناية على الدين لا تُتلافى، وأنّ بمقامه ذلك المقام وصبره مع النبيّ عليه وآله السلام، كان رجوع المسلمين إلى الحرب وتشجّعهم في لقاء العدوّ.

ثمّ كان مِن قتْله «أبا جرول» متقدّم المشركين، ما كان هو السبب في هزيمة القوم وظفر المسلمين بهم، وكان مِن قتله عليه السلام الأربعين الذين تولّى قتلهم الوهنُ على المشركين، وسبب خذلانهم وهلعهم، وظفر المسلمين بهم. "..".

وكان من صلاح أمر الأنصار بمعونته [عليه السلام] للنبيّ صلّى الله عليه وآله في جمعهم وخطابهم، ما قوي به الدين وزال به الخوف من الفتنة التي أظلّت القوم بسبب القسمة، فساهم رسولَ الله صلّى الله عليه وآله في فضل ذلك وشرَكه فيه دون مَن سواه. وتولّى [عليه السلام] مِن أمْر «العباس بن مرداس» ما كان سببَ استقرار الإيمان في قلبه، وزوال الرَّيب في الدين من نفسه، والانقياد إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله، والطاعة لأمره، والرضا بحُكمه.

ثمّ جعل رسولُ الله صلّى الله عليه وآله الحُكم على المعترض في قضائه علَماً على حقّ أمير المؤمنين عليه السلام في فِعاله، وصوابه في حروبه، ونبّه على وجوب طاعته وحظر معصيته، وأنّ الحقّ في حَيزه وجَنبته، وشهد له بأنّه خير الخليقة "..".

ولمّا فضّ اللهُ تعالى جمع المشركين بحنين، تفرّقوا فرقتين: فأخذت الأعراب ومَن تبعهم إلى أوطاس، وأخذت ثقيف ومَن تبعها إلى الطائف. فبعث النبيّ صلّى الله عليه وآله «أبا عامر الأشعري» إلى أوطاس في جماعة منهم أبو موسى الأشعري، وبعث «أبا سفيان صخر بن حرب» إلى الطائف.

فأمّا أبو عامر، فإنّه تقدّم بالراية وقاتل حتّى قُتل، فقال المسلمون لأبي موسى: أنت ابن عمّ الأمير وقد قُتل، فخُذ الراية حتّى نقاتل دونها، فأخذها أبو موسى، فقاتل المسلمون حتّى فتح الله عليهم. وأمّا أبو سفيان فإنّه لقيه ثقيف فضربوه على وجهه، فانهزم ورجع إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله، فقال: بعثتَني مع قوم لا يُرقع بهم الدلاء من هذيل والأعراب، فما أغنَوا عنّي شيئاً، فسكت النبيّ صلّى الله عليه وآله عنه.

ثمّ سار [صلّى الله عليه وآله] بنفسه إلى الطائف، فحاصرهم أيّاماً، وأنفذ أميرَ المؤمنين عليه السلام في خَيل، وأمره أن يطأ ما وجد، ويكسر كلّ صنم وجده. فخرج حتى لقيتْه خيل خثعم في جمع كثير، فبرز له رجل من القوم يقال له شهاب، في غبش الصبح، فقال: هل من مبارز؟

فقال أمير المؤمنين عليه السلام: مَن له؟

فلم يقُم أحد، فقام إليه أمير المؤمنين عليه السلام، فوثب أبو العاص بن الربيع زوج بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله، فقال: تُكفاه أيّها الأمير.

فقال: لا، ولكن إن قُتلتُ فأنت على الناس.

فبرز إليه أمير المؤمنين عليه السلام، وهو يقول:

إنّ على كلّ رئيس حقّاً 

أن يروي الصعدة أو تدقّا

   

              

ثمّ ضربه فقتله، ومضى في تلك الخيل حتّى كسر الأصنام، وعاد إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وهو محاصِر لأهل الطائف. فلمّا رآه النبيّ عليه وآله السلام كبّر للفتح، وأخذ بيده فخلا به وناجاه طويلاً"..".

ثمّ خرج من حصن الطائف «نافع بن غيلان بن معتب» في خيل من ثقيف، فلقيه أمير المؤمنين عليه السلام ببطن وج [وج: الطائف] فقتله، وانهزم المشركون ولحق القوم الرعب، فنزل منهم جماعة إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله فأسلموا، وكان حصار النبيّ صلّى الله عليه وآله الطائف بضعة عشر يوماً. وهذه الغزاة أيضاً ممّا خصّ الله تعالى فيها أمير المؤمنين عليه السلام، بما انفرد به من كافّة الناس، وكان الفتح فيها على يده، وقُتل مَن قُتل من خثعم به دون سواه، وحصل له من المناجاة التي أضافها رسول الله صلّى الله عليه وآله إلى الله -عزّ اسمه- ما ظهر به من فضله وخصوصيته من الله عزّ وجلّ بما بان به من كافّة الخلق "..".

 

من مشاهد «يوم حُنين»

* في (كنز العمال: 10/540) للمتّقي الهندي، عن البراء بن عازب، قال: «...فأقبلَ القومُ إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله... فنزل رسولُ الله صلّى الله عليه وآله فاستنصرَ ودعا، وهو يقول: (أنا النبيُّ لا كَذِبْ، أنا ابنُ عبدِ المطّلب، اللّهُمّ أنْزِلْ نصرَك)...وكنّا واللهِ إذا احمرَّ البأسُ نتّقي به، وإن الشجاعَ الذي يُحاذي به».

* وفي (مجمع الزوائد للهيثمي: 6/180)، عن أنَس بن مالك، قال: «لما كان يومُ حنين... قال النبيّ صلّى الله عليه وآله: الآن حَمِيَ الوطيس، وأخذَ كفّاً من حصًى أبيض، فرمى به وقال: (هُزموا وربِّ الكعبة)، وكان عليّ بن أبي طالب أشدَّ الناسِ قتالاً بين يدَيه».

* (أمالي) الشيخ الصدوق (ص 314)، عن جابر بن عبد الله، قال: استبشرتِ الملائكةُ يومَ بدرٍ وحُنين بكشفِ عليٍّ عليه السلام، الأحزابَ عن وجه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فمَن لم يستبشر برؤية عليٍّ عليه السلام، فعليه لعنةُ الله».

* وفي (كشف الغطاء) عند تعداد غزوات النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «ومنها: غزوة حُنين، وفيها عجب أبو بكر من كَثرتهم، حتّى نزلت فيه الآية. وقد فرّ المسلمون سوى تسعة من بني هاشم، أقدمهم –أي أكثرهم إقداماً وأشدّهم جرأة- عليّ عليه السلام، وهو واقفٌ بين يدَي النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقد قتل فيها من المشركين أربعين رجلًا، فوقع فيهم القتل والأسر».

 

النبيّ صلّى الله عليه وآله يدافع عن ذراري المشركين

لا ندري كيف يمكن تفسير ما ورد في بعض الروايات من أنّ المسلمين حنقوا على المشركين، فقتلوهم حتى أسرع القتل في ذراري المشركين، حتّى اضطرّ رسول الله صلّى الله عليه وآله إلى النداء: «ألا لا تقتل الذرية، ألا لا تقتل الذرية» ثلاثاً. غير أنّنا نكتفي هنا بالإلماح إلى ما يلي:

أوّلاً: إنّ المشركين كانوا يعدّون بالألوف، إن لم نقل بعشرات الألوف.. ومجموع من قُتل منهم كان حوالي مائة.. وأكثر قتلى المشركين قُتلوا على يد عليّ عليه السلام، فإنّه عليه السلام بعد قتل أبي جرول قتل أربعين رجلاً، ولا ندري كم قَتل قبل ذلك.. وقد كان قتل أبي جرول هو السبب في كسر شوكة المشركين، وفي هزيمتهم.

ولو أردنا تصديق ما زعموه من أنّ أبا طلحة قتل عشرين رجلاً من المشركين، وحصل على سلبهم، وأضفنا إلى ذلك الأسير الذي قتله عمر بن الخطاب، والأسير الذي قتلته أم عمارة، والرجل الذي زعموا أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله، قتله.. وأضفنا إلى ذلك المرأة التي قتلها خالد، والذراري الذين قُتلوا من دون مبرّر، فلا يبقى سوى قلّة قليلة جداً لا تستحقّ هذه المبالغات، التي يتخيّل سامعها أنّ المسلمين قد حصدوا مئات من المشركين في فورة حنقهم..

وفي جميع الأحوال يبقى السؤال قائماً: أين أمعن المسلمون في قتل رجال المشركين؟! وما هي حصيلة هذا الإمعان سوى ما ذكرناه؟!

ثانياً: إذا كان المسلمون عشرة آلاف، أو اثنا عشر ألفاً، ويقابلهم ضعف أو أضعاف عددهم من المشركين، قيل: أربعة وعشرون، بل ثلاثون ألفاً، فلا بدّ من أن نتوقّع سقوط عدد من القتلى يتناسب مع عدد الجيشَين، ولو بأن يُقتل واحد من كلّ عشرة من المشركين، وواحد من كلّ مائة من المسلمين..

وهذا معناه أن تكون الحصيلة النهائية تعدّ بالمئات بل بالألوف، ولا سيّما مع الحنق والهيجان المنسوب للمسلمين، ومع الإسراع في القتل المنسوب إليهم في المشركين، حتى تجاوز الرجال إلى الذرية..

ثالثاً: إنّ المسلمين قد حاربوا أعداءهم طيلة ثماني سنوات في عشرات الحروب، فما معنى أن يجهل أسيد بن حضير، وهو الرجل الذي يعظّمونه وينسبون إليه المقامات والفضائل، وهو ينافس على زعامة قبائل الأوْس كلّها في المدينة، كيف وما معنى أن يجهل أنّه لا يحقّ لأحد أن يقتل ذرّية، ولا عسيفاً، ولا امرأة، ولا شيخاً؟!

وهذه هي وصيّة رسول الله صلّى الله عليه وآله لكلّ بعوثه، وفيها يقول: «لا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا صبيّاً، ولا امرأة».

بل إنّه صلّى الله عليه وآله قد أرسل إلى خالد يقول له: «لا تقتل ذرية ولا عسيفاً». وهم، وإن لم يصرّحوا باسم الغزوة التي أرسل إليه فيها هذا الأمر، لكنّها إمّا حنين، وإمّا الفتح بلا شكّ "..".

رابعاً: إنّ الإسراع في قتل الذرية معناه أنّهم قد انتقلوا من ساحة المعركة، إلى موضع وجودها، إذ إنّ الذرية لا تكون في ساحة القتال، بل تُجعل مع النساء بعيداً عن موضع الخطر، لكي لا ينالها مكروه في حالات الكرّ والفرّ..

وهذا يشير إلى أنّهم إنّما فعلوا بالذرية ذلك في حال لم تكن هوازن قادرة على التفكير بهم، والدفع عنهم. وليس ذلك إلّا حال فرارها من سيف عليّ عليه السلام، ومن جند الله تعالى، فشغلها ذلك عن التفكير بأيّ شيء آخر، فاغتنم المسلمون الفارّون الفرصة للفتك بذرية المشركين في نفس هذه اللحظات..

وهذه رذيلة، وليست فضيلة، وهي تدلّ على منتهى العجز والخوار، وليست دليل بسالة وشجاعة "..".

وأخيراً نقول:

أوّلاً: قد اتّضح: أنّ ظواهر الأمور تعطي: بأنّ بعض الناس، العاجزين، وغير الملتزمين بأوامر النبي صلّى الله عليه وآله وتوجيهاته، قد بادروا إلى قتل الذرّية، فنهاهم رسول الله صلّى الله عليه وآله. ويدلّ على ذلك: نفس قول رسول الله صلّى الله عليه وآله: «ما بال أقوام بلغ بهم القتل حتّى بلغ الذرية»؟!

ثانياً: إنّ نفس كلمات النبيّ صلّى الله عليه وآله، أيضاً تشير إلى أنّ ما يفعله هؤلاء في الذرّية كان بدافع الحقد وشهوة القتل، ولذلك قال صلّى الله عليه وآله لهم: «بلغ بهم القتل حتّى بلغ الذرية..». أي إنّ حبّ وشهوة القتل نفسه قد ساقهم إلى هذا الحدّ غير المعقول ولا المقبول.

وهذا في حدّ نفسه رذيلة لا بدّ من التنزّه عنها، بل هو مرض لا بدّ من علاجه، وتخليص النفوس منه"..".

وزعموا أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله، أمر المسلمين بقتل مَن قدروا عليه من المشركين، وأنّه قال لهم: اجزروهم جزراً، وأومأ بيده إلى الحلق.

وهو كلام مكذوب على رسول الله صلّى الله عليه وآله بلا ريب، فإنّ المطلوب إذا كان ذلك، فلماذا لم يقتلْهم حين قدر عليهم، وأسرهم؟! ".."

 

مع آيات الواقعة

﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ التوبة:25-26.

قد أغرب بعض المفسرين في تفسير الآية مستظهراً بما جمع به بين الروايات على اختلافها فأصرّ على ما ملخّصه: «أنّ المسلمين لم يفرّوا على جبن، وإنّما انكشفوا عن موضعهم لمّا فاجأهم من شدّ كتائب ثقيف وهوازن عليهم شدّ رجل واحد، فاضطربوا اضطرابة زلزلتهم وكشفتهم عن موضعهم دفعة واحدة، وهذا أمر طبيعي في الإنسان إذا فاجأه الخطر ودهمته بلية دفعة ومن غير مهل، اضطربت نفسُه وخلّي عن موضعه. ويشهد به نزول السكينة على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وعليهم جميعاً. فقد كان الاضطراب شمله وإيّاهم جميعاً، غير أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أصابه ما أصابه من الاضطراب والقلق حزناً وأسفاً ممّا وقع، والمسلمون شملهم ذلك لمّا فوجئوا به من حملة الكتائب حملة رجل واحد. ومن الشواهد أنّهم بمجرّد ما سمعوا نداء الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، ونداء العباس بن عبد المطلب، رجعوا من فورهم وهزموا الكفّار بالسكينة النازلة عليهم من عند الله تعالى..».

والذي أورَده [هو] من الخلط بين البحث التفسيري الذي لا همّ له إلّا الكشف عمّا تدلّ عليه الآيات الكريمة، وبين البحث الكلامي الذي يُرام به إثبات ما يدّعيه المتكلّم في شيء من المذاهب من أيّ طريق أمكن، من عقل أو كتاب أو سنة أو إجماع، أو المختلط منها. والبحث التفسيري لا يبيح لباحثه شيئاً من ذلك، ولا تحميل أيّ نظر من الأنظار العلمية على الكتاب الذي أنزله الله تبياناً.

أمّا قوله: «إنّهم لم يفرّوا جبناً ولا خذلاناً للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإنّما كان انكشافاً لأمرٍ فاجأهم، فاضطربوا وزلزلوا ففرّوا ثمّ كرّوا»، فهذا ممّا لا يندفع به صريح قوله تعالى: ﴿..ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ﴾ التوبة:25، مع اندراج هذا الفعل منهم تحت كلّية قوله تعالى في آية تحريم الفرار من الزحف: ﴿..فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ..﴾ الأنفال:15-16. ولم يقيّد سبحانه النهي عن تولية الأدبار بأنّه يجب أن يكون عن جبن أو لغرض الخذلان، ولا استُثنيَ من حكم التحريم كون الفرار عن اضطراب مفاجئ، ولا أورد في استثنائه إلا ما ذكره بقوله: ﴿..إلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ..﴾ الأنفال:16، وليس هذان المستثنيان في الحقيقة من الفرار من الزحف "..".

وأمّا استشهاده على ذلك «بأنّ الاضطراب كان مشتركاً بينهم وبين النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم»، واستدلاله على ذلك بقوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ..﴾ حيث إنّ نزول السكينة بعد انكشافهم بزمان -على ما تدلّ عليه كلمة ثمّ- يلازم نزول الاضطراب عند ذلك على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإن كان عن حزن وأسف إذ لا يتصوّر في حقّه، صلّى الله عليه وآله وسلّم، التزلزل في ثباته وشجاعته». فلننظر فيما اعتبره للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، من الحزن والأسف هل كان ذلك حزناً وأسفاً على ما وقع من الأمر من انهزام المسلمين وما ابتلاهم الله به من الفتنة والمحنة جزاء لما أُعجبوا من كثرة عددهم، وبالجملة حزناً مكروهاً عند الله؟ فقد نزّهه الله عن ذلك وأدّبه بما نزل عليه من كتابه وعلّمه من علمه، وقد أنزل عليه مثل قوله عزّ من قائل: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ..﴾ آل عمران:128، ".." ولم يَرد في شيء من روايات القصّة أنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم، زال عن مكانه يومئذٍ، أو اضطرب اضطراباً ممّا نزل على المسلمين من الوهن والانهزام.

وإن كان ذلك حزناً وأسفاً على المسلمين لما أصابهم من ناحية خطأهم في الاعتماد بغير الله والركون إلى سراب الأسباب الظاهرة، والذهول عن الاعتصام بالله سبحانه حتّى أوقعهم في خطيئة الفرار من الزحف، لِما كان هو صلّى الله عليه وآله وسلّم، عليه من الرأفة والرحمة بالمؤمنين، فهذا أمر يحبّه الله سبحانه، وقد مدح رسوله صلّى الله عليه وآله عليه إذ قال: ﴿..بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ التوبة:128. وليس يزول مثل هذا الأسف والحزن بنزول السكينة عليه، ولا أنّ السكينة، لو فرض نزولها لأجله ممّا حدث بعد وقوع الانهزام، حتّى يكون النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، خالياً عنها قبل ذلك، بل كان صلّى الله عليه وآله وسلّم على بيّنة من ربّه منذ بعثه الله إلى أن قبضه إليه، وكانت السكينة بهذا المعنى نازلة عليه حيناً بعد حين.

 

ثمّ السكينة التي نزلت على المؤمنين ما هي؟ وماذا يحسبها؟ أكانت هي الحالة النفسانية التي تحصل من السكون والطمأنينة كما فسّرها بها واستشهد عليه بقول صاحب (المصباح): «إنّها تطلق على الرزانة والمهابة والوقار»، حتّى كانت ثبات الكفّار وسكونهم في مواقفهم الحربية عن سكينة نازلة إليهم؟ فإن كانت السكينة هي هذه، فقد كانت في أوّل الوقعة عند كفّار هوازن وثقيف خصماء المسلمين، ثمّ تركتْهم ونزلت على عامّة جيش المسلمين من مؤمن ثبت مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ومن مؤمن لم يثبت واختار الفرار على القرار، ومن منافق، ومن ضعيف الإيمان مريض القلب، فإنّهم جميعاً رجعوا ثانياً إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وثبتوا معه حتّى هزموا العدو، فهم جميعاً أصحاب السكينة أنزلها الله إليهم، فما باله تعالى، يقْصر إنزال السكينة على رسوله وعلى المؤمنين، إذ يقول: ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ..﴾ التوبة:26؟ على أنّه إن كانت السكينة هي هذه، وهي مبتذلة مبذولة لكلّ مؤمن وكافر، فما معنى ما امتنّ الله به على المؤمنين بما ظاهرُه أنّها عطية خاصّة غير مبتذلة؟ ولم يذكرها في كلامه إلّا في موارد معدودة لا تبلغ تمام العشرة.

وبذلك يظهر أنّ السكينة أمرٌ وراء السكون والثبات، لا أنّ لها معنى في اللغة أو العرف وراء مفهوم الحالة النفسانية الحاصلة من السكون والطمأنينة، بل بمعنى أنّ الذي يريده تعالى من السكينة في كلامه له مصداق غير المصداق الذي نجده عند كلّ شجاع باسل له نفسٌ ساكنة وجأش مربوط، وإنّما هي نوع خاصّ من الطمأنينة النفسانية له نعت خاص وصفة مخصوصة.

كيف وكلّما ذكرها الله سبحانه في كلامه امتناناً بها على رسوله وعلى المؤمنين خصّها بالإنزال من عنده، فهي حالة إلهية لا ينسى العبد معها مقام ربّه، لا كما عليه عامّة الشجعان أولو الشدّة والبسالة، المعجبون ببسالتهم، المعتمدون على أنفسهم. وقد احتفّت في كلامه بأوصاف وآثار لا تعمّ كلّ وقار وطمأنينة نفسانية، كما قال في حقّ رسوله: ﴿..إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا..﴾ التوبة:40، وقال تعالى في المؤمنين: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ..﴾ الفتح:18، فذكر أنّه إنّما أنزل السكينة عليهم لِما علِمه من قلوبهم، فنزولها يحتاج إلى حالة قلبية طاهرة سابقة يدلّ السياق على أنّها الصدق، ونزاهة القلب عن إبطان نيّة الخلاف.

 

ميقات الجِعرانة

الجِعْرَانَة كانت في الماضي قرية صغيرة، أما اليوم فقد أصبحت مدينة، وهي إحدى حدود الحرم وميقات من مواقيت الحجّ والعمرة، وقد أحرم منها النبيّ صلّى الله عليه وآله للعمرة. وللجعرانة مسجد يعرف بـها.

قال العلامة الطريحي في: «نزل رسول الله صلّى الله عليه وآله الجِعْرانة، وهي موضع بين مكّة والطائف على سبعة أميال من مكّة، وهي إحدى حدود الحرم وميقات للإحرام. سُمّيت باسم ريطة بنت سعد، وكانت تلقب بالجِعرانة، وهي امرأة حمقاء كانت تغزل صوفها في الصباح، وتنقضه في المساء، وقد شبّه الله عزّ وجلّ بها ناقض اليمين، في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ..﴾. (النحل:92)

ويقال إنه عليه السلام أقام بها يوماً وليلة، ثم سار إلى أوطاس فاقتتلوا وانهزم المشركون إلى الطائف، وغنم المسلمون منها أيضاً أموالهم، ثمّ سار إلى الطائف فقاتلهم بقية شوّال، فلما حلّ ذو القعدة رحل عنها راجعاً، فنزل الجِعرانة وقسم بها غنائم أوطاس».

(مجمع البحرين: 3/247؛ 6/239)

 

اخبار مرتبطة

نفحات