مرابظة

مرابظة

11/05/2020

ثقافة التوحيد في ميادين المواجهة

الانتصار الإلهي في تمّوز

ثقافة التوحيد في ميادين المواجهة

محمود حيدر*

 

«أعِر اللهَ جُمجُمَتَك.. تِدْ في الأرض قَدَمك.. وارمِ ببَصرِكَ أقصى القوم.. واعلمْ أنّ النصرَ من عندِ الله». (نهج البلاغة، خ 11)

بهذه العبارات المأثورة عن أمير المؤمنين الإمام عليّ عليه السلام سوف يُستهلّ أوّل خطاب متلفز يلقيه قائد المقاومة، في الساعات الأولى من «حرب تمّوز». لقد رمى من هذه الاستعادة وَصْلَ كلّ مسعى في احتدامات الحرب والسياسة، بالفضاء المتّسع للحقيقة الدينية. إذ بهذا الوصل ستوضع المواجهة بمراتبها، ومعارفها، وقواها المادّية، والمعنوية، في غضون الحقل الإلهيّ.

في هذا الحقل لا يعود شيء من التفكير، والتدبير، والأخذ بالأسباب، بخارج عن سَيْريَّات القضاء والقدر الإلهيَّين. وفي الحقل إيّاه، يصبح الإيمان، والفكر، والممارسة، والقضية المسلوك نحوها، والغاية منها، معارج مترابطة ارتباط الواحد مع نفسه، ثمّ ليتشكّل بها، ومن خلالها ما نصفه بـ«ميتاـ استراتيجية» المقاومة. ومهما يكن من أمر، فلو اتّخذنا من العبارات المأثورة أعلاه مثلاً، لوجدنا تأسيساً بالغاً لتلك الميتاـ استراتيجيا. حيث سيكون لنا أن نرى إلى أعمدتها البيانية على الوجه التالي:

أوّلاً: التوكّل: عبر إحالة الفكر، والنفس، والعقل، والقلب إلى الله. وعلى الجملة: وضعُ القول والعمل في حضرة الله تعالى.

ثانياً: الأخذ بالأسباب: عبر توفير عوامل القدرة، في العتاد والرجال، وقوى الدعم، ووضع الخطط الكفيلة باحتواء هجومات العدوّ، والالتفاف على قواه وصولاً إلى اليقين بأنّ ما توفّر من أسباب القوّة، كفيل بإحراز مقوّمات النصر والغلَبة٫

ثالثاً: تعيين الخطّة الشاملة: عبر معرفة سلسلة الاحتمالات والخيارات العسكرية والسياسية التي يمكن أن يلجأ العدوّ إليها. ومن خلال رصد المؤثّرات الجيو - استراتيجية المحلّية والإقليمية والدولية التي يُحتمل حصولها بعد نهاية الأعمال الحربية. ولئن كانت الاستراتيجية تستلزم فنَّ الخداع وبذلك تتعارض مع الأخلاق -كما يبيّن مفكر الحرب «ليدل هارت»- فإنّ الاستراتيجية العليا، التي تستشعر الآماد البعيدة، وتنظر إلى أقصى القوم، تنسجم مع الأخلاق، لأنّها تتدخّل كمبدأ توجيهيّ يحافظ به الاستراتيجيّ على الهدف الأصلي للجهود التي بذلها.

رابعاً: الرجوع إلى الله سبحانه: بعد قطع الأطوار الأربعة سوف يتوفّر الإيقان الثابت، بأنّ عليك أن تعلم أنّ النصر هو من عند الله. فالعلم في هذه الحال لا يُحصَّل بالاكتساب والتلقين، إنّما بالاستبصار الخُلُقي، واللّمح الداخلي، والمعرفة الإيمانية الخالصة. وعلى هذا النحو يصبح العلم بالنصر أمراً ذاتياً يُحصِّله القلب المتّصل بعروةٍ وثقى بمقام التوحيد. وبذلك يتحقّق سَفر المجاهدين بين المبدأ والمعاد في كلّ مهمة يؤدّونها؛ سواء تناهت في الصغر أم لم تَتَناهَ في الكِبَر٫

إنّ منشأ الاستبصار الأخلاقي في هذه الأطوار المشار إليها مردّه إلى تعلّقها تعلّقاً حميماً بالحقيقة الدينية التي ظهّرتْها الكلمات العَلَويّة. ففي اللحظة التي وُضعت فيها تلك الكلمات في ميدان المواجهة، أُحيلت المقدّمات والنتائج إلى الإرادة الإلهية. فمع هذه الوضعية تغدو الإحالة فعلاً أخلاقياً سوف يرقى إلى مراتبه القصوى مع تصعيد الفعل الجهادي درجةَ التضحية بالروح. وهي تضحية مولودة من يقينٍ لا شِيَةَ فيه، وقِوامه: أنّ الالتزام بحقوق الخَلق هو سبيلُ بلوغ الحقّ. ولسوف تؤدّي إحالة النصر إلى الله إلى إنجاز منطقة معرفية جديدة في العالم الإيديولوجي والثقافي لحركات التحرير الوطني الحديثة والمعاصرة٫

إنّ من شأنية هذه المنطقة المعرفية الإسهامَ في تفعيل وتأليف بيئة جديدة من التخليق السياسي، من عناصرها ما يلي:

أ) التأسيس لثقافة تُفارق ميراثاً فكرياً مديداً ينسُب الانتصارات الوطنية والقومية إلى الزعيم، أو إلى التنظيم، وتالياً إلى الإرادة البشرية المحضة.

ب) تحويل ثقافة النصر إلى إيمان بالنصر. والفارق بين الثقافة والإيمان كالفارق بين منجَز تُحقّقه الإرادة البشرية، ونصر تكون فيه هذه الأخيرة وساطة الإرادة الإلهية إليه...

ج) محو «الأنا» من جانب القائد، هي فعلية أخلاقية ولّدها التبصّر. ثمّ لتتكثَّر هذه الفعلية الأخلاقية عبر ولادات لا حصر لها في حقول التفاعل. إنّ تماهي القائد مع المقاتلين والأنصار سوف يدفع العلاقة بينهما إلى مستوى أرقى من الالتزام التقليدي بالأوامر القيادية. بحيث يتحوّل هذا النوع من الالتزام إلى تواصل رضائي تستحيل الطاعة فيه تماهياً مع أمر القائد، حتّى لَيستحيل المطيعون شركاء في نفس الأمر٫

د) إعادة إنتاج التوحيد في ميادين المواجهة من خلال نسبة كلّ فعل جهادي مقاوم إلى الفاعل الإلهي. ﴿..وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى..﴾. [ الأنفال:17 ] إنّ هذه المزِيَّة الاعتقادية سوف تجعل الآخذين بها يكتشفون بالمعاينة والحضور المباشر كيف يتحوّل التوحيد الإلهي إلى حقل اختبار يُسهم في تسديد الإيمان الديني والمسلك الأخلاقي لدى الناس أفراداً وجماعات.

هـ) إعادة إنتاج مفهوم القيادة على النحو الذي يمنحها صفة الدور الوسائطي لإنجاز المهمّة الإلهية في التاريخ. إذ حين يأبى القائد، أو وليّ الأمر، أن ينسب إلى نفسه النصر فيحيله إلى الله، فإنّه يضع نفسه على خطّ أفقي مساوٍ للمجاهدين والمناصرين. حتّى لَتظهر الصورة على الحقيقة وكأنّ الجمع كلّهم شركاء في الدور الوسائطيّ، مثلما يشعر كلّ فردٍ منهم أنّه شريكٌ في إبداع النصر الذي ينسبه للتوِّ إلى الله، راضيًا بدور الوسيط، مكتفيًا به، محقّقًا بذلك أقصى مراتب التبصّر الخُلُقي بالمعاينة والاختبار والحضور.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* باحث في الفكر السياسي والفلسفي

اخبار مرتبطة

  تاريخ و بلدان

تاريخ و بلدان

نفحات