الملف

الملف

11/05/2020

فرسان المِصر

فرسان المِصر

من النصوص الفريدة والبالغة الدلالة على عظيم منزلة أصحاب الإمام الحسين عليه السلام، النصّ الذي ورد في أكثر من مصدر رئيس من مصادر أحداث كربلاء، وهو ما قاله فيهم رمز الخذلان والتآمر الكوفيّين عمرو بن الحجاج الزّبيديّ، قائد ميمنة عمر بن سعد في كربلاء، فلقد راعه ما رآه من بطولاتهم، وعرف أنّهم إنْ أُتيح لهم أن يواصلوا المبارزة فستكون النتيجة القضاء على كلّ من ينازلهم، ولذلك رفع صوته بالتحذير من مبارزتهم.

* قال الخوارزمي:

 «فقال عمرو بن الحجاج -وكان على الميمنة: ويلكم، يا حُمَقاء، مهلاً! أتدرون مَن تقاتلون؟ إنّما تقاتلون فرسان المصر، وأهل البصائر، وقوماً مُستميتين، لا يبرُزَنَّ منكم أحد إلّا قتلوه على قلّتهم، والله لو لم ترموهم إلّا بالحجارة لقتلتموهم.

فقال ابن سعد: صدقت. الرأي ما رأيتَ، فأرسلَ في العسكر يعزم عليهم أن لا يبارز رجل منكم، فلو خرجتم وحداناً لأتوا عليكم مبارزة».

* وقال في (تجارب الأمم):

«فلم يزل يبارز الواحد من أصحاب الحسين، فيقتل عدّة من أصحاب عمر بن سعد، فقام عمرو بن الحجّاج رافعاً صوته: يا حَمْقى، أتدرون مَن تقاتلون؟ (تقاتلون) فرسان المصر، وقوماً مستميتين، والله لا يبرز لهم منكم أحدٌ إلا قُتل، لا تبرزوا لهم، فإنّهم قليل، وقلَّ ما يبقون، وقد جَهِدهم العطش. فقال عمر بن سعد: صدقتَ. وأرسَل في الناس فعزم عليهم أن: لا يبارز منكم رجل رجلاً منهم.

فأخذت الخيل تحمل، وأصحاب الحسين تثبت، وإنّما هم اثنان وثلاثون فارساً.

فقال عمر: ليتقدّم الرماة إلى هذه العدّة اليسيرة، فليرشقوهم بالنَّبل.

فتقدّموا، فلم يُلبثوهم أن عقروا خيولهم، فصاروا كلّهم رجّالة، وقاتلوا قتالاً لم يُرَ أعظم منه، ولا أشدّ، إلّا أنهم كانوا إذا صرع الواحد منهم، أو الاثنان، تبيَّن ذلك عليهم، وإذا قَتلوا أضعاف عدّتهم من أولئك لم يتبيَّن عليهم.

ووصل الناس إلى الحسين، وقاتل بين يدَيه كلُّ من استَهدف للنّبل، فرمي يميناً وشمالاً، حتى سقطوا، وجعل أصحابه يستقتلون بين يديه، ويسلّمون على الحسين، ويودّعونه، ثم يقاتلون حتى يُقتلوا».

ويكشف التعبير عن أصحاب الإمام الحسين عليه السلام، بـ«فرسان المصر»، عن موقعهم الاجتماعيّ المتميّز، فهم من سادة المجتمع ووجوهه البارزة، إذ المصر الذي هم فرسانه هو الكوفة التي كانت بمنزلة العاصمة الفعليّة للعالم الإسلاميّ، وكانت سِمَتها الأبرز التي تحدّد الموقع الاجتماعيّ، هي الجهاد والفتح، والتي كان الفرز الفرديّ والقبليّ يتمّ على أساسها.

وبديهي أن نتنبه إلى الربط في هذا المِصر آنذاك بين تلازم السابقة الجهادية، غالباً، مع سابقة الإسلام، بما تعنيه من صحبة رسول الله صلّى الله عليه وآله، أو مرتبة التابعين التي تلي الصحابة مباشرة، أو السير في نفس مدارج الصراط المحمّديّ ورَعاً، وفقهاً، وعبادة.

يوصلنا ذلك إلى استنتاج أنّ مصطلح «فرسان المصر» في ذلك المجتمع المجاهد، الذي لم يكن يفصله عن نزول الوحي إلّا ما يقرب من خمسين عاماً، كان يعني ما يدلّ عليه تعبير: أبرز وجوه المِصر وأركانه، وأنّهم اكتسبوا هذا الموقع بحكم خصائص، منها: جميل بلائهم في لَهَوات الحروب، حيث تتجلّى فروسية الفارس، ومنها طول المراس وشدّته، حيث لا يصبح المقاتل فارس المصر بمعزل عن تراكم الرصيد الجهادي، جولةً إثر جولة.

يقودنا ما تقدم تلقائياً، إلى تسجيل ملاحظة برسم الباحثين العسكريّين، حول عمق الحاجة إلى الدراسة المعمّقة لطبيعة المعركة في كربلاء، ومسارها، وهي رهن الإحاطة بالسابقة الجهادية النوعية لفرسان المِصر، ورهن التخصّص العسكري، والتدقيق في نصوص المبارزة والمواجهة.

إننا في الحديث عن أصحاب سيّد الشهداء عليه السلام، أمام قادة عسكريّين كبار، وفيهم من يمتدّ رصيده الجهادي إلى بدر، كما تجد في ترجمة الشهيد زهير بن سليم، أو مَن يحتمل في حقّه ذلك كالصحابيّ الشهيد أنس بن الحارث الكاهليّ، وغيره.

والأصل الأوليّ بالنسبة لمَن شهد بدراً الكبرى، أن يشهد ما بعدها مع رسول الله صلّى الله عليه وآله، وأن يشارك في بعض حروب الفتح، ليكون بعد ذلك -بدلالة حضوره في كربلاء- في طليعة المشاركين في حروب الإسلام ضد الانقلاب على الأعقاب الذي نجمت قرون ناكثيه وقاسطيه والمارقين، ضد خلافة أمير المؤمنين عليه السلام.

ولئن لم يكن أصحاب سيّد الشهداء عليه السلام جميعاً من الصحابة، فإنّهم بالتأكيد -بصورة مباشرة، أو غير مباشرة- خلاصة التجارب الجهادية كلها من بدر إلى كربلاء، ما يجعلهم بحسب المصطلح المعاصر كبار جنرالات العالم الإسلامي، مع فارق جوهري بين طبيعة المصطلح اللادينية اليوم في الغالب، وبين عمق تمازجه مع السابقة الإيمانية والمناقبية آنذاك.

* مشهد من عظيم جهاد فرسان المصر

«قيل لرجل شهد يوم الطف مع عمر بن سعد: ويحَك! أقتلتم ذريةَ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؟

فقال: عضضتَ بالجندل، إنك لو شهدتَ ما شهدنا لفعلتَ ما فعلنا، ثارتْ علينا عصابة، أيديها في مقابض سيوفها، كالأسود الضارية، تحطم الفرسان يميناً وشمالاً، وتُلقي أنفسها على الموت، لا تقبل الأمان، ولا ترغب في المال، ولا يحول حائل بينها و بين الورود على حياض المنيّة، أو الاستيلاء على الملك، فلو كففنا عنها رويداً لأتتْ على نفوس العسكر بحذافيرها، فما كنّا فاعلين لا أُمَّ لك؟».

ويضيء هذا النص على أنّ ما تقدّم من كلام عمر بن سعد برواية الخوارزمي «فلو خرجتم وحداناً لأتوا عليكم مبارزة» ليس من باب المبالغة التي دأب عليها كثير من الرواة، والتي من شأنها أن تضعف اندفاعة الباحث للتفاعل مع ما يتّسم بهذا الطابع، أو يلوح منه ذلك، فلقد كانت ثمّة خشية حقيقيّة من أن يتمكّن هؤلاء الرواسي من تحقيق ما لا يُستطاع عادة، وهو صريح قول القائل: «فلو كففنا عنها رويداً لأتت على نفوس العسكر بحذافيرها».

وقد أورد الطبري أبياتاً لقاتل الشهيد برير بن خضير، يتّصل بسياق الحديث منها، قوله:

ولم ترَ عينى مثلَهمْ في زمانِهــــم

ولا قبلَهم في النـاسِ إذْ أنا يافـعُ

أشدَّ قِراعاً بالسّيوف لدَى الوغَـــى

ألا كلّ مَن يحمي الذِّمارَ مُقـارعُ

وقد صَبروا للطّعنِ والضّربِ حُسَّراً

وقـد نازلـوا لو أنّ ذلك نافـــعُ

 

 

 

اخبار مرتبطة

  أيها العزيز

أيها العزيز

نفحات