أحكام السَّب

أحكام السَّب

25/12/2011

أحكام السَّب

أحكام السَّب
_______الشيخ عبّاس كوراني______

مِن جُملة السُّنَن المهجورة عند كثيرٍ من المسلمين عدم التَّحرُّج من السَّبِّ، وشيوعُه على الألسن، وكأنَّ هذا شيء جائز يُمارَس بشكلٍ عاديٍّ في كثيرٍ من الأوساط.
ولا يُلتَفَت إلى أنَّ اللهَ سبحانه وتعالى أراد للمجتمع الإسلامي أن يَسود فيه الحبّ والوئام، فحَرَّم الله عليه ما يؤدّي إلى النقيض من ذلك. من هنا اقتضت الضّرورةُ التعرُّفَ على السَّبِّ وأحكامه، لِنتَّخِذ منه الموقف المناسب.

قال الرّاغب الأصفهاني في (المفردات) مادّة «سبب»: «السَّبّ هو الشّتم الوجيع، قال تعالى: ﴿وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ..﴾ الأنعام:108».
ومن الملاحظ أنَّ هناك فرقاً بين السَّبِّ والشَّتْم، فالسَّبّ هو ما كان موجِعاً من الشَّتم وليس مُطلَق الشَّتم، كما يُفهَم من كلام الرّاغب المتقدِّم.
* وأمّا السَّبّ المُصطلَح عليه بين المتشرّعة، فقد عرّفه المحقّق الكركي في (جامع المقاصد) بأنّه إسناد السَّابّ ما يَقتضي نقْصَ المسبوب، كَأَنْ يقول عن الآخر (وضيع) أو (ناقص).
وقيل في تعريفه: «أن تَصِف الشّخص بما هو إزراء ونقص. ويدخل في النّقص كلّ ما يوجِب الأذى كالقَذف [أي الإتّهام بالزّنا] والحقير، والوضيع، والكلب، والكافر، والمرتدّ، والتّعيير بشيءٍ من بلاء الله كالأجذم والأبرص». (حدود الشريعة، محمد آصف محسني)

بماذا يتحقّق السَّبّ

لا يَتَحقَّق مفهوم السَّبّ إلَّا إذا تحقَّق في الكلام المُوجَّه للآخرين بقصد الإهانة والهَتْك.
قال الشّيخ الأنصاري رحمه الله: «يُعتبر فيه قصد الإهانة والنّقص».
وقال السيّد الخوئي رحمه الله: «الظّاهر من العُرف واللّغة اعتبار الإهانة والتّعيير في مفهوم السَّبّ وكَوْنه تنقيصاً وإزراءً على المسبوب، وأنّه مُتّحِد مع الشَّتم، وعلى هذا فيدخل فيه كلّ ما يوجب إهانة المسبوب وهتكه كالقذف والتّوصيف بالوضيع واللّاشيء والحمار.. وغير ذلك من الألفاظ الموجبة للنّقص والهتْك، وعليه لا يتحقّق مفهوم السَّبّ إلّا بقصد الهَتك».
وهل يُعتَبر في تحقُّق السَّبّ مواجهة المسبوب بالكلام أم لا؟
في (حدود الشّريعة) أنّه لا يُعتبَر، أيْ أنّه لا يُشترط في صدق السَّبّ أن يكون المسبوب حاضراً حين السَّبّ، بل يتحقّق السَّبّ مع غياب المسبوب أيضاً.

هل يجوز السَّبّ انتقاماً؟

مِن الأعذار التي يَستخدمها النّاس في تبرير سبِّهم للآخرين هو تبادل السُّباب؛ فإذا سَبَّ أحدٌ شخصاً فإنّ الثّاني يعتبر أنّه يجوز له أن يردَّ السَّبّ بِسَبٍّ مثله، فهل هذا العمل يُعتبَر من السَّبّ المحرَّم، وذلك إذا بادر المسبوب إلى سبِّ السَّابّ؟
يدلّ على حرمة سبّ الثّاني [أي مبادرة المسبوب إلى الردّ بالسبّ] رواية عن الإمام الكاظم عليه السلام في رَجلَيْن يتسابّان، قال الإمام عليه السلام: «البادي أظلم»، يعني كلامه عليه السلام أنّ الرّادّ ظالم أيضاً، وكذلك قول الإمام عليه السلام: «وَوِِزرُه ووِِزْرُ صاحبِه عليه»، أيْ أنَّ الثّاني عليه وِزْر، ولكن يُصرَف عن صاحبه.
إلّا أنَّ الكلام في أنَّ تبِعَة الحُرمة المذكورة وهي الوِزر واستحقاق العِقاب هل هو على السَّابّ الثّاني أم هو على البادي بالسَّبّ؟ ذهب العلَّامة المجلسي قدّس سرّه إلى أنَّ التَّبِعة والعِقاب على البادئ بالسَّبَ، قال: «إلّا أنَّ الشَّرع أَسقط عنه (أي الثّاني) المؤاخذة وجعلها على البادئ، وإنّما أسقطَها ما لم يتعدَّ، فإن تعدّى كان هو البادئ في القدر الزّائد».
وكذلك اختار المقدَّس الأردبيلي أنّ العقاب على الأوّل، واختاره السيّد الخوئي رحمه الله ونسَبَه إلى جمعٍ من الأكابر.
ولكن الأظهر هو عدم حُرمة السَّبّ إذا كان انتقاماً، وذلك لبناء العقلاء عليه في الجملة، وللآيات:
قال تعالى: ﴿..فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ..﴾ البقرة:194.
وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ * وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ الشورى:39-42.
وقوله تعالى: ﴿..وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾ الشعراء:227.
إذاً، يجوز السَّبّ للإنتقام بِمثل ما سبّه بلا زيادة، وهكذا يمكن أن يُقال بمثل ذلك في الأذيّة والسّرقة والغِيبة وغيرها، فإنّها تصبح جائزة في فرض الإنتقام لإطلاق الآيات المباركة المتقدِّمة، إلّا في ما عُلِم بدليل لفظي أو قلبي عدم جوازه؛ كالزّنا واللّواط ونظائرهما. (حدود الشريعة)

حُرمة السَّبّ

 لا شكَّ في حرمة السَّبّ بعنوانه كَسَبّ، لوجود روايات تدلّ على ذلك مثل قول النّبيّ صلّى الله عليه وآله: «سباب المؤمن فسوق، وقِتاله كفر، وأكْلُ لحمه معصية، وحُرمة ماله كَحُرمة دمه».
وقال الإمام الباقر عليه السلام في رواية صحيحة: «إنَّ رجلاً من تميم أتى النّبي صلّى الله عليه وآله، وقال: أوْصِني، وكان في ما أوصاه أن قال: لا تسبُّوا النّاس فتكسبوا العداوة لهم». (أصول الكافي)
وكذلك السَّبّ حرامٌ لأنّه ظلم وإيذاء وإذلال، بل وبعنوان كونه قولاً زوراً، وقد قال سبحانه وتعالى: ﴿..وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾ الحج:30. وادُّعي إجماع المسلمين على حُرمة السَّبّ من غير نكير. (حدود الشريعة)
السَّبّ منهيٌّ عنه حتّى لغير الإنسان
لمّا كان السَّبّ من الأمور التي تؤدّي إلى أضرار كبيرة في أخلاقيّة الإنسان، فإنّ هذا السَّبّ منهيٌّ عنه حتى في الطبيعة والزّمن كما في الحديث عن النّبيّ صلّى الله عليه وآله: «لا تسبُّوا الرِّياح فإنّها مأمورة، ولا تسبُّوا الجبال ولا السّاعات ولا الأيّام ولا اللّيالي فتأثموا وترجع عليكم».
وقال صلّى الله عليه وآله: «لا تسبُّوا الدّهر، فإنّ الله يقول أنا الدّهر، لي اللّيل أجدّه وأبليه».

ذِكرُ الأعمال بدل السَّبّ

هل أنّ القضيّة في إصلاح المجتمع هي عمليّة سبٍّ وشتْمٍ بحيث يُظهر كلّ إنسان ما في الآخر من النّقص والوهن، أم أنَّ القضيّة في الواقع هي قضيّة سلوك صحيح وأعمال تصبّ في خير المجتمع ونفعه؟
من هنا نجد أنّ أمير المؤمنين حين سمع أصحابه يسبُّون أهل الشّام نهاهم عن ذلك وأرشدهم إلى الصّواب، وهو ذكرُ أعمالهم السَّيِّئة دون سبِّهم. قال عليّ عليه السلام لأصحابه: «إنّي أكره أن تكونوا سبّابين، ولكنّكم لو وصفتُم أعمالَهم وذكرتم حالَهم كان أصوَب في القول وأبلغَ في العذر، وقلتم مكان سبّكم إيّاهم: أللّهمّ احقن دماءَنا ودماءَهم..».

عقاب السَّبّ

إنّ هناك فرقاً في عقاب مَن يسبّ مؤمناً، ومَن يسبّ نبيّاً أو إماماً وذلك لفداحة الذّنب في الثّاني وعظم الجريمة.
أمّا العقاب لِمَن يسبّ مؤمناً فإنّه التّعزير، والتّعزير هو عقابٌ بما هو دون الحدّ الشّرعي، فإنّه تأديب لا يبلغ الحدّ الشّرعي، وهو أنّ القاضي يعزّره بالضّرب خمسة وعشرين سوطاً. (القاموس الجامع للمصطلحات الفقهيّة)
ففي الرّواية عن عبد الرّحمن ابن أبي عبد الله، قال: «سألتُ الإمام الصادق عليه السلام عن رجلٍ سبَّ رجلاً بغير قذف يعرض به، هل يُجلَد؟ قال الإمام الصادق عليه السلام: عليه تعزير».
وفي رواية أخرى موثّقة عن الصادق عليه السلام: «إنّ عليّاً عليه السلام كان يعزّر في الهجاء، ولا يجلد الحدّ إلّا في الفِرية المصرّحة أن يقول: يا زان، أو يا ابن الزّانية، أو لستَ لأبيك».
وأمّا مَن سبَّ نبيّاً أو إماماً فإنّه يجبُ قتله بلا فرقٍ بين كَون السَّابّ مؤمناً أو مسلماً أو كافراً.
قال المحقّق الحلّي وصاحب الجواهر: «مَن سبَّ النّبيّ جاز لسامعه بل وَجَب قتله بلا خلاف أجده فيه، بل الإجماع بقسمَيه عليه». (الشرائع والجواهر)
وقال الشهيد الثاني: «وفي إلحاق باقي الأنبياء بذلك قوّة، لأنّ كمالهم وتعظيمهم عُلِمَ من دين الإسلام ضرورة، فسبّهم ارتداد». (المسالك)
وفي رواية محمّد بن مسلم الصّحيحة: «فقلتُ لأبي جعفر الباقر عليه السلام: أرأيْتَ لو أنَّ رجلاً الآن سبَّ النّبيّ أيُقتل؟ قال عليه السلام: إنْ لم تَخَف على نفسك فاقتُله».
 وعن الصادق عليه السلام، سأله هشام بن سالم: «ما تقول في رجل سبابة لعليٍّ عليه السلام؟ فقال الإمام عليه السلام: حلال الدّم والله».
وهل قتْل مَن يسبّ النّبيّ أو الإمام يتوقّف على إذن الإمام أم لا؟
قال في (الجواهر): «إطلاق الفتاوى كصريح بعض النّصوص يقتضي عدم التّوقّف على إذن الإمام كما عن (الغنية) الإجماع عليه، بل لا ريب في اندراج السَّابّ من المسلمين في النّاصب الذي ورد فيه أنّه حلال الدّم والمال، وهو كافر باعتبار كوْن فِعله ما يقتضي الكفر، كهتْك حرمة الكعبة والقرآن، والإمام أعظمُ منهما».


اخبار مرتبطة

  آلُ محمّد صلّى الله عليه وآله  بين الحُبِّ والنّصب

آلُ محمّد صلّى الله عليه وآله بين الحُبِّ والنّصب

  سببُ ازديادِ حُبِّ الدّنيا

سببُ ازديادِ حُبِّ الدّنيا

  دوريات

دوريات

25/12/2011

دوريات

نفحات