كلمة سواء

كلمة سواء

20/05/2012

التّأسيس القرآني للحوار
د. محمد الطالبي


أصالةُ حوار الأديان
التّأسيس القرآني للحوار
ــــ د. محمد الطالبي * ــــ

إذا ما أردنا أن نستقصي الجذور الأولى للحوار بين الإسلام وبين سائر الأديان والعقائد، نجدها في ثنايا الآيات القرآنيّة، وفي سُنّة رسول الله صلّى الله عليه وآله. يُخاطب الله تعالى البشر –وبالتّبع نبيُّه الأكرم صلّى الله عليه وآله- بِلُغةِ الفطرة التي جُبلوا عليها، وبمفاهيم وتصوّرات نجدها في صلب أذهانهم.
إذاً، فالحوار الإسلامي مع ما عداه بدأ مع نزول الوحي، لأنّ التنزيل تفاعلٌ مع التاريخ. وقد نزل القرآن الكريم –إلى ذلك- في إحداثيّات الزمان والمكان؛ في وسطٍ نلتقي فيه أوّلاً بالوثنيّة، التي يبدو أنها كانت تمثّل التيار الأكبر في ذلك العصر، وعليه نجد في القرآن حواراً مع الوثنيين.
وإلى هؤلاء الوثنيّين ضمّ ذلك الوسط مجموعاتٍ بشريّة -لعلّها كانت صغيرة من حيث العدد- احتفظت بتعاليم إبراهيم عليه السلام، وبذكرياتٍ عن حياته وما كان يدين به، وهذه المجموعات الصغيرة يشار إليها بـ «الحنيفيّة». ويروى أنّ أجداد النبيّ صلّى الله عليه وآله كانوا – قبل المبعث الشريف– على الحنيفيّة، وهي ديانة توحيديّة بنصّ القرآن الكريم، لم تشُبها شوائب الوثنيّة التي طالت اليهوديّة والنصرانيّة. قال تعالى: ﴿وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملّة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين﴾ البقرة:135.
 
وإلى جانب هؤلاء، نجد قوماً كانوا ماديّين مُلحدين دهريّين، لا يُدخلون في تصوّراتهم للحياة البشريّة البُعد الإلهيّ أو البعد الماورائيّ؛ وهم الذين قال فيهم القرآن: ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ...﴾ الجاثية:24. الماديّة ليست، إذاً، وليدة القرن التاسع عشر، أو وليدة هذا العصر، بل لها جذورها في القديم، وشهادة القرآن عن الدهريّين لا جدال فيها، وكان هؤلاء ينكرون البَعث: ﴿قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ المؤمنون: 82-83، وهناك آيات أُخَرَ تنقل عنهم الإنكار والإستكبار نفسه.
إلى جانب الدّهريّين، يتحدّث القرآن الكريم إلى أهل الكتاب؛ المسيحيّين واليهود الذين تواجدوا في مناطق متفرّقة؛ مثل نجران ويثرب وغيرهما من حواضر الجزيرة العربيّة. والملفت أنّ الخطاب القرآني يؤكّد –في سياق الحوار مع هؤلاء- على حقيقة أنّهم عارفون مسبقاً ببعثة الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله، من خلال ما ورد في كُتُبهم التي توارثوها جيلاً بعد جيل. قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ البقرة:146.
 هكذا نجد القرآن الكريم في حوار مفتوح مع الوثنيّين من ناحية، ومع الدّهريين من ناحية أخرى، ومع أهل الكتاب بصنفَيهما من ناحية ثالثة. وكلّ هذا يدلّ على أنّ القرآن هو كتاب حوار بامتياز..

الدّعوة القرآنية رحمةٌ بالعباد

فالحوار إذاً، بين الإسلام وغيره من الأديان والملل، ليس جديداً، إذ نشأ الإسلام في بيئة تعدّدية تفرض الحوار، وفي هذه البيئة ضبط القرآن بكلّ وضوح أخلاقيّة الجدل، مؤكّداً على الدّعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة وعلى الجدال «بالّتي هي أحسن»، ممّا لا يدع مجالاً للمسّ بكرامة الإنسان الذي أراده الله حرّاً في اختياره.
لقد اتّخذ الحوار أيّام التّنزيل شكلاً جدليّاً، إذ القرآن كلّه دعوة، دعوة لكلّ النّاس للإيمان بالله وبرسالة خاتم أنبيائه ورُسلِه. والمخاطِب هو الله تعالى، مُبشّراً ومُنذراً، كلّ ذلك رحمةً منه ومحبّةً لخلقه، حتى لا يخسر أحدٌ نفسه، و﴿...لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ...﴾النساء:165، إذ في النّهاية ﴿...لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ...﴾ البقرة: 256، و﴿...كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾الأنعام:12. وهكذا فإنّ الجدل القرآنيّ هو رحمة، وغايتُه شرح الصّدور إلى الإيمان عن طريق الإقناع، إذ من طبيعة الإيمان أن يكون اقتناعاً حرّاً أو لا يكون.

* مفكّر من تونس - بتصرّف


اخبار مرتبطة

  أيها العزيز

أيها العزيز

  دوريات

دوريات

  إصدارات أجنبية

إصدارات أجنبية

نفحات