الملف

الملف

منذ 4 أيام

سيماءُ الأنبياءِ وبهاءُ الملوك

سيماءُ الأنبياءِ وبهاءُ الملوك
ملامحُ من سيرة السِّبطِ الأَكبر
ـــــ الإمام الشيخ راضي آل ياسين ـــــ

لعلَّ أفضلَ ما كُتِب في سيرة الإمام الحسن عليه السلام، كتاب (صُلح الحَسن عليه السلام) للإمام الرّاحل الشيخ راضي آل ياسين رحمَه الله.
ما يلي، مختاراتٌ -بتصرّف- لم نلتزم بتَسَلسُلِها في الكتاب، تتناول محطّاتٍ أبرز من سيرةِ السِّبط الأكبر، تقدّمها «شعائر» في أجواء ذكرى مولدِه عليه السلام.
 

قال الإمام الرّاحل الشيخ راضي آل ياسين قدّس سرّه:

الأوصاف 
«لم يكن أحدٌ أشبهَ برسولِ الله صلّى الله عليه وآله من الحسن بن عليّ عليهما السلام خَلْقاً وخُلُقاً وهيأَةً وهَدْياً وسؤدَداً».
بِهذا وصفَه واصفوه. وقالوا: «كان أبيضَ اللّون مشرباً بحمرة، أدعجَ العينَين [الدّعج: أن تكون العين شديدة السّواد مع سعة المُقلة]، سهلَ الخدَّين، كثَّ اللِّحية، جعدَ الشَّعر ذا وفرة [الوفرة: الشَّعر المجتمع على الرّأس أو ما سال منه إلى الأُذُنَين]، كأنّ عُنُقَه إبريقُ فضّة، حَسَن البَدن، بعيد ما بين المنكبَين، عظيم الكراديس [الكردوس: موضع التقاء العَظمَين] ، دقيق المسرُبة، ربعة ليس بالطّويل ولا بالقصير، مَليحاً من أحسنِ النّاس وجهاً».
وقال ابنُ سعد: «كان الحسن والحسين يخضِبان بالسّواد».
وقال واصلُ بن عطاء: «كان الحسن بن عليّ عليهما السلام، عليه سيماءُ الأنبياء وبهاءُ الملوك».


العبادة

حجَّ خمساً وعشرين حجّةً ماشياً، والنجائب لَتُقاد معه، وإذا ذكرَ الموتَ بكى، وإذا ذكرَ القبرَ بكى، وإذا ذكرَ البعثَ بكى، وإذا ذكرَ المَمرَّ على الصّراط بكى، وإذا ذكرَ العرضَ على الله -تعالى ذكرُه- شهقَ شهقةً يُغشَى عليه منها، وإذا ذكرَ الجنّةَ والنّارَ اضطربَ اضطرابَ السّليم، وسألَ الله الجنّةَ وتعوّذ بالله من النّار.
وكان إذا توضّأَ، أو إذا صلّى ارتعدتْ فرائصُه واصفرَّ لونُه.
وقاسم اللهَ تعالى مالَه ثلاث مرّات. وخرجَ من مالِه للهِ تعالى مرَّتين. ثمّ هو لا يمرُّ في شيءٍ من أحواله إلّا ذكرَ اللهَ عزّ وجلّ.
قالوا: «وكانَ أعبدَ النّاس في زمانِه، وأزهدَهم بالدّنيا».

من أخلاقِه عليه السلام

كان في شمائلِه آيةَ الإنسانيّة الفُضلى، ما رآه أحدٌ إلّا هابَه، ولا خالطَه إنسانٌ إلّا أحبَّه، ولا سمعَه صديقٌ أو عدوٌّ وهو يتحدّث أو يخطِب فهانَ عليه أن يُنهي حديثَه أو يسكت.
 وقال محمد بن إسحاق: «ما بلغَ أحدٌ من الشَّرفِ بعدَ رسول الله صلّى الله عليه وآله، ما بلغَ الحسنُ بن عليّ. كان يُبسَط له على باب دارِه، فإذا خرجَ وجلسَ انقطعَ الطَّريق، فما يمرُّ أحدٌ من خلقِ الله إجلالاً له، فاذا علِمَ قامَ ودخلَ بيتَه فيَمرُّ النّاس».
 ونزلَ عن راحلتِه في طريق مكّة فمَشى، فما من خلْقِ الله أحدٌ إلّا نزل ومشى، حتّى سعد بن أبي وقّاص، فقد نزلَ ومشى إلى جنبِه.
 وقال مدرك بن زياد لابنِ عبّاس، وقد أمسكَ للحسن والحسين بالرِّكاب وسوَّى عليهما ثيابَهما: «أنت أَسَنُّ منهما تُمسِكُ لهما بالرِّكاب؟». فقال: «يا لُكَع! وما تدري مَن هذان، هذان ابنا رسولِ الله، أوَليسَ ممّا أنعمَ اللهُ عليَّ به أن أُمسك لهما وأُسَوِّي عليهما!».
 وكان من تواضعِه على عظيمِ مكانتِه أنّه مرَّ بفقراء وضعوا كُسَيراتٍ على الأرض، وهم قعودٌ يلتقطونَها ويأكلونها، فقالوا له: «هلمَّ يا ابنَ رسول الله الى الغداء!»، فنزل وقال: «إنّ اللهَ لا يحبُّ المتكبِّرين»، وجعل يأكلُ معَهم. ثمّ دعاهم إلى ضيافتِه فأطعمَهم وكَساهم.
 وكان من كَرمِه أنّه أتاه رجلٌ في حاجة، فقال له: «اكتبْ حاجتَك في رقعةٍ وارفعْها إلينا». فرفَعَها إليه، فأضعَفَها له [أي أعطاه ضِعفَ ما سأل]، فقال له بعضُ جلسائه: «ما كان أعظمَ بركة الرُّقعة عليه يا ابنَ رسول الله!».
فقال عليه السّلام: «بَرَكتُها علينا أعظَم، حين جُعِلنا للمعروف أهلاً. أمَا علِمتَ أنّ المعروفَ ما كان ابتداءً من غير مسألة، فأمّا مَن أعطيتَه بعد مسألة، فإنّما أعطيتَه بما بذلَ لكَ من وجهِه. وعسى أن يكونَ باتَ ليلتَه مُتمَلمِلاً أَرِقاً، يميلُ بينَ اليَأس والرَّجاء، لا يعلمُ بما يرجعُ من حاجتِه؛ أَبِكآبةِ الرَّد، أم بسرورِ النُّجح، فيأتيك وفرائصُه ترعدُ وقلبُه خائفٌ يخفُق، فإنْ قضيتَ له حاجتَه في ما بذلَ من وجهِه، فإنّ ذلك أعظم ممّا نالَ من معروفِك».
 وجاءَه بعضُ الأعراب، فقال: «أُعطُوه ما في الخزانة!». فوجِد فيها عشرون ألفَ درهم. فدُفِعت إليه، فقال الأعرابي: «يا مولاي، ألا تركتَني أبوحُ بحاجتي، وأنشرُ مِدحَتِي؟». فأَنشأَ الحسن عليه السلام يقول:
نحـــــنُ أنـــــاسٌ نوالُنا خضلْ يَرتـعُ فيـه الرَّجاءُ والأمَلْ
تجـــــودُ قبـــلَ السُّؤالِ أنفسُنا خوفاً على ماء وجهِ مَن يسَلْ.

من مناقبِه عليه السلام


هو سيّدُ شبابِ أهلِ الجنّة، وأحدُ الإثنين اللَّذَين انحصرت ذريّةُ رسول الله صلّى الله عليه وآله فيهما، وأحدُ الأربعة الذين باهلَ بهم النبيُّ نصارى نَجران، وأحد الخمسة (أصحاب الكساء)، وأحد الإثني عشر الذين فرضَ اللهُ طاعتَهم على العباد، وهو أحدُ المُطَهَّرين من الرِّجس في الكتاب، وأحدُ الذين جعلَ الله مودَّتَهم أجراً للرّسالة، وجعلَهم رسولُ الله أحدَ الثّقلين اللَّذَين لا يضلُّ مَن تمسَّك بهما. وهو رَيحانة رسول الله صلّى الله عليه وآله، وحبيبُه الذي يحبُّه ويدعو اللهَ أن يحبَّ مَن أحبَّه.
وله من المناقب ما يطولُ بيانُه، ثمّ لا يُحيط به البيان وإنْ طال.


وصيّةُ الأمير له عليهما السلام

وأمرَه أبوه أميرُ المؤمنين عليه السلام -منذ اعتلّ- أن يصلِّي بالنّاس، وأوصى إليه عند وفاتِه قائلاً: «يا بُنَيّ، أنت وليُّ الأمر وَوَلِيُّ الدّم»، وأشهدَ على وصيّتِه الحسين، ومحمَّداً، وجميعَ وُلدِه، ورؤساءَ شيعتِه، وأهلَ بيتِه، ودفعَ إليه الكتابَ والسّلاح.
ثمّ قالَ له: «يا بُنَيّ، أمرَني رسولُ الله أن أُوصِي إليك، وأن أدفعَ إليك كُتُبي وسلاحي، كما أوصى إليَّ رسولُ الله ودفعَ إلَيَّ كُتُبَه وسلاحَه. وأمرَني أن آمرك، إذا حضرَك الموتُ أن تدفعَها إلى أخيك الحسين». ثمَّ أقبلَ على الحسين فقال: «وأمرَك رسولُ الله أن تدفعَها إلى ابنِك هذا». ثمّ أخذَ بِيَدِ عليِّ بنِ الحُسَين، وقال: «وأمرَك رسولُ الله أنْ تدفعَها إلى ابنِك محمّد. فَأَقْرِئه من رسول الله ومنّي السّلام».


البَيعة

وبُويِع بالخلافة بعد وفاة أبيه عليهما السلام، فقام بالأمر -على قِصر عهدِه- أحسنَ قيام، وصالحَ معاوية في الخامس عشر من شهر جمادى الأُولى سنة 41 -على أصحِّ الرّوايات- فحفظَ الدِّين، وحقنَ دماءَ المؤمنين، وجرى في ذلك وفقَ التّعاليم الخاصّة التي رواها عن أبيه عن جدِّه صلّى اللهُ عليهما. فكانت خلافتُه «الظاهرة» سبعةَ أشهُر وأربعةً وعشرين يوماً "..".
ولولا قوّةُ تأثيرِه في خُطَبِه، وعظيمِ مكانتِه في سامِعيه، لَما تألَّف له جيش، ولا قامت له بعدَهم قائمة. ".."
خرج عليه السلام إلى النّاس، غيرَ ناظرٍ إلى ما يكون من أمرِهم معَه، ولكنّه وقفَ على منبرِ أبيه، لِيُؤَبِّنَ أباه بعد الفاجعة الكبرى في مقتلِه صلواتُ الله وسلامُه عليه.
فقال: «لقد قُبِضَ في هذه اللّيلة رجلٌ لم يسبِقْهُ الأوَّلون، ولا يُدرِكُه الآخرون. لقد كان يجاهدُ مع رسول الله فَيَقِيه بنفسِه. ولقد كان يوجِّهه برايتِه، فيكتنفُه جبرئيل عن يمينِه، وميكائيل عن يسارِه، فلا يرجع حتّى يفتحَ اللهُ عليه. ولقد تُوفِّي في اللّيلة التي قُبِضَ فيها موسى بنُ عمران، ورُفِعَ بها عيسى بنُ مريم، وأُنزِل القرآن، وما خلَّفَ صفراءَ ولا بيضاء، إلّا سبعمائة درهم من عطائِه، أراد أن يبتاعَ بها خادماً لأهله». ".."

***

ووقفَ بحَذاء المنبر في المسجد الجامع -وقد غَصَّ بالنّاس- ابنُ عمِّه «عبدُ الله بن عبّاس بنِ عبد المطّلب»، ينتظرُ هدوءَ العاصفة الباكية المرنّة، التي اجتاحت الحفل، في أعقاب تأبينِ الإمام الحسن لأبيه عليهما السلام.
ثمّ قال -بصوتِه الجهوريّ الموروث- الذي يدوّي في الأرض دويَّ أصواتِ السّماء، وما كان عبد الله منذ اليوم، إلّا داعي السّماء إلى الأرض: «معاشرَ النّاس، هذا ابنُ نبيِّكم، ووصيُّ إمامِكم فَبايِعوه، ﴿يهدي به الله من اتبع رضوانه سبلَ السلام، ويخرجهم من الظّلمات إلى النور بإذنه، ويهديهم إلى صراط مستقيم﴾ المائدة:16».
وفي النّاس إلى ذلك اليوم، كثيرٌ ممّن سمعَ نصَّ رسولِ الله صلّى الله عليه وآله، على إمامتِه بعد أبيه. فقالوا: «ما أحبَّه إلينا وأوجبَ حقَّه علينا وأحقَّه بالخلافة». وبادروا إلى بيعتِه راغبين.
وكان ذلك يوم الواحد والعشرين من شهر رمضان، يوم وفاة أبيه عليه السلام، سنة أربعين للهجرة.

خطبتُه بعدَ البَيعة

ويعود الإمام الحسن عليه السلام -بعد أن أُخِذت البيعة له- فيفتتح عهدَه الجديد، بخطابه التاريخيّ البليغ، الذي يستعرضُ فيه مزايا أهلِ البيت وحقّهم الصّريح في الأمر، ثمّ يُصارحُ النّاسَ فيه بما ينذرُ به الجوُّ المتلبِّدُ بالغيوم من مفاجآتٍ وأخطار.. فيقول، (وهو بعضُ خطابه):
«نحن حزبُ الله الغالبون، وعِترةُ رسول الله الأَقْرَبون، وأهلُ بيتِه الطيّبون الطّاهرون، وأَحدُ الثّقلين اللّذَين خلَّفَهما رسولُ الله في أُمَّتِه، ثاني كتابِ الله الذي فيه تفصيلُ كلِّ شيء، لا يأتيه الباطلُ من بين يدَيه ولا من خلفِه، فَالمعوَّلُ علينا في تفسيرِه، لا نَتَظَنَّنُ تأويلَه بل نتيَقّنُ حقائقَه، فَأَطِيعونا فإنّ طاعتَنا مفروضة، إذ كانت بطاعةِ الله ورسولِه مقرونة، قال اللهُ عزّ وجلّ: ﴿يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولي الامر منكم فان تنازعتم في شيء فردّوه الى الله والرسول..﴾ النساء:59، وقال: ﴿..ولو ردّوه الى الرسول وأولي الأمر منهم لعَلِمَه الذين يستنبطونه منهم..﴾ النساء:83».


خطبتُه بعد الصّلح

تطلَّعَ النّاس، فإذا هم بابنِ رسول الله الذي كان أشبَههم به خَلقاً وخُلقاً وهيبةً وسؤدداً، يخطو من ناحية محراب أبيه في المسجد العظيم لِيصعدَ على منبرِه. وفي غوغاء النّاس وَلَعٌ بالفُضول لا يصبرُ عن استقراءِ الدّقائق من شؤون الكبَراء، فذَكروا لَجْلَجَة معاوية في خطبتِه، ورباطةَ الجَأشِ الموفورةِ في الحَسن وقد استوى على أعوادِه، وأخذَ يستعرضُ الجموعَ الزّاخرةَ التي كانت تضغطُ المسجدَ الرَّحبَ على سعتِه، وكلُّها -إذ ذاك- أسماعٌ مرهفة لا همَّ لها إلّا أن تعي ما يردُّ به على معاوية، في ما خرجَ به عن موضوع الصُّلح، فنقضَ العهودَ وأهدرَ الدّماء وتطاولَ على الأولياء.
وكان الحسن بن عليٍّ عليهما السلام أسرعَ النّاس بديهةً بالقول، وأبرعَ الخُطباء المفوَّهين على تَلوين الموضوعات، فخطبَ في هذا الموقف الدّقيق، خطبتَه البليغة الطويلة التي جاءت من أروعِ الوثائق عن الوضع القائم بين النّاس وبين أهل البيت عليهم السلام، بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله، ووعظَ ونصحَ ودعا المسلمين -في أوّلِها- إلى المحبّةِ والرّضا والاجتماع، وذَكَّرَهم -في أواسطِها- مواقفَ أهلِه، بل مواقفَ الأنبياء، ثمَّ ردَّ على معاوية -في آخرِها- دون أن ينالَه بسبٍّ أو شَتْم، ولكنّه كان بأسلوبِه البليغ، أوجعَ شاتِمٍ وسابّ.
قال: «الحمدُ لله كلّما حمدَه حامد، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلّا الله كلّما شَهِد له شاهد. وأشهدُ أنّ محمّداً عبدُه ورسولُه، أرسلَه بالهدى، وائتمنَه على الوحي، صلّى الله عليه وآله وسلّم.
أمّا بعد، فوَاللهِ إنّي لَأرجو أنْ أكونَ قد أصبحتُ بحمدِ الله ومنِّه، وأنا أنصَحُ خَلْقِ الله لخلقِه، وما أصبحتُ محتملاً على مسلمٍ ضَغينة، ولا مُريداً له سوءاً ولا غائلة. ألا وإنَّ ما تكرهون في الجماعة، خيرٌ لكم ممّا تحبُّون في الفُرقَة، ألا وإنّي ناظرٌ لكم خيراً من نظرِكم لأنفُسِكم، فلا تُخالفوا أمري، ولا تردُّوا عليَّ رأيي. غفرَ اللهُ لي ولكم، وأرشَدَني وإيّاكم لِما فيه المحبّةُ والرّضا».
ثمّ قال صلوات الله عليه: «أيُّها النّاس، إنّ الله هَداكم بأوَّلِنا، وحقنَ دماءَكم بآخرِنا، وإنّ لهذا الأمرِ مدّة، والدّنيا دُوَل. قال الله عزّ وجلّ لنبيّه محمّدٍ صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿..وإن أدري أقريبٌ أم بعيدٌ ما توعدون * إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون * وإنْ أدري لعله فتنة لكم ومتاع الى حين﴾ الأنبياء:109-111».
ثمّ قال عليه السلام: «..
وإنّ معاويةَ زعمَ لكم أنّي رأيتُه للخلافة أهلاً، ولم أرَ نفسي لها أهلاً، فَكَذِب معاوية. نحن أَولى النّاس بالنّاس في كتابِ اللهِ عزّ وجلّ، وعلى لسانِ نبيِّه. ولم نزَلْ -أهلَ البيت- مظلومين منذ قبضَ اللهُ نبيَّه. فالله بينَنا وبين مَن ظَلَمَنا، وتَوثَّبَ على رقابِنا، وحملَ النّاس علينا، ومنعَنا سهمَنا من الفَيء، ومنعَ أُمَّنا ما جعلَ لها رسولُ الله. وأُقسِمُ باللهِ لو أنّ النّاسَ بايعوا أبي حين فارقَهم رسولُ الله، لَأَعطَتهم السّماءُ قَطْرَها، والأرضُ بَرَكَتَها، ولَمَا طَمِعْتَ فيها يا معاوية.. فَلَمّا خَرَجَتْ مِن مَعدِنِها، تنازعَتْها قريشٌ بينَها، فطمعَ فيها الطُّلَقاءُ وأبناءُ الطُّلَقاء، أنتَ وأصحابك. وقد قال رسولُ الله: ما وَلَّتْ أُمّةٌ أمرَها رجلاً وفيهم مَن هو أعلمُ منه، إلّا لم يزَل أمرُهم يذهب سفالاً، حتّى يرجعوا إلى ما تركوا. فقد ترك بنو إسرائيل هارونَ وهم يعلمون أنّه خليفةُ موسى فيهم، واتَّبعوا السّامِريّ، وتركت هذه الأُمّةُ أبي، وبايعوا غيرَه وقد سمِعوا رسولَ الله يقول له: أنت منّي بمنزلة هارونَ من موسى إلّا النّبوّة، وقد رَأَوا رسولَ الله نصبَ أبي يومَ غدير خُمّ، وأمرَهم أن يبلغَ أمرَه الشاهدُ الغائبَ. وقد هربَ رسولُ الله من قومِه وهو يدعوهم إلى الله، حتّى دخلَ الغار، ولو أنّه وجدَ أعواناً لَما هرب، وقد كفَّ أبي يدَه حين ناشدَهم واستغاثَ فلم يُغَث. فجعلَ اللهُ هارونَ في سعةٍ حين استضعفوه وكادوا يقتلونَه، وجعل اللهُ النبيَّ في سعةٍ حين دخلَ الغارَ ولم يجِد أعواناً. وكذلك أبي وأنا في سعةٍ من الله، حين خَذَلَتْنا هذه الأُمّةُ وبايعوكَ يا معاوية، وإنّما هي السُّنَنُ والأمثال، يتبَعُ بعضُها بعضاً».
ثمّ قال: «فَوَالّذي بعثَ محمّداً بالحقّ، لا ينتقصُ من حقِّنا -أهلَ البيت- أحدٌ إلّا نقصَه اللهُ من عملِه، ولا تكون علينا دولةٌ إلّا وتكون لنا العاقبة، وَلتعلَمُنَّ نبأَه بعدَ حين
».
ثمّ دار بوجهه إلى معاوية ثانياً، لِيَرُدَّ عليه نيلَه من أبيه، فقال -وما أروعَ ما قال-:
«أيُّها الذّاكِرُ عليّاً! أنّا الحسنُ وأبي عليّ، وأنت معاوية وأبوك صخر، وأمُِّي فاطمة وأُمُّك هند، وجدِّي رسولُ الله وجدُّك عتبةُ بنُ ربيعة، وجدّتي خديجة وجدّتُك فُتيلة، فَلَعَنَ اللهُ أخملَنا ذِكراً، وأَلْأَمَنا حَسَباً، وشرَّنا قديماً وحديثاً، وأقدَمَنا كفراً ونِفاقاً!!».
قال الرّاوي: «فقال طوائفٌ من أهل المسجد: آمين. قال الفضلُ بنُ الحسن: قال يحيي بن معين: وأنا أقولُ آمين. قال أبو الفرج: قال أبو عبيد: قال الفضل: وأنا اقولُ آمين. ويقول عليُّ بنُ الحسين الاصفهاني (أبو الفرج): آمين. قال ابنُ أبي الحديد: قلت: ويقول عبد الحميد بنُ أبي الحديد مصنِّف هذا الكتاب (يعني شرح النهج): آمين».
أقول: ونحن بدورنا نقول: آمين.
وهذه الخطبة هي الوحيدة في تاريخ الخطابات العالميّة، التي حَظِيت بهتاف الأجيال على طول التاريخ.

بعضُ عِقاب الكوفة

وصبَّ اللهُ على الكوفة بعدَ خروج آل محمّدٍ منها، الطّاعونَ الجارف، فكان عقوبتها العاجلة على موقفِها من هؤلاء البَررة المَيامين. وهرب منها والِيها الأموي [المغيرة بن شعبة] خوفَ الطّاعون، ثمّ عاد إليها فطُعِنَ به فمات.

في المدينة المنوَّرة

ورجع [الإمام الحسن عليه السلام] بعدَ توقيع الصّلح إلى المدينة، فأَقامَ فيها، وبيتُه حرمُها الثّاني لأهلها ولِزائريها.
والحسنُ من هذَين الحرَمين، مشرقُ الهداية، ومعقلُ العلم ومَوئِلُ المسلمين. ومن حولِه الطّوائفُ التي نفرَتْ من كلّ فرقةٍ لتتفقَّهَ في الدّين، ولِتُنذرَ قومَها إذا رجعتْ إليهم. فكانوا تلامذتَه وحَمَلَة العِلم والرّواية عنه. وكان بما أتاحَ اللهُ له من العِلم، وبما مكَّنَ له في قلوبِ المسلمين من المقام الرّفيع، أقدرَ إنسانٍ على توجيهِ الأُمّة وقيادتِها الروحيّة، وتصحيحِ العقيدة، وتوحيدِ أهلِ التّوحيد.
وكان إذا صلّى الغداةَ في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وآله جلسَ في مجلسِه، يذكرُ الله حتّى ترتفعَ الشّمس، ويجلس إليه مَن يجلسُ من ساداتِ النّاس يُحدِّثهم. قال ابنُ الصّباغ في (الفصول المهمة): «ويجتمعُ النّاسُ حولَه، فيتكلّم بما يشفي غليلَ السّائلين، ويقطع حُجَجَ المُجادلين».

رفضُه الإعدادَ للحربِ بعدَ الصّلح

لا يعهَد من الحسن صلوات الله عليه بعد توقيعِه الصّلح، أيُّ محاولةٍ لِنَقضِ شرطِه هذا، ولا التّحدُّث بذلك، ولا الرّضا بالحديثِ عنه.
جاءَه زعماءُ شيعتِه بعد أنْ أعلنَ معاويةُ التخلُّفَ عن شروطِه، فعرضَوا عليه -وقد رجعَ إلى المدينة- أنفسَهم وأتباعَهم للجهاد بين يدَيه، ووعدَه الكوفيّون منهم بإخلاءِ الكوفة من عاملِها الأمويّ، وضمِنوا له الكُراعَ [جماعة الخَيل] والسّلاحَ لإعادة الكرَّةِ على الشّام، فلم تهزَّه العواصفُ ولا قلقَلتْه حوافزُ الأنصار المُتَوثِّبين.
فقال له سليمانُ بن صُرَد، وهو إذ ذاك سيّدُ العراق ورئيسُهم (على حدّ تعبير ابنِ قُتيبة عنه): «وزعمَ -يعني معاوية- على رؤوسِ النّاس ما قد سمِعت: إنّي كنتُ شَرَطتُ لقومٍ شروطاً ووعدتُهم عِداتٍ ومَنَّيتُهم أمانيّ.. فإنّ كلّ ما هنالك تحتَ قدميَّ هاتين، ووَاللهِ ما عَنَى بذلك إلّا نَقْضَ ما بينَك وبينَه، فَأَعِدِ الحربَ جذعة [أي من جديد] وأْذَنْ لي أشخصْ إلى الكوفة، فَأُخرِج عاملَها منها، وأُظهِرَ فيها خَلْعَه، وانْبِذ إليه على سواء، إنَّ الله لا يهدي كيدَ الخائنين».
ثمّ سكتَ ابنُ صُرَد، فتكلَّمَ كلُّ مَن حضرَ مجلسَه بمثلِ مقالتِه، وكلُّهم يقول: «إبعثْ سليمانَ بن صرَد وابعثنا معَه، ثمّ الْحَقنا، إذا علمتَ أنّا قد أشخَصنا عاملَه، وأظْهَرنا خلْعَه».
وجاءَه -أيضاً- حجر بن عَديّ الكِندي، ومركزُه القويّ في العراق [هو المحور].
وجاءَه المسيَّب بن نَجَبة، فارسُ مُضَر الحمراء كلِّها، إذا عُدَّ من أشرافها عشرةً كان هو أحدهم، على حدِّ تعبير زفر بن الحارث الكِلابي عنه.
وجاءَه آخرون من نُظرائِهم، وكلُّهم لم يحظَ من الحسن عليه السلام إلّا بالرّدِّ الجميلِ والاستمهالِ إلى موتِ معاوية، لأنّه صاحبُ عهدِه في ما تعاهدا عليه، ولأنّه كان قد درسَ من أحوال الكوفة في تجربتِه الأولى، ما أغناه عن تجاربَ أُخرى.
وكان آخر جوابِه إليهم قوله: «لِيَكُن كلُّ رجلٍ منكم حِلْسَاً من أحلاس بيتِه [الحِلس كساء رقيق يكون تحت بُرذعة الخيل، ولِرقّته يلتصق بالبرذعة أو السِّرج] ما دامَ معاويةُ حيّاً، فإنْ يهلَك معاوية، ونحن وأنتم أحياء، سَأَلْنا اللهَ العزيمةَ على رشدِنا، والمعونةَ على أمرِنا، وأنْ لا يكِلَنا إلى أنفسِنا، فإنّ الله مع الذين اتّقَوا والذين هم مُحسِنون».


الشّهادة

والنّصوصُ على اغتيالِ معاوية الحسنَ عليه السلام بالسّمِّ متضافرةٌ كَأَوضحِ قضيّةٍ في التّاريخ. ذكرَها صاحبُ (الاستيعاب)، و(الإصابة)، و(الإرشاد)، و(تذكِرة الخَواصّ) و(دلائل الامامة)، و(مقاتل الطالبيّين)، والشّعبي، واليَعقوبي، وابنُ سعد في (الطّبقات)، والمدائني، وابنُ عساكر، والواقدي، وابن الاثير، والمَسعودي، وابنُ أبي الحديد، والمرتضى في (تنزيه الانبياء)، والطّوسي في (أماليه)، والشّريف الرّضي في (ديوانه)، والحاكم في (المستدرك)، وغيرُهم.
 وقال في (البَدء والختام): «وتُوفِّي الحسنُ سنة 49 للهجرة. سمَّتْهُ جعدة بنت الأشعث بما دسَّه معاويةُ إليها، ومنّاها بزواجِ ولدِه يزيد، ثمّ نقضَ عهدَها».
 وقال ابنُ سعد في (طبقاته): «سمَّه معاويةُ مراراً».
 وقال المدائني: «سُقِيَ الحسنُ السّمَّ أربعَ مرّات».
 وقال الحاكم في (مستدرَكه): «إنّ الحسن بنَ عليّ سُمَّ مراراً. كلُّ ذلك يسلم حتّى كانت المرّة الأخيرة التي ماتَ فيها، فإنّه رمى كبدَه».
 وقال اليعقوبي: «ولمّا حضرَته الوفاةُ قال لأخيه الحسين: يا أخي، إنّ هذه آخرُ ثلاثِ مرّاتٍ سُقِيتُ فيها السّمَّ، ولم أُسْقَهُ مثلَ مَرَّتِي هذه، وأنا ميّتٌ من يومي، فإذا أنا مِتُّ فادفِنّي مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فما أحدٌ أَولى بقُربِه منّي، إلّا أنْ تُمنَعَ من ذلك، فلا تسفِك فيه محجمةَ دَم!».

اخبار مرتبطة

  أيّها العزيز

أيّها العزيز

  دوريات

دوريات

منذ 4 أيام

دوريات

  كتب أجنبيّة

كتب أجنبيّة

منذ 4 أيام

كتب أجنبيّة

نفحات