فكر ونظر

فكر ونظر

20/07/2012

»صوموا لرؤيتِه، وأفطِروا لرؤيتِه»

»صوموا لرؤيتِه، وأفطِروا لرؤيتِه»
بين الحقيقة والتَّظنّي
_____ كمال زهر*_____

ليس الخلافُ في تحديدِ زمنِ ولادة الهلال، بل في تحديد ضابطةٍ كليّة وقاعدة عامّة لرؤية الهلال، وهي عند الفلكيّين من المستحيلات أو ما يُشبِهها.
مقاربة لمسألة إثبات أوّل الشّهر، تُضيء على حيرة البعض بين اعتماد الولادة وإمكانيّة الرؤية -المختلَف في تحديدِها بين الفلكيّين- ومغالطة أخْذ الرؤية في النصِّ المعصوم على نحو «الطّريقيّة».
 

﴿يسألونك عن الأهلّة قل هي مواقيت للناس والحج..﴾ البقرة:189
من المعروف أنَّ الطُّرُق والوسائل التي اتَّبعها الباحثون حتّى يومنا هذا لم تتوصَّل إلى حلِّ مشكلة رؤية الهلال بصفة قطعيّة ونهائيّة.
فقد وضعوا لذلك نظريّات يَنسخ الحديثُ منها القديم، وكلُّها تَعتمد على تجارب ومشاهدات تمَّت في بُقَعٍ معيَّنة من الأرض. بل هي جاءت متناقِضة -كما يعترف أصحابها- أو على الأقلّ تعاني من النَّقص والعائق. والذي يقول أنَّه يستطيع تحديد أوائل الشُّهور من الآن وإلى عشرات السِّنين، يُقرُّ بأنّه لا يَعتمد على الأرصاد بل على الحسابات، التي قد لا تخطىء من حيث كَوْنها معادلة مضبوطة وصحيحة، لكنَّ انطباق تلك المعادلات على الواقع الخارجي هو محلّ الشّكِّ والرَّيْب.
وخاصَّةً إذا عرفنا أنَّ هناك عوامل كثيرة تدخل على حركة القمر التي تختلف عن حركة الكواكب الأخرى، ومن هذه العوامل: دَوَرانه حول نفسه حيث يجعل من الصَّعب تحديد الجهة التي يكون فيها مواجهاً للأرض في اللّحظة الفلانيّة، فقد تكون الجهة المواجهة هي تلك التي تستقبل المقدار الأقلّ من ضوء الشمس وقد يكون العكس.
أضف إلى ذلك، حركة القمر الإنسحابيّة السّريعة بجوار الأرض ومَساره، الذي هو ليس دائريّاً تماماً، ونواحي السَّطح القمري المختلفة التي تعكس كميّات متفاوتة من الضَّوء.
أيضاً ظروف المشاهدة: نسبة التَّلوُّث، ودرجة الحرارة، الغلاف الجوِّي، الرُّطوبة، أيضاً حدَّة البَصَر، وظاهرة انكسار الضَّوء وانعكاسه، وتشتُّته في الهواء، وأمور أخرى كثيرة لها تأثيرها على إمكانية الرُّؤية وعدمها، قد تكون غائبة عن الرّاصد الفلكي لأنَّها قد تكون وليدة ساعتِها ويومها بحيث لا يستطيع التنبُّؤ بها قبل حدوثها بفترة زمنيّة.
وقد التفتَ أصحاب التّقاويم إلى هذه الأمور من النّاحية الشرعيّة، فيقول المهندس محمّد علي الصائغ -على سبيل المثال لا الحصر- في بداية تقويمه الذي يُعتبر من أهمّ التّقاويم الإسلاميّة:
«إنَّ الحسابات المذكورة حسابات تقريبيّة تفيد الظّنّ القوي أو الإطمئنان في بعض الأحيان، ولا تفيد العلم اليقين، ولذلك لا بدَّ من الأخذ بعين الإعتبار الأدلّة الشّرعيّة الدّالّة على حجِّيّة شهادات الثُّقاة».
ثمَّ إنَّ الفلكيِّين قد اختلفوا في تحديد الزَّمن اللّازم مروره من وقت الإقتران إلى وقت التّمكُّن من رؤية الهلال رؤية بصريّة في الجو الصَّحْو وبالبصر الطّبيعي والحواس السّليمة، ونلاحظ الفرق الكبير بالسّاعات، فهو من 7,16 ساعة إلى أكثر من 21 ساعة بعد الإقتران، وبالبُعد عن الشّمس من 4 إلى 12 درجة، والمكث بعد الإقتران من 16 دقيقة إلى 50 دقيقة.
ويقول المهندس الصائغ:
«وقد رأينا أنَّ هلالاً قد ثبت شرعاً مع انعدام أهمّ شروط الرُّؤية، كما أنَّ هلالاً استجمع كلّ الشّروط من النّاحية النّظريّة ولكنّه صعب على الرّؤية إلى درجة أنّه لم يَرَه إلَّا عدد قليل جداً، مع أنَّ مكثه كان حوالي 28 دقيقة. فهلال شهر شوّال لعام 1415 هجريّة كان يمكث في بلدان المنطقة وقتاً قصيراً، ففي الكويت مثلاً كان مَكْثه أقلّ من عشر دقائق، وكان ارتفاعه أقلّ من درجتين، وبُعدُه الزّاوي حوالي 4,41 درجة، وهو لا يعطي فرصة لتَخلُّق النُّور الكافي للرُّؤية (ما زال تحت شعاع الشّمس)، وكان هناك قَطْع لدى الفلكيِّين بعدم إمكانية الرؤية، ومع ذلك فإنَّ الهلال ثبت بالرُّؤية الشّرعيّة، ومِن قِبَل جمع كبير».


هل يوجد إختلاف في الحقائق العلميّة؟

وإذا كانت المسألة قد وصلت إلى درجة الحقيقة العلميّة، فلماذا يختلف أصحاب التّقاويم في بدايات الشُّهور دائماً؟
لذا فالمسألة ليست في تحديد زمن ولادة الهلال، بل في تعيين ضابطة كلّيّة لرؤية الهلال، والتي هي من المستحيل عند الفلكيّين، أو على الأقلّ هي شيء غير سهل، ولم يصل إلى درجة الدِّقّة والثِّقة العلميّة، كما يصرِّحون بذلك.
هذا غَيْضٌ من فَيْض، ممّا يدلّ على عدم إمكانيّة الإعتماد في أمر الهلال على عِلْم الفَلَك وعلى المراصد؛ فإنَّ هذا العلم مهما تقدَّم، فلن يكون بديلاً عن الوسائل الإلهيّة التي أراد الله لعباده أن يصلوا من خلالها إلى أداء تكاليفهم الشرعيّة.
أضِف إلى ذلك كلِّه -من النّاحية الشرعيّة للمسألة- أنَّ هناك طُرُقاً للشّارع خاصّة به، كعدم قبول شهادة العدل الواحد، وشهادة الصَّبي، وشهادة الثّقة غير العدل، وشهادة النساء -كما هو متّفق عليه عند كافّة العلماء- واعتبروا أيضاً أن عدم قبول شهادة النّساء إنَّما جاء على سبيل التّعبُّد، وهذا صحيح، فمّن يقول هذا كيف يمكنه أن يجزم بكفاية قول أهل الفلك، أو بجواز الإعتماد على الوسائل العلميّة؟! فلعلَّ ثمَّة تعبُّداً شرعيّاً في تحديد وسائل الثُّبوت، يَمنع من الإعتماد على غير الرُّؤية، فإن قيل أنَّ قَوْل الفلكي حجّة لإفادته للعلم، فنقول: إنَّ إفادته للعلم مجرَّد دعوى تَنفيها تصريحات علماء الفلك أنفسُهم، وتَنفيها تناقضاتهم الظَّاهرة بعضهم مع بعض، بالإضافة إلى عدم صحّة إخباراتهم في أحيان كثيرة.
أضِف إلى ذلك أنَّ الكلام ليس هو في حجِّيّة العلم والقطع بالهلال، فإنَّ العِلْم حجَّة بنفسه، بل الكلام في حجِّيَة قول الفلكي بغض النّظر عمّا ينشأ عنه (مِن علم، أو ظنّ، أو شكّ، أو إحتمال...).
وقد يقول قائل إنَّ المهمّ هو وجود الهلال، والمعرفة بوجوده، من أيِّ طريق جاءت تلك المعرفة، مع اشتراط وجود كمّيّة من النّور في الهلال تجعله قابلاً للرُّؤية.
إلّا أنّ الرُّؤية إنْ كنت طريقاً ووسيلة إثبات كسائر الوسائل، فهي لا توجب أيّ تصرُّف في موضوعها، ولا يُزاد ولا يُنقص فيه لأجلها، والحاصل أنَّه لا يمكن أن يكون الطّريق للشّيء موجباً للتّصرُّف في ذلك الشّيء.
إذ لا بدَّ من ثبوت الموضوع وحدوده وقيوده واقعاً، إستناداً إلى علَّته الخاصّة به، ثمّ تكون الرُّؤية كاشفة عنه، وطريقاً إليه كغيرها من الكواشف والطُّرُق.



فاسألوا أهلَ الذِّكْر..

وأخيراً لا بدَّ من الأخذ بروايات أهل البيت الأطهار عليهم السلام الصّحيحة والكثيرة في وجوب الإعتماد على الوسائل التي شرَّعها الله سبحانه لعباده وارتضاها لهم.
*فعن النّبيّ محمّد صلّى الله عليه وآله: «صوموا لرؤيته وأفطِروا لرؤيته».
*وقال الإمام الباقر عليه السلام: «إذا رأيتُم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، وليس بالرّأي ولا بالتّظنِّي ولكن بالرُّؤية».
*وعن الإمام الصادق عليه السلام: «صُمْ لرؤيته وأَفْطِر لرؤيته، وإيَّاك والشّكّ والظّنّ، فإنْ خَفِي عليكم فأتمُّوا الشّهر الأوّل ثلاثين». وعنه عليه السلام: «ليس على أهل القبلة إلَّا الرُّؤية، وليس على المسلمين إلَّا الرُّؤية».
*وعن الرِّضا عليه السلام: «صيام شهر رمضان بالرُّؤية وليس بالظّنّ».
والكثير من الرّوايات الصّحيحة الواردة في هذا المجال في كتاب (وسائل الشّيعة) وغيره من الكُتُب المعتبرة. أضف إلى ذلك أنَّه لا يوجد من المراجع -من المتقدِّمين والمتأخِّرين- مَن يقول بحِجِّيّة الحسابات الفلكيّة في إثبات أوّل الشهر القمري إطلاقاً.
وقد سئل السيِّد الخوئي في كتاب (المسائل الشّرعيّة): لو حصل الإطمئنان الشّخصي بصحّة الحسابات الفلكيّة لتوليد الهلال، فهل يمكن الإعتماد على هذا الإطمئنان في إثبات أوَّل الشَّهر أو العيد مثلاً؟ خاصّة إذا صدرت عن أهل الخبرة في هذا المجال؟
فأجاب سماحته: لا أثر للإطمئنان بتوليده، بل ولا الإطمئنان بقابليَّته للرُّؤية، بل لا بدَّ من الرُّؤية خارجاً وثبوتها للمكلَّف.
______________
* باحث في القضايا الإسلاميّة - لبنان


اخبار مرتبطة

  أيّها العزيز

أيّها العزيز

  دوريات

دوريات

20/07/2012

دوريات

  كتب أجنبيّة

كتب أجنبيّة

نفحات