بسملة

بسملة

16/10/2012

بساطةُ العَيش، والعدالةُ الإجتماعية

بساطةُ العَيش، والعدالةُ الإجتماعية
 الشيخ حسين كَوْراني
الحجُّ سفرٌ في عالَم الشّهادة، يتمُّ خلالَه تعزيزُ حتميّة السّفر الأكبر من هذا العالَم إلى عوالم الآخرة.
ذروةُ هذا التّعزيز ارتداءُ ثوبَي الإحرام كمفصلٍ واصلٍ بين التّخفُّف من أعباء الدّنيا المادّية والمعنويّة، وبين ما بعد الإحرام: التّلبية والطّواف، والسَّعي، وتجديد التّوبة بالمعرفة والإعتراف -والحجُّ عَرَفَة- والممانعةِ والتّضحية.
القاسمُ المشترَك بين دلالات هذَين الثّوبين وبين ما قبلهما وما بعد، هو «بساطة العيش والمَظهر»، رفضاً لكلّ تعابير التَّشيئة والتّزييف لحقيقة الإنسان، وانسجاماً مع جوهرة «الرُّوح أوّلاً».
والسابعُ من آداب الحجّ -حسب العلّامة ابن ميثم البحراني في (شرح نهج البلاغة)- أن يخرج -الحاجّ- رثَّ الهَيْئة، أقربَ إلى الشّعَث، غيرَ مستكثرٍ من الزّينة وأسبابِ التّفاخر، فيخرج بذلك عن حزب السّالكين وشعار الصّالحين.
أضافَ البحراني: ورُوي عنه صلّى الله عليه وآله أنّه قال: «إنّما الحاجّ الشُّعِثُ التُّفِث. يقول اللهُ تعالى لملائكته: انظُروا إلى زوّارِ بَيتي قَد جَاؤوني شُعْثاً غُبْراً من كلِّ فجّ».
***
تلتقي في الحجّ بساطةُ عيش الحاكم، والمحكوم، وهما في الإسلام مُتماهيتان -وإن فرَّق بينهما في المسلمين صروفُ اللّيالي والإمبراطوريات، والغزوِ الثّقافي والتّغريب- بل على الحاكم أن يعيش كَأَفْقَرِ النّاس. قال عليٌّ عليه السلام: «إنّ الله عزّ وجلّ فَرَضَ على أئمَّة العدل أنْ يقدّروا أنفسَهم بضَعَفةِ النّاس كي لا يتبيّغ بالفقيرِ فقرُه». والتبيُّغ: الهَيَجان.
يتّسع مفهومُ «إمام العدل» ليشمل كلَّ مسؤول من «مُختار» الحيّ المؤمن، إلى وليِّ الأمر. وإن أبيْتَ فإنّ مفهومَ الزّهد يتّسعُ ليشملَ كلَّ فردٍ مسلم.
لوحة ثوبَي الإحرام، والتّحلّلِ من قيود المال والشّهوات، هي صورةُ الإجتماع الدّيني النّقيةُ -نظريّاً- من الحرص فضلاً عن الجَشع، أسوأ مظاهرِه.
الإنسانُ في الدّنيا على جَناح سفر. يكفي المسافرَ البُلْغَة. يُقِلُّ العُرجَةَ على الدُّنيا. «وما عسى أن تكونَ الدّنيا؟ هل هي إلا مَرْكَبٌ ركِبتَه، أو ثوبٌ لَبِستَه، أو أكلةٌ أكلتَها».
«حسبُ ابن آدمَ لقيماتٌ يُقِمْن صُلبَه، فإنْ كان فاعلاً لا محالة فثُلثٌ لطعامِه، وثُلْثٌ لشرابه، وثلثٌ لنَفَسه».
﴿وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون﴾ العنكبوت:64.
هكذا تتبدّى روعةُ التَّناسق والإنسجام في البناء الدّاخلي لمنظومة ثقافة «الأحكام الخمسة». لا يناسب ثوبَي الكفن الحتميَّين، إلّا ثقافة ثوبَي الإحرام، ولا يناسب ثوبَي الإحرام ودوامَ السّفر إلّا ترسيم سقف الأخْذ من الدّنيا. هذا «الأخذ» وسيلة. ليس «وطناً نهائيّاً» يقوم على شَفا «هَلْ من مَزيد».
***
تكتملُ معالمُ فرادة المشهدِ حين تشرقُ على قلوب الأجيال في خطِّ العقل سيرةُ سيّد النّبيِّين، واستمرارِها، الإمام عليّ صلّى الله عليهما وآلهما، وسيرة الصّحابة الأبرار المُقتَدين بهما:
«حجَّ رسولُ الله صلّى الله عليه وآله على راحلتِه، وكان تحتَه رَحْلٌ رثٌّ وقطيفةٌ خَلِقَة، قيمته أربعة دراهم، وطافَ على الرّاحلة لينظرَ النّاسُ إلى هيئتِه وشمائلِه، وقال: خذوا عنّي مناسكَكم»!!
هل يمكن التّوزيع العادل للثروة البشريّة، وحلّ «المشكلة الإجتماعية» في أربع رياح الأرض، وإقامة العدل، دون ترسيم سقفِ «الأخذ من الدُّنيا»؟
هل يُجدي هذا التّرسيمُ إنْ لم يكن الحاكم أشدَّ التزاماً به من سائر النّاس.
المشكل الإجتماعي في العمق، أزمةُ نظام الحكم والإدارة. جوهرُ هذا النّظام هو ثقافةُ المسؤول.
الحجُّ في الجوهر ثورةٌ على السّائد الثّقافي الذي يستهوي النّفْسَ البشريّة، ويخاتلُها ليخدعَها فتَتصاغرَ أمام بهارج السِّلَع وكثرة الأكل وشِرَّة الحِرص.
ما أشدَّ التّرابطَ بين ثوبَي الإحرام، والثّورة على الظّلم والظّالمين. تُختَم دورةُ الإحرام بالرَّجم، والتّضحية، وتثبيت الطّواف حولَ حقيقة التّوحيد والبراءة من كلِّ شركٍ معلَنٍ وخفيّ. ﴿وَإِلَى اللهِ المَصِيْر﴾.
***
بساطةُ العَيش، هي المنطلَق والمسار، وحسنُ العاقبة والمصير. هي بساطةُ التّعامل مع الجسد لحفظِه فلا يفسد بالتَّرف «كما يفسدُ الزّرعُ بكثرة السّقي». قال صلّى الله عليه وآله: «لا تُمِيتوا القلوبَ بكثرَة الطّعام والشّراب، فإنّ القلبَ كالزَّرع يموتُ إذا كثُر عليه الماء».
بساطةُ العيش -إذاً- حياة الرُّوح. سموُّ التّحلّي بمكارم الأخلاق والقِيَم.
عن النّبيّ صلّى الله عليه وآله: «أَديموا قَرْعَ باب الجنّة يُفتَحْ، قيل: وكيف نُديمُ قرْعَ باب الجنّة؟ قال: بالجوعِ والظَّمَأ».
يبدأُ الخلَل باستجابة النّفس للتّزييف والبَهرجة. يبلغ الزَّيفُ حدّ «تَشيئة» حقيقة الإنسانيَّة، ونسيان الرّوح. والمآل إنكارُ الغيب وعوالم المَعنى. المآل تَشيئةُ الوجود، وتغليبُ الحواسِّ على العقل. إقامةُ المزاج ونَكرائِه مقامَ المنطق والعقل والدّليل والبرهان.
بدايةُ الإستجابة للتّزييف -في الغالب- أكْلَة. قال الصّادق عليه السلام: «إنّ البطنَ لَيَطغى من أَكْلَة، وأقربُ ما يكون العبدُ من الله إذا خفَّ بطنُه، وأبغضُ ما يكون العبدُ إلى الله إذا امتلأَ بطنُه».
ما أشدّ التّرابطَ بين بساطة العيش وحقيقة الحجّ. ما أشدَّه بين قلَّة الأكل وإقامة العدل. بين قلّةِ أكْل «الحاكم» وبساطة عيشِه، وبين سلامة «نظام الحكم والإدارة».
قال الباقر عليه السلام: «إذا شبعَ البطنُ طَغى».
حجُّ رسولِ الله على رَحْلٍ رثّ، وقطيفةٍ خَلِقَة درسٌ فريدٌ للأنبياء والأئمّة والأولياء. لِجميعِ الأجيال عبر القرون. غُفرانَك اللّهمّ. ﴿إهدنا الصّراطَ المستقيم﴾ الفاتحة:6.

اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

16/10/2012

دوريات

نفحات