* التخطيط لاستدراج هانيء
تقدم أن ابن زياد زار شريكاً الحارثي في منزل هانيء بن
عروة وكانت هناك فكرة لاغتياله - كما يروى- ولم تنفذ.
قال في
المناقب : فتوهّم ابن زياد وخرج ولما دخل القصر أتاه مالك بن يربوع
التميمي بكتاب أخذه من يدي عبد الله بن بقطر فإذا فيه :
أما بعد، فإني أخبرك أنه قد بايعك من أهل الكوفة كذا، فإذا أتاك
كتابي هذا فالعجل العجل، فإن الناس معك وليس لهم في يزيد رأي ولا
هوى. فأمر ابن زياد بقتله.
(1)
حتى هذه
اللحظة إذاً، كان الوضع في الكوفة في مساره القوي والتصاعدي، وكان
مكان تواجد الشهيد مسلم ما يزال مجهولاً، ثم كان من أمر"معقل " ما
كان .
اكتشف
معقل مقر مسلم بن عقيل، فكيف سيتصرّف إبن زياد ؟
هل يرسل
رجالاً ليعتقلوا مسلماً من بيت هانيء؟ إن وضع ابن زياد العسكري لا
يمكِّنه من ذلك، فهانيء شيخ "مراد" وزعيمها، وهي مع أحلافها أكثر
من ثلث الكوفة، على أن ثلثي الكوفة الآخرين - ما عدا القليل -
أصبحا في خندق الثورة التي تنمو بذرتها في بيت هانيء.
كان ميزان
القوى يحتم على ابن زياد مواجهة الموقف بطريقة أخرى.
لابد من
اعتقال هانيء، تمهيداً لاعتقال مسلم، إلا أن اعتقال هانيء ليس
بالأمر السهل لأن ردّة الفعل من قبل رجال هانيء سوف تكون مدوية، لا
يستطيع ابن زياد مواجهتها، خصوصاً وأن معلومات معقل حول الرجال
والسلاح في الدور حول بيت هانيء كانت وافية ومرعبةk بحيث لم يستطع
الطاغية كتمان ما يبوح بأنها كانت قد أقضت مضجعه.
أول ما
يجب القيام به، هو شراء رؤساء العشائر، ومراكز القوى داخل مَذحِج
بشكل خاص، ليضمن احتواء ردات الفعل، حيث يبادر هؤلاء الرؤساء
والنافذون إلى امتصاص أي نقمة تظهر إثر اعتقال هانيء، وهذا ما
قرّره ابن زياد بالفعل وعمل على أساسه .
ورغم شراء
رؤساء العشائر وخصوصاً رؤساء مذحج قبيلة هانيء، فقد كان على ابن
زياد أن يكون شديد الحذر في طريقة اعتقاله لهانيء، الأمر الذي يعني
اعتماد الحيلة والخداع لاستدراج هانيء إلى القصر بشكل اعتيادي.
* وفي هذا
السياق لا بد وأن نبحث عن دور عمرو بن الحجاج، لأنه - في ما لاحظت
- صاحب الدور المحوري والخطير في اعتقال هانيء بن عروة، وامتصاص
نقمة عشيرته، وتحويل المطالبة به وبإطلاق سراحه، إلى مجرد استطلاع!
هل هو حي أم لا؟
كما يجب
أن يلحظ بامتياز الجهد المحموم الذي بذله شيخ مذحجي آخر هو كُثير بن
شهاب.
إن إجهاض تحرك المَذحِجييين في مثل ذلك الظرف كان بمثابة تعطيل صاعق
الثورة، لتمكين سائر رؤساء العشائر من السيطرة على الموقف، وهذا ما
حصل.
كان فريق الشيوخ المياوم في القصر كمحمد بن الأشعث، وأسماء بن
خارجة، وشبث بن ربعي، وأضرابهم على أهبة الإستعداد للإنقضاض على
المعارضة بمجرد أن تظهر عليها بوادر الوهن، يدفعهم إلى ذلك مزيج من
حقد دفين على عدل رسول الله صلى الله عليه وآله الذي مثله علي عليه
السلام إبان حكم العالم الإسلامي من الكوفة العاصمة، وخوفٍ تضْرى
ناره في ضلوعهم من قلب موازين القوى لصالح غير الأمويين الذين كان
غالب هؤلاء طفيلياتهم.
وكان
الأخطر من بين هؤلاء على مستوى الكوفة - ما عدا مَذحِج - محمد بن
الأشعث، و" أخو أخيه " قيس بن الأشعث.
(2)
وتكفل
عمرو بن الحجاج بمذحج، وقد مكنه من أن يؤدي هذا الدور الشيطاني
عاملان: أنه مذحجي لأنه زبيدي وزبيد بطن من مذحج
(3)
وهو أخو زوجة هانيء على المشهور(4)
ووالد زوجته على رأي آخر(5).
ويلي عمرواً في الخطورة كثير بن شهاب.
وستلاحظ
وأنت تستعرض النصوص، أن عمرو بن الحجاج كان - في رأيٍ- بين الذين
توجهوا إلى بيت هانيء لإحضاره إلى ابن زياد، وأن عمرواً وابن
الأشعث كانا يعرفان سبب الإستدعاء، كما ستلاحظ اختفاء عمرو عند
توجه هانيء إلى القصر، وغيابه كذلك عن كل ما جرى داخل قصر الإمارة
ليظهر فجأة بباب القصر يقود جموع مذحج في حركة إعتراض شكلية تفوح
منها روائح التواطؤ، ثم سرعان ما يظهر داخل القصر في مجلس خاص
وحميم مع ابن زياد ووالد زوجته الجديدة عمارة بن عقبة كما سيأتي.
أما
مواقفه في كربلاء، فقد كانت مغرقة في الإسفاف والحقد.
لقد أمضى
ابن زياد بعد أن اكتشف مقر مسلم عبر معقل، وقتاً ليس بالقصير، يعمل
فيه على تحييد "فرسان مذحج ووجوهها " بالإضافة إلى مراكز القوى
الأساسية في الكوفة التي كان يعمل على استمالتها منذ قدومه ولما
اطمأن إلى أنه أصبح بإمكانه احتواء ردة فعل المذحجيين والكوفة أرسل
يستدعي هانئاً.
كانت
الخطة التي كشفها التنفيذ كما يلي:
1- إستمالة رؤوس مذحج.
2- الإحتياط لردة الفعل العفوية على اعتقال هانيء والتي قد تخرج عن
السيطرة، والمبادرة لاحتوائها.
3- تحريك شيوخ العشائر الموالين للنظام لتخويف الناس بجيش الشام
وسطوة ابن زياد، لنقض آخر عرى الممانعة والإعتراض.
ولابد أن يلفت النظر ويثير الإستغراب أن ابن زياد يمضي في عتاب
هانيء وتـقريعه وضربه وحبسه دون أدنى حساب لردة الفعل - أللهم إلا
موردين تأتي الإشارة إليهما مع تحليلهما - وكأن الكوفة في قبضته!
فهل نجد تفسيراً لذلك سوى الإتصالات السرية التي نشطت حتى بلغت
الذروة قبل اعتقال هانيء رضوان الله عليه، ولقد كان دور عمرو بن
الحجاج في هذا النشاط السري هو المحور كما سنرى.
* الإستدراج
اطمأن ابن زياد - بنسبة كبيرة - إلى احتواء ردات الفعل
التي ستنجم عن اعتقال هانيء بن عروة رضوان الله عليه، فأرسل جماعة
ليستدرجوه إلى القصر، بحجة أنه لم يزر القصر منذ فترة:
قال الشيخ المفيد والطبري:
" وخاف هانيء بن عروة عبيدالله بن زياد على نفسه فانقطع من حضور
مجلسه وتمارض، فقال ابن زياد لجلسائه: ما لي لا أرى هانئاً؟
فقالوا: هو شاكٍ. فقال: لو علمت بمرضه لعدته. ودعا محمد بن الأشعث
وأسماء بن خارجة وعمرو بن الحجاج الزبيدي، وكانت رويحة بنت عمرو
تحت هانيء بن عروة وهي أم يحيى بن هانيء، فقال لهم : ما يمنع هانيء
بن عروة من إتياننا ؟ فقالوا : ما ندري وقد قيل إنه يشتكي، قال: قد
بلغني أنه قد برأ وهو يجلس على باب داره، فالقوه ومروه ألا يدع ما
عليه من حقنا، فإني لا أحب أن يفسد عندي مثله من أشراف العرب.
فأتوه حتى وقفوا عليه عشية وهو جالس على بابه، فقالوا: ما يمنعك من
لقاء الأمير؟ فإنه قد ذكرك وقال: لو أعلم أنه شاكٍ لعدته، فقال
لهم: الشكوى. فقالوا له: قد بلغه أنك تجلس كل عشية على باب دارك،
وقد استبطأك، والإبطاء والجفاء لا يحتمله السلطان، أقسمنا عليك لما
ركبت معنا. فدعا بثيابه فلبسها ثم دعا ببغلته فركبها، حتى إذا دنا
من القصر كأن نفسه أحست ببعض الذي كان، فقال لحسان بن أسماء بن
خارجة: يا ابن أخي إني والله لهذا الرجل لخائف، فما ترى ؟ قال : أي
عم ! والله ما أتخوَّف عليك شيئاً، ولم تجعل على نفسك سبيلا، ولم
يكن حسان يعلم في أي شئ بعث إليه عبيدالله. فجاء هانيء حتى دخل على
ابن زياد ومعه القوم، فلما طلع قال ابن زياد : أتتك بحائن رجلاه ".(6)
والحائن
الهالك والحين بفتح الحاء الهلاك والموت، والمعنى: سعى الهالك إلى
هلاكه برجليه، وهو مثل يضرب لمن يسعى إلى مكروه حتى يقع فيه.
(7)
ومعنى ذلك أن هانئاً قد وقع في الفخ الذي نصب له.
أما كيف
تم نصب هذ الفخ، فهو يستدعي ملاحظة ما يلي:
1- من البعيد جداً أن يكون عمرو بن الحجاج بين من توجهوا إلى هانيء
لاستدراجه إلى القصر، لأن اشتراكه في هذه المهمة نقيض كونه - في
الظاهر- من الطرف الآخر، طرف هانيء، ومن شأن هذا الإشتراك أن يثير
حوله الريبة مبكراً.(8)
ويحتمل قوياً أن يكون دور عمرو في هذه المرحلة التواجد حين وصول
ابن الأشعث وأسماء لا المجيء معهما، والتدخل ليحث هانئاً على
التوجه إلى القصر، خصوصاً وأن في بعض المصادر القديمة: " فجاء
بنو عمه - أي هانيء- ورؤساء العشائر، وقالوا: لاتجعل على نفسك
سبيلاً وأنت بريء".
(9)
وهو يشير
إلى أن لبني عمه دوراً في حثه على الذهاب، ولابد أن في طليعتهم
عمرو بن الحجاج، وقد صرح الطبري بما "يمكن" اعتباره مستنداً لعدم
اشتراك عمرو بن الحجاج في التوجه إلى هانيء للمجيء به، وذلك في
حديثه عن المرحلة التي تلت استشهاد مسلم، حيث قال:
" قال وقام محمد بن الأشعث إلى عبيدالله بن زياد فكلمه في هانئ
بن عروة وقال: إنك قد عرفت منزلة هانئ بن عروة في المصر وبيته في
العشيرة، وقد علم قومه أني وصاحبى سقناه إليك فأنشدك الله لما وهبته
لي فإنى أكره عداوة قومه "و" هم أعز أهل المصر وعدد أهل اليمن ".."
فوعده أن يفعل فلما كان من أمر مسلم بن عقيل ما كان بدا له فيه
وأبى أن يفي له بما قال ".
(10)
ويؤكد
المراد بصاحبه ما أورده الخوارزمي حيث يقول:
"فقال محمد بن الأشعث: أصلح الله الأمير، إنك قد عرفت منزلته في
المصر وشرفه وعشيرته، وقد علم قومه أني وأسماء بن خارجة جئنا به
إليك".(11)
وقد اتضح
لجميع أهل الكوفة أن أسماء بن خارجة كان متورطاً في استدراج الشهيد
هانيء، واشتهر بينهم وفي كل عصر قول الشاعر:
أيركب
أسماء الهماليج آمناً
وقد طالبته مَذحِج بذحول
2- يصرح
ما تقدم بأن حسان بن أسماء بن خارجة، كان معهم في العودة من بيت
هانيء إلى القصر مصطحبين هانئاً، ولا نرى بينهم أسماء بن خارجة أباه،
الذي كان أساسياً في الإستدراج، فيبدو أنه تعمد تحييد نفسه من موطن
الإحراج الأشد، مكتفياً بالتغرير بابنه ليرافق هانئاً بدلاً منه.
3- ويصرح
ما تقدم بأن حسان وحده لم يكن يعلم لماذا استدعي هانيء إلى القصر،
ومعنى ذلك أن محمد بن الأشعث (شيخ كندة) وأسماء بن خارجة (شيخ
فزارة) كانا يعلمان بذلك.
4- يكشف
ما سلف عن جانب من التحضير لاعتقال هانيء تحت ستار الدعوة لزيارة
الأمير، فقد كان ابن زياد بأمس الحاجة إلى موقف رؤساء العشائر
الآخرين حين يبطش بهانيء، وتثور ثائرة مذحج، وفي بعض المصادر من
القرن السابع: أن الذي استدرج هانئاً إلى القصر هو "عمرو بن حريث"
وحده، وبملاحظة شديد ثقة ابن زياد به واعتماده إياه في المنعطفات
يرجح أن يكون له دور في رسم الخطة وتوجيه ابن الأشعث وأسماء، بحيث
يمكن أن ينسب الفعل إليه، فيظن أنه ذهب إلى هانيء واصطحبه نظير ما
جرى عند مداهمة الشهيد مسلم في بيت طوعة، حيث تردد إسمه كقائد
للمهاجمين، وإنما هو آنذاك أمير الكوفة من قبل ابن زياد
(12)
5- أما
عمرو بن الحجاج فقد بدأت مهمته الفعلية بمجرد أن توجه الشهيد هانيء
إلى القصر، ليضيف جهده المفصلي الذي حان وقته إلى ما بذله في
الفترة القليلة الماضية مابين مفاتحة ابن زياد له بما يدور في بيت
هانيء، وبين توجه هانيء إلى القصر.
6- وإذا
صح- وهو وجيه - أن يحيى بن هانيء ظل ملازماً لخاله عمرو بن الحجاج
خلال أحداث كربلاء، فإن ذلك يكشف عن موقع هذا الخال في بيت هانيء
وبالتالي قدرته على امتصاص نقمة المذحجيين، وتحويل وجهتها إلى طلب
السلامة والدعة ورغد العيش.
هذه هي
حقيقة ما بين سطور القسم السابق من النص، ويأتي ما يؤكدها.
ولابد
من سؤال مركزي:
هل توجه
الشهيد هانيء إلى القصر دون تشاور مع الشهيد مسلم أو دون إخباره؟
وليس بين أيدينا ما يضيء على ذلك، إلا أن الراجح أن مهمة ابن
الأشعث وأسماء كانت تقضي بالتوجه إليه وهو جالس بباب داره، وعدم
إعطائه فرصة الدخول إلى البيت، وبذل الجهد الممكن لتحقيق ذلك، وهو
ما يمكن استنتاجه من مقتضى الحال، وقد يشي به قولهما له: "
أقسمنا عليك لما ركبت معنا" وهو ما يورده الدينوري بقوله: "
أقسمنا عليك إلا قمت معنا إليه الساعة لتسل سخيمة قلبه"(13)
ولئن كان النص المشترك بين الشيخ المفيد والطبري يتحدث عن فسحة
أكبر "فدعا بثيابه فلبسها ثم دعا ببغلته فركبها" فإن نص الدينوري
يوضح أنه لم يدخل بيته بل توجه معهما مباشرة " فدعا ببغلته،
فركبها، ومضى معهما ".(14)
* هانيء في مجلس ابن زياد
قال ابن قتيبة: فأخرج له دابة، فركب ومعه عصاه، وكان أعرج،
فجعل يسير قليلاً ويقف.."
(15)
وقال
الشيخ المفيد والطبري:
فلما دنا من ابن زياد - وعنده شريح القاضي - إلتفت نحوه فقال :
أريد حِباءه ويريد قتلي
عذيرك من خليلك من مراد
(16)
وقد كان أول ما دخل عليه مكرماً له ملطفاً، فقال له هانئ : وما ذلك
أيها الأمير؟
قال :
إيه يا هانئ بن عروة، ما هذه الأمور التي تربص في دارك لأمير
المؤمنين وعامة المسلمين؟ جئت بمسلم بن عقيل فأدخلته دارك وجمعت له
السلاح والرجال في الدور حولك، وظننت أن ذلك يخفى عليّ؟
فقال: ما فعلت ، وما مسلم عندي.
قال : بلى قد فعلت .
فلما كثر ذلك بينهما، وأبى هانيء إلا مجاحدته ومناكرته، دعا ابن
زياد معقلاً - ذلك العين - فجاء حتى وقف بين يديه، فقال : أتعرف
هذا ؟ قال : نعم.
وعلم هانيء عند ذلك أنه كان عيناً عليهم، وأنه قد أتاه بأخبارهم،
فأسقط في يده ساعة ثم راجعته نفسه فقال : إسمع مني وصدق مقالتي،
فوالله لا كذبت، والله ما دعوته إلى منزلي، ولا علمت بشئ من أمره
حتى جاءني يسألني النزول فاستحييت من رده، ودخلني من ذلك ذمام
فضَّيفته وآويته، وقد كان من أمره ما كان بلغك، فإن شئت أن أعطيك
الآن موثقا مغلظاً ألا أبغيك سوءاً ولا غائلة، ولآتينك حتى أضع يدي
في يدك، وإن شئت أعطيتك رهينة تكون في يدك حتى آتيك، وأنطلق إليه
فآمره أن يخرج من داري إلى حيث شاء من الأرض، فأخرج من ذمامه
وجواره.
فقال له ابن زياد : والله لا تفارقني أبداً حتى تأتيني به.
قال : لا والله لا آتيك به أبداً، أجيئك بضيفي تقتله ؟ !
قال : والله لتأتين به.
قال : لا والله لا آتيك به.
فلما كثر الكلام بينهما قام مسلم بن عمرو الباهلي - وليس بالكوفة
شامي ولا بصري غيره - فقال : أصلح الله الأمير ، خلني وإياه حتى
أكلمه، فقام فخلا به ناحية من ابن زياد، وهما منه بحيث يراهما،
وإذا رفعا أصواتهما سمع ما يقولان، فقال له مسلم: يا هانيء إني
أنشدك الله أن تقتل نفسك، وأن تدخل البلاء على عشيرتك، فوالله إني
لأنفس بك عن القتل، إن هذا الرجل إبن عم القوم وليسوا قاتليه ولا
ضائريه، فادفعه إليه فإنه ليس عليك بذلك مخزاة ولا منقصة، إنما
تدفعه إلى السلطان.
فقال هانيء: والله إن عليَّ في ذلك للخزي والعار، أنا أدفع جاري
وضيفي وأنا حي صحيح أسمع وأرى، شديد الساعد، كثير الأعوان؟!
والله لو لم أكن إلا واحداً ليس لي ناصر لم أدفعه حتى أموت دونه.
فأخذ يناشده وهو يقول: والله لا أدفعه أبداً. فسمع ابن زياد ذلك
فقال : أدنوه مني، فأدني منه فقال: والله لتأتيني به أو لأضربن
عنقك، فقال هانيء: إذا والله تكثر البارقة حول دارك.
فقال ابن زياد: والهفاه عليك! أبالبارقة تخوفني؟ وهو يظن أن
عشيرته سيمنعونه؟ ثم قال: أدنوه مني، فأدني، فاعترض وجهه بالقضيب
فلم يزل يضرب وجهه وأنفه وجبينه وخده حتى كسر أنفه وسيل الدماء على
ثيابه، ونثر لحم خده وجبينه على لحيته، حتى كسر القضيب. وضرب هانئ
يده إلى قائم سيف شرطي، وجاذبه الرجل ومنعه، فقال عبيدالله :
أحروري سائر اليوم؟ قد حل لنا دمك. جُرُّوه. فجروه فألقوه في بيت
من بيوت الدار، وأغلقوا عليه بابه. فقال : إجعلوا عليه حرساً، ففعل
ذلك به، فقام إليه حسان بن أسماء فقال له : أرسل غدر سائر اليوم ؟
أمرتنا أن نجيئك بالرجل، حتى إذا جئناك به هشمت وجهه، وسيلت دماءه
على لحيته، وزعمت أنك تقتله. فقال له عبيدالله : وإنك لهاهنا،
فأمر به فلُهِز وتُعتِع، ثم أُجلس ناحية. فقال محمد بن الأشعث : قد
رضينا بما رآه الأمير، لنا كان أو علينا، إنما الأمير مؤدب.(17)
ويلاحظ
بوضوح:
أولاً: أن شريحاً القاضي موجود قبل دخول هانيء، ومن المؤكد
أن وجوده لم يكن صدفة، فقد كان الدور المرسوم له سلفاً يستدعي
وجوده، وبمجرد أن دخل هانيء توجه ابن زياد بالكلام إلى شريح، سواء
بالمثل الذي تمثل به(18)
أو بالبيت، ويلاحظ أن كل الموجودين تكلموا إلا القاضي!
ثانياً: أن الشهيد هانئاً كان يحاول الإفلات من قبضة
الطاغية ليتدبر الأمر، وأدرك ابن زياد ذلك فقال له: والله لا
تفارقني أبداً حتى تأتيني به.
ثالثاً: ويلفت النظر تواطؤ ابن الأشعث ورضاه بما رضي به
الأمير!
رابعاً: الطمأنينة المفرطة التي كان ابن زياد يدير بها
الموقف ما خلا سحب خوف عابرة كانت سرعان ما تنقشع، وهو ما يحتم
السؤال عن أسباب هذه الطمأنينة وهو يواجه قائداً إن مسه بأذى في
ظرف اعتيادي " تكثر البارقة حول داره"؟!
وهل كان
بمقدور ابن زياد أن يطمئن إلى هذه الحدود الأبعد، لو لم يكن قد
اشترى - على الأقل- أكثر مفاصل القوة عبر عمرو بن الحجاج وغيره.
حقاً، على
مَ يدل الإمعان في الضرب المبرح للشهيد هانيء، ونثر لحم وجنته
وتهشيم أنفه وكسر حاجبه، إلا على أن الكوفة التي كانت في الظاهر في
قبضة هانيء بن عروة، قد أصبحت طوع بنان ابن زياد.
وكيف تحقق
ذلك لولا الأساليب الملتوية التي تقدم ذكرها.
الخوف من ردة الفعل
إلا أن هذا الإطمئنان على بلوغه الغاية لم يكن نهائياً،
فقد كانت تعصف بابن زياد بين الحين والآخر هواجس انتفاضة مدويّة
تقضي عليه، فلعل في ما تأكد من إحكامه خللاً يطيح بالآمال، أو أن
فتقاً في ما رتق ينفذ منه الخطر الداهم، وقد برز ذلك في بدايات
حواره مع هانيء، وبعد ضربه وحبسه مباشرة.
قال
المسعودي:
ووضع ابن زياد الرصد على مسلم حتى علم بموضعه، فوجه محمد بن الأشعث
بن قيس إلى هانيء فجاءه، فسأله عن مسلم، فأنكره، فأغلظ له ابن
زياد، فقال هانيء: إن لزياد أبيك عندي بلاءً حسنا
(19)
وأنا أحب مكافأته به فهل لك في خير؟ قال ابن زياد : وما هو؟ قال :
تشخص إلى أهل الشام أنت وأهل بيتك سالمين بأموالكم، فإنه قد جاء حق
من هو أحق من حقك وحق صاحبك. فقال ابن زياد: أدنوه مني، فأدنوه
منه، فضرب وجهه بقضيب كان في يده حتى كسر أنفه وشق حاجبه، ونثر لحم
وجنته، وكسر القضيب على وجهه ورأسه".(20)
وفي بعض المصادر : أن ابن زياد أجاب هانئاً إثر هذا الكلام، وقبل
أن يضربه بقوله : " وتحت الرغوة اللبن الصريح "!
(21)
أي لقد أبديت مكنون ضميرك، وكشفت حقيقة موقفك.
ويورد
الطبري رواية أخرى عن غير أبي مخنف(22)
تلتقي مع ما ذكره المسعودي وتقدم تفصيلاً إضافياً حول ردة فعل ابن
زياد على عرض الأمان عليه:
قال
الطبري : فلما رأى هانيء معقلاً قال : " أيها الأمير قد كان
الذي بلغك ولن أضيع يدك عني {عندي} فأنت آمن وأهلك فسر حيث
شئت، فكبا عبيد الله عندها {أطرق يفكر بالعرض} ومهران {غلامه}
قائم على رأسه في يده معكزة {عكاز} فقال مهران : واذلاه هذا
العبد الحائك يؤمّـنك في سلطانك، فقال ابن زياد : خذه، فطرح
المعكزة وأخذ بضفيرتي { شعر} هانيء ثم أقنع بوجهه { ضربه على
وجهه} ثم أخذ عبيد الله المعكزة فضرب بها وجه هانيء وندر الزج
فارتز في الجدار. {كان في العكاز حربة، فانفصلت عنها من شدة
الضرب وكثرته، ونبتت في الجدار} .
والنص
واضح الدلالة على الخوف الذي كان يستبد بالطاغية، إلى حد أنه فكر
بقبول أمان هانيء، ولم تخرجه من حالته هذه معادلة لصالحه أدركها،
وإنما أخرجته منها استثارة مهران لحميته وعنفوانه، وهي بالنسبة إلى
فرعون مثله، ضرب على الوتر الذي يجعله يستشيط غضباً فيعمى عن كل
شيء، إلى أن يندر الزج ويرتز في الجدار أو ما يماثل ذلك من صدمة
تضع حداً لفورة الفرعون.
إنها لحظة
فاصلة من لحظات التاريخ المحورية، عندما كبا ابن زياد يفكر في عرض
هانيء عليه أن يخرج بأهله من الكوفة سالمين. وإنها لحظة مماثلة
عندما استفزه مهران لتتخذ كل الأمور منحى آخر. وهل التاريخ إلا
لحظات من هذا النوع، والقليل من تلك اللحظات هو الذي يصب في المسار
السليم, و "كلكم راع وكلكم مسؤول..".
* أما
المرة الثانية التي برز فيها خوف ابن زياد من ردة الفعل فيحدثنا
عنها أبو مخنف قائلاً :
لما ضرب عبيد الله هانئاً، وحبسه، خشي أن يثب الناس به، فخرج
فصعد المنبر ومعه أشراف الناس، وشرطه وحشمه .." وسيأتي النص
بتمامه.
* ويضيف
المسعودي حالة ثالثة سيطر فيها الخوف على ابن زياد فيقول : "
وصاح أصحاب هانيء بالباب، قتل صاحبنا، فخافهم ابن زياد ".
(23)
تؤكد هذه الشواهد حقيقة أن الطاغية رغم كل ما بذله لإفراغ حركة
الإعتراض من مضمونها وتفجيرها من الداخل، كان يحتمل أن تجري الأمور
بما ليس في الحسبان.
* عمرو بن الحجاج يمثِّل دوره!
قبل حبسه داخل القصر، كان هانيء رضوان الله تعالى عليه، يعتبر أن
عشيرته ستمنعه، وأنها بمجرد وصول خبر اعتقاله ستخرج مطالبة به،
لذلك كان من جملة ما جرى بينه وبين ابن زياد عندما هدّده الأخير أن
قال له هانيء: " إذن والله تكثر البارقة حول دارك" .
أما بعد
أن ضرب وأدمي، فنجد أن لهجته كانت - بادئ الأمر- مشوبة بالدهشة
والأسى، ولكنه عندما سمع الضجة بباب القصر، استبشر، فماذا جرى،
ولماذا أسلمت الكوفة شيخ المصر؟!
لم يظهر
لمَذحِج أي أثر، ولا سجل لها صوت خارج لعبة الكواليس.
وتتفق
أكثر المصادر التي أوردت الحادثة على المضمون التالي :
وبلغ عمرو بن الحجاج أن هانئاً قد قتل، فأقبل في مذحج حتى أحاط
بالقصر ومعه جمع عظيم وأخذ ينادي: أنا عمرو بن الحجاج، وهذه فرسان
مذحج ووجوهها، لم تخلع طاعة ولم تفارق جماعة، وقد بلغهم أن صاحبهم
قتل فأعظموا ذلك، فقيل لعبيد الله هذه مذحج بالباب.
(24)
* عالم البلاط، غطاء لباعة الضمير
وهنا جاء دور شريح القاضي للتدخل، فقال له ابن زياد :
أدخل على صاحبهم فانظر إليه ثم اخرج فأعلمهم أنه حي لم يقتل وأنك
قد رأيته.
تأمل في
لهجة الحاكم مع عالم البلاط "أدخل، أنظر، أخرج، أعلمهم! أربعة
أوامر في أقل من سطر والباقي تلقين ما يبلغه: أنك قد رأيته! أي
وإياك أن تقول كيف رأيته.
وشريح
بعدُ " محتاط!" لا يمكن أن يبلِّغ أنه رآه إذا لم يره. والطاغية
يلبي له هذه الحاجة لأنها من شريح وأمثاله حاجته، فهي القداسة
المزيفة التي يرتكب وعاظ السلاطين بها كل جرائمهم وهم بمثل هذا
الإحتياط الكاذب يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
دخل شريح
على هانيء، ويحدث شريح نفسه كما نقل ذلك عنه إبنه بما رأى وجرى،
فيقول:
دخلت على هانيء فلما رآني قال يا لله وللمسلمين أهلكت عشيرتي؟
فأين أهل الدين؟ وأين أهل المصر {البلد} ؟ أيُخلّوُني
وعدوهم وابنَ عدوهم؟ والدماء تسيل على لحيته، إذ سمع الرجة على باب
القصر، وخرجت، وأتبعني فقال: يا شريح، إني لأظنها أصوات مذحج وشيعتي
من المسلمين، إن دخل عليّ عشرة نفر أنقذونى. قال فخرجت إليهم ومعى
حميد بن بكر الأحمري، أرسله معي ابن زياد وكان من شرطه ممن يقوم على
رأسه، وأيم الله لولا مكانه معي لكنت أبلغت أصحابه ما أمرنى به، فلما
خرجت إليهم قلت إن الأمير لما بلغه مكانكم ومقالتكم في صاحبكم
أمرنى بالدخول إليه فأتيته فنظرت إليه فأمرني أن ألقاكم وأن أعلمكم
أنه حي وأن الذى بلغكم من قتله كان باطلاً". فقال عمرو وأصحابه
فأما إذ لم يقتل فالحمد لله! ثم انصرفوا.
(25)
عشرة نفر
فقط كان بإمكانهم حسم الموقف. وجموع مَذحِج بالباب، فمن هو قاتل
هانيء، قبل أن يصدر ابن زياد أمره بقتله؟
وفي شغاف
كل قلب ليس كالحجارة أو أشد قسوة كما هو حال قطعة الحديد الجهنمية
تلك التي كان يقال لها قلب شُريح، يستقر منظر هذا الشهيد الجليل،
والدماء تسيل من وجهه، وهو يصارع الموت، ويستغيث بالله والمسلمين،
ويتبع بعرجته شريحاً ويقول له: إني لأظنها أصوات مذحج وشيعتي من
المسلمين إن دخل عليّ عشرة نفر أنقذوني.
إنه
المنظر الذي ينبغي له أن يضيِّق الخناق على كل غطاء لباعة الضمير
عبر القرون.
وإذا كان
شريح هو القاتل، فمن هو القاتل التالي قبل الطاغية ؟
هنا يأتي
دور عمرو بن الحجاج المكمل لدور شُريح والمتناغم معه، لتكون
النتيجة أن عمرواً وأصحابه انصرفوا، وعمرو يحمد الله!
وفي نص
آخر: " فقال لهم سيدهم عمرو بن الحجاج : أما إذ كان صاحبكم حياً فما
يعجلكم الفتنة ؟ إنصرفوا . فانصرفوا".
(26)
وكأن هذه
الجموع لم تحتشد إلا لتعرف هل أن هانيء بن عروة حي أم لا !!.
والناس
ضحية جلوازين: أحدهما من على شرفة القصر في ثياب الواعظين.
والثاني:
خال أولاد هانيء، عمرو بن الحجاج، القائد لهذه الجموع الملتفة حوله
باعتباره المفجوع بخبر قتل صهره وشيخه، شيخ المذحجيين.
هكذا تخدع
الجماهير، وهكذا ينحرف مسار التحرك الثوري، وفتش دائماً عن دور
النفعيين، وأسوأهم "علماء" السوء .
و في
"تذكرة الخواص" أن هانئاً يقول لشريح: "يا شُريح إتق الله فإنه
قاتلي".
(27)
إلا أن
المناشدة بتقوى الله تعالى تؤثر في المتقين ولم يكن شريح منهم، لذا
لم يحرك ما يسمى ضميره الحجر بل أشد قسوة، منظرُ شيخ جليل، طاعن في
السن، سجين، مدمى، تناثر لحم وجهه وهو يناشده أن يتقي الله.
بل إن
شريحاً تعمد الكذب حين أوحى إلى المذحجيين أنه يحمل إليهم رسالة من
الشهيد هانئ كما يفهم من النص التالي:
قال شُريح
: فخرجت إليهم ومعي حُميد بن بكير الأحمري - أرسله معي ابن
زياد- وكان من شُرَطه وممن يقوم على رأسه { لاحظ هنا عدم
ثقة الطاغية بعالم البلاط رغم تهالكه في بيع ما يحسبه ديناً بفتات
دنيا الطاغية} ثم يحلف شُريح فيقول:
وأيمُ الله {أي أقسم بالله} لولا مكانه { أي الشرطي} معي لكنت
أبلغت أصحابه ما أمرني به {هانيء} !
يضيف
شُريح : " فلما خرجت إليهم قلت : إن الأمير لما بلغه مكانكم
ومقالتكم في صاحبكم أمرني بالدخول إليه فأتيته، فنظرت إليه، فأمرني
أن ألقاكم وأن أعلمكم أنه حيّ وأن الذي بلغكم من قتله كان باطلاً
".
ومن
الواضح أن الذي أمر شريحاً بالخروج إلى أنصار هانيء هو الطاغية إبن
زياد إلا أن شريحاً يوحي إلى الجموع بأن الشهيد هانئاً هو الذي طلب
منه ذلك.
ويكشف
إصراره على تبرير فعلته الشوهاء هذه بوجود شرطي معه، مدى الحضيض
الذي يمكن أن يُسِفَّ إليه عالم البلاط، فبدلاً من أن يكون كل
الفراعنة أمامه " كالأنعام بل هم أضل سبيلا" ولا تأخذه في
مواجهتهم في الله لومة لائم، يسلب واعظ السلطان أدنى هيبة ليرتجف
قلبه وترتعد الفرائص في محضر شرطي، يقف على رأس الطاغية! بل هو في
الحقيقة قد ارتجف أمام سراب حياة لم يبق لشريح منها إلا ظِمْءُ
مَثَل من آتاه الله آياته فانسلخ منها، وسرابُ ولوغ في قراضة ملذات،
هو في باطنه التقلقل بين أطباق الجحيم.
* من
هو شُريح
إنه مضرب المثل لعالم البلاط، عالم السوء، الذي يرى مصلحته في
إرضاء السلطان وفي المحافظة على الموقع والمنزلة عنده، فيشكل
بوضاعة نفسه وجهل أكثر الناس حقيقة أمره غطاءً " شرعياً!" لباعة
الضمير، الذي يأتي هو في طليعتهم فيتحول إلى قاطع طريق من نوع خاص،
يقطع طريق الله تعالى على عباده الذين يريدون الوصول إلى رضوانه
وطاعته.
وقد ورد
في الحديث القدسي عن كل شريح: أولئك قطاع طريق عبادي المريدين.
(28)
• يلخص
الشيخ المامقاني رحمه الله ترجمة شُريح القاضي هذا بكلمة فيقول :
"خبيث" وفي تفصيل ترجمته يقول : "شُريح القاضي بالكوفة، عدّه ابن
عبد البر وابن منده، وأبو نعيم، من الصحابة وكان شاعراً محسناً له
أشعار محفوظة، وكان كوسجاً، لا شعر في وجهه، وقد استقضاه عمر بن
الخطاب على الكوفة فأقام قاضياً ستين أو خمسة وسبعين، ولما تولى
المختار بن أبي عبيدة الثقفي نفاه عن الكوفة إلى قرية ليس فيها غير
اليهود، فلما قتل المختار وتولى الحجاج أمارة الكوفة ردّه إليها
وهو شيخ هرم، وأمره بالقضاء فاستعفاه حياء مما فعل به المختار،
وأعفاه الحجاج فلم يقض بين اثنين حتى مات. وقد ذكر المؤرخون أنه
ممن شهد على حجر بن عدي بالكفر، والخروج عن الطاعة وكتب زياد شهادته
إلى معاوية مع سائر الشهود ويكفي في ذمه قضاؤه مع وجود أمير
المؤمنين عليه السلام في الكوفة، وأنه من قبل عمر وعثمان، وأراد أمير
المؤمنين عزله فلم يتيسر له،÷ لأن أهل الكوفة قالوا لا تعزله لأنه
منصوب من قبل عمر ".." وقد أساء الأدب مع أمير المؤمنين في مقامات
منها صياحه واسنة عمراه ! عند نهيه عليه السلام عن صلاة التراويح.(29)
هذا النمط
من علماء السوء يجد فيه البلاط بغيته، لأن غطاء القداسة المزيفة
الذي يتدثر به يمنع من انكشاف حقيقته الشوهاء لأغلب الناس، ثم إنه
ليس له من الدين ما يحصنه من التهالك على أقدام الطاغية الذي يعلن
الحرب على الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
* وثمة
ميزتان شُريحيتان نستطيع من خلالهما أن نعرف عالم السوء :
- إنه دائماً مع " فرعون وملأه" ضد التوجه الشعبي، ولذلك فهو يتنفر
من الجمهور، ويزدري " العامة" وتأسره النخبوية. { ما هذه الرَّعة}
- وهو دائماً توفيقي بمعنى أنه ينطلق من التوفيق بين السائد
ومصلحته، موهماً أنه يمتلك طرحاً متكاملاً مبنياً على الإحتياط
المدعى، وسائر مفردات فقه القعود.
ويوضح
النقطتين معاً ما ورد في رواية أخرى – غير ما تقدم – هي التي
أوردها الطبري عن غير أبي مخنف، وتقدم الإستشهاد ببعض فقراتها في
موارد مختلفة، وهي رواية تحاول تبرئة ساح شريح فلا تفلح. تقول هذه
الرواية:
" وبلغ الخبر مذحج فأقبلوا فأطافوا بالدار، وأمر عبيدالله بهانئ
فألقي في بيت، وصيَّح المذحجيون وأمر عبيدالله مهران أن يدخل عليه
شريحاً فخرج فأدخله عليه، ودخلت الشرط معه، فقال يا شريح قد ترى ما
يصنع بي، قال: أراك حياً \! قال وحي أنا مع ما ترى؟! أخبر قومي أنهم إن
انصرفوا قتلني. فخرج إلى عبيدالله فقال قد رأيته حياً ورأيت أثراً
سيئاً. قا:ل وتنكر أن يعاقب الوالي رعيته أخرج إلى هؤلاء فأخبرهم.
فخرج وأمر عبيدالله الرجل فخرج معه، فقال لهم شريح: ما هذه الرعة
السيئة. الرجل حي، وقد عاتبه سلطانه بضرب لم يبلغ نفسه فانصرفوا ولا
تحلوا بأنفسكم ولا بصاحبكم فانصرفوا ".
(30)
وإلى يوم
المحشر ستظل غربة هانيء، تحفر في وجدان كل صاحب ضمير حي مختلف
جذرياً عما يسمى ضمير شريح.
ولا شك
أبداً - وفق هذه المعطيات - في أن مسؤولية شُريح القاضي عن دم هذا
الشهيد الجليل، وما ترتب على شهادته من كل أحداث كربلاء لا تقل عن
مسؤولية الطاغية ابن زياد .
كما لا شك
في أن عمرو بن الحجاج كان شريكهما الأول متقدماً عليهما في تحمل
المسؤولية.
ولا بد من
التنبه هنا إلى أن دور "علماء البلاط" يتكامل مع دور من يسمونهم بـ
"الأشراف !".
فشُريح من
على القصر يثبط الناس، وعمرو بن الحجاج يقودهم نحو التراجع.
شُريح
يقول إن هانئاًً حي، وعمرو يقول الحمد لله.
والجماهير
تردد المقالتين معاً!
فهل نتعلم
من كربلاء بعض دروسها ؟
لم يكن
ابن زياد يمتلك القوة التي يواجه فيها مَذحِجاً، لكن شُريحاً القاضي
مع عمرو بن الحجاج وأضرابهما، وعدم الوعي المطلوب في مثل هذه
المنعطفات، كل ذلك تضافر فأوصل إلى هذه النتيجة.
وعندما
يتوفر للجمهور من الحذر ما يحمل على التشكيك بنوايا عالم البلاط،
وشيوخ المصالح الخاصة وكل النفعيين من أمثال عمرو، لا يستطيع علماء
السوء ولا "الوجهاء" الموالون لشهواتهم الباحثين عنها في نفايات
دنيا السلطة أن يخدعوا الناس.
وكما هو
احترام العالم الحقيقي، المدماك الأول في صون كرامة الأمة وسائر
المقدسات، فكذلك هو المدماك الأول - في حفظ الدين والناس، وروح
الممانعة والإعتراض والتغيير- الحذر من "العالم" الذي لا يعمل
بعلمه، الذي هو أعظم الناس حسرة يوم القيامة وأشدّهم عذاباً ، لأنه
استأكل بالدين وتحول إلى قاطع طريق يمارس اللصوصية على المنابر وفي
المسجد والمحراب، وبدلاً من أن تكون مهمته تعميق الإرتباط بالله
تعالى في قلوب الناس، تصبح عبارة عن إخضاعهم للحاكم الطاغية في
مقابل جاه زائف وفتات أو عظمة يلقي بها إليه. نعوذ بالله تعالى من
سوء العاقبة.
الفهارس
(1) إبن شهراشوب،
المناقب3/243.
(2) قال له الإمام الحسين عليه
السلام في كربلاء: أنت أخو أخيك أتريد أن يطلبك بنو هاشم بأكثر من
دم مسلم بن عقيل. الطبري4/323. وهو يدل على تحميل ابن الأشعث
مسؤولية دم الشهيد مسلم، ويكشف أيضا عن خطورة الدور الذي قام به في
أحداث الكوفة عموماً.
(3) قال السيوطي:"الزبيدي
بالفتح والكسر ومهملة إلى زبيد مدينة باليمن، وبالتصغير إلى زبيد
قبيلة من مذحج". لب اللباب في تحرير الأنساب124. وقال السمعاني، في
الأنساب3/135:"الزبيدي : بضم الزاي وفتح الباء المنقوطة بواحدة
بعدها ياء معجمة، بنقطتين من تحتها وفي آخرها دال مهملة، هذه
النسبة إلى زبيد وهي قبيلة قديمة من مذحج أصلهم من اليمن نزلوا
الكوفة واسمه منبه بن صعب، وهو زبيد الاكبر، وإليه ترجع قبائل
زبيد ; ومن ولده منبه بن ربيعة بن سلمة بن مازن بن ربيعة بن منبه
بن صعب بن سعد العشيرة بن مالك بن أدد، وهو زبيدالأصغر. قال ابن
الكلبي: إنما قيل لهم زبيد لان منبهاً الأصغر قال : من يزبدني رفده ؟
فأجابه أعمامه كلهم من زبيد الأكبر . فقيل لهم جميعا : زبيد ، فمن
الصحابة أبو ثور عمرو بن معديكرب الزبيدي". وانظر: د.عمر كحالة،
معجم قبائل العرب2/464.
(4) الطبري4/272. وفيه أن
اسمها روعة ولعله تصحيف رويحة أو الآخر تصحيفه.
(5) الشيخ المفيد،
الإرشاد2/47. وفيه أن اسمها رويحة.
(6) الشيخ المفيد،
الإرشاد2/46-47 والطبري4/272باختلاف يسير في الثاني واللفظ هنا
للشيخ.
(7) أنظر:إبن قتيبة، غريب
الحديث1/144.وابن منظور، لسان العرب12/136. وهامش الإرشاد 2/47
نقلاً عن جمهرة الأمثال للعسكري.
(8) "يبدو أن الشيخ المفيد
والطبري قد دمجا بين روايتي أبي مخنف كما يظهر بوضوح من المقارنة بين
نصه ونص الطبري. ولم يذكر عمرو بن الحجاج كل من البلاذري، وأبي
حنيفة الدينوري، والمسعودي الذي اقتصر على ذكر محمد بن الأشعث"،
وقد أورد الخوارزمي كلام محمد ابن الأشعث هذا وفيه التصريح بأنه
وصاحبه أسماء جاءا بهانيء إلى ابن زياد، كما سيأتي.
(9) أبو علي مسكويه الرازي،
تجارب الأمم 2/46.
(10) الطبري4/284.
(11) الخوارزمي، مقتل
الحسين307.
(12) السيد بحر العلوم،
الفوائد الرجالية4/39 نقلاً عن: الشيخ جمال الدين يوسف بن حاتم
الشامي العاملي المشغري، الدر النظيم في مناقب الأئمة اللهاميم،.
وفي هامشه أن المؤلف هوتلميذ المحقق الحلي الذي توفي سنة 676 ه
، والمجاز من السيد رضي الدين علي بن طاووس الحلي الذي توفي سنة
664 ه".." وترجم له أيضا سيدنا الحجة الحسن الصدر الكاظمي - رحمه
الله - في : تكملة أمل الآمل ، ووصف كتابه الدر النظيم، بانه
كتابٌ جليلٌ في بابه ، وقال : " رأيت منه نسخة مصححة على نسخة
الأصل مكتوبة في عصر المصنف " وقال : " كان هذا الشيخ من أجلة
العلماء في عصر المحقق نجم الدين صاحب الشرائع، وهو صاحب المسائل
البغدادية التي أجاب عنها المحقق.
(13) الدينوري، الأخبار
الطوال237. والسخيمة: الإسوداد، وهي هنا بمعنى الكدورة والعتب.
(14) المصدر.
(15) إبن قتيبة، الإمامة
والسياسة2/9.
(16) في بعض المصادر حياته
والصحيح حباءه بكسر الحاء أي :عطاءه.
(17) الشيخ المفيد،
الإرشاد2/48-50. والطبري4/272-274 واللفظ للأول. وانظر: الدينوري،
الأخبار الطوال236-238.
(18) الطبري4/259. في رواية
عمار الدهني عن الإمام الباقر عليه السلام.
(19) تقدم أن عروة والد هانيء
قد خرج مع حجر بن عدي ، وأراد معاوية قتله فتوسط له زياد.
(20) المسعودي مروج الذهب3/57.
(21) أنظر: المقرم، مقتل
الحسين155، نقلاً عن المستقصى للزمخشري 1/15 ط.حيدرآباد.
(22) هي التي تقدم الحديث عن
جانب منها في الحديث عن محاولة الإغتيال. أنظر" الطبري4/267-268.
(23) المسعودي، مروج
الذهب3/57.
(24) الشيخ المفيد،
الإرشاد2/50.واللفظ له.والطبري4/274 باختلاف يسير "لم نخلع."..و"صاحبهم يقتل".إلا أن لفظ الشيخ أدق كما لايخفى بلحاظ آخر
النص.وانظر:السيد ابن طاووس، اللهوف33 والمجلسي، البحار44/347،
والدينوري، الأخبار الطوال328. ولم يورد البلاذري مجيء عمرو بمذحج
أنظر: الأنساب80. وكذلك لم يورده اليعقوبي2/242 ولم يورد اعتقال
هانيء أبداً. ومثلهما ابن قتيبة في الإمامة والسياسة2/9.(ت:
الشيري). وقال المسعودي: " وصاح أصحاب هانيء بالباب، قتل صاحبنا،
فخافهم ابن زياد، وأمر بحبسه في بيت إلى جانب مجلسه، وأخرج إليهم
شريحاً القاضي، فشهد عندهم أنه حي لم يقتل، فانصرفوا ". المسعودي،
مروج الذهب3/57. وقال ابن حجر:" فبلغ الخبر قومه فاجتمعوا على باب
القصر فسمع عبيد الله الجلبة فقال لشريح القاضي اخرج إليهم فأعلمهم
أنني ما حبسته إلا لأستخبره عن خبر مسلم ولا بأس عليه مني فبلغهم
ذلك فتفرقوا ". الإصابة2/70.
(25) الطبري4/276. والشيخ
المفيد، الإرشاد2/51. واللفظ للأول مصححاً في مورد جزئي على مافي
الثاني.
(26) الدينوري، الأخبار
الطوال238.
(27) سبط بن الجوزي
(581-654هـ). تذكرة الخواص242.
(28) الكليني،ا لكافي1/46.
والحر العاملي، الجواهر السنية في الأحاديث القدسية81. والحديث
بتمامه: عن رسول الله صلى الله عليه وآله: أوحى الله تعالى إلى
داود عليه السلام: لاتجعل بيني وبينك عالماً مفتوناً بالدنيا فيصدك
عن طريق محبتي، فإن أولئك قطاع طريق عبادي المريدين، إن أدنى ما
أنا صانع بهم أن أنزع حلاوة مناجاتي عن قلوبهم. وهو مستفيض في
المصادر.
(29) المامقاني، تنقيح
المقال3/82.
(30) الطبري4/269. |