* الكوفـة بعـد الشهيـد يـن
من الطبيعي جداً في ظرف كالذي عاشته الكوفة عند تفرق
الناس عن الشهيد مسلم، أن تتسارع الأحداث المثيرة وتتشعب، من
مطاردة ومداهمة واعتقال، إلى مواجهات جزئية متفرقة، وهدم دور وضرب
أعناق، كنتيجة حتمية لهذا الإنهيار السريع والتبدل المفاجيء.
وتمس
الحاجة إلى أن نوقن بأن ما جرى في الكوفة كان في العمق حركة اعتراض
حقيقية، غاية في القوة والخطورة، إلا أنها انقلبت على أعقابها في
لحظة مذهلة لا تخضع لأيٍّ من الحسابات السياسية المتعارفة.
وعندما
توصف هذه الحركة بما يدل على عدم تجذرها، فإنما يصح ذلك بلحاظ ما
آلت إليه، أما إذا أردنا وصفها بلحاظ المقدمات والإعداد ومكامن
القوة، فإننا لا نكاد نجد لها مثيلاً بين كل حركات الإعتراض التي
أدت إلى تسلم الحكم في الكوفة وما والاها، سواء على يد المختار أو
مصعب أو غيرهما.
وعلاقة
ذلك بالحديث عن الكوفة بعد الشهيدين، هي أن معرفة عمق حركة الرفض
للسلطة الأموية، المدخل الوحيد لرصد ردود الفعل وتقدير المدى
البعيد الذي لابد أنها أمعنت فيه، خصوصاً لدى غياب المعطيات
الوافية في هذا الباب.
كانت حركة
الأحداث حتى لحظة اعتقال الشهيد هانيء، ثم التناغم الكارثة بين
شريح وعمرو بن الحجاج، بل وإلى لحظة اتساع رقعة تفرق الناس، قبيل
قلع بعض سقف المساحات المسقفة من المسجد، توحي بتماسك موقف أهل
الكوفة، رغم كل ما اشتهروا به من غدر وتلوُّن، وانقلاب على
الأعقاب، إلى حد أن الشهيد مسلماً اطمأن إلى ثبات الموقف، فكتب إلى
الإمام الحسين عليه السلام ليتوجه إلى الكوفة.
ومن الخطأ
الفادح، والمجانبة لأدنى مِسكة من الموضوعية والتثبت، إرجاع ذلك
إلى قصور في القراءة السياسية، وعدم الدقة في رصد مؤشر ميزان القوة
لدى الشهيد القائد عليه الرحمة والرضوان، فلم يتفرد هو بذلك لأن
مهمته كانت تتركز بالدرجة الأولى في استطلاع الوضع ومعرفة ما أجمع
عليه رأي الملأ وذوي العقل والفضل.
ويظهر ذلك
بأدنى تأمل في رسالة الإمام إلى أهل الكوفة، وطبيعة مهمة الشهيد
مسلم، التي تقدم بيانهما، من خلال قول الإمام عليه السلام:
"وإني باعث إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي، فإن كتب إلي أنه
قد اجتمع رأي ملئكم وذوي الحجا والفضل منكم على مثل ما قدمت به
رسلكم وقرأت في كتبكم، أقدم عليكم وشيكاً إن شاء الله".
يؤكد هذا
أن وجوه الكوفة وأبدالها، الذين بايعوا الإمام كانوا - معظمهم أو
جميعاً - يرون أن مقدمات النهضة قد اكتملت، وأصبح بالوسع الحديث عن
جهوزية الكوفة للتغيير، فلا يتصور أن يشيروا على الشهيد مسلم
بالكتابة إليه بذلك مع فرض احتمال التبدل في الموقف.
وإذا
استحضرنا أن "ذوي الحجا والفضل" في الكوفة الذين يفترض أن الشهيد
مسلماً أصغى إليهم هم الشهداء هانيء بن عروة، وحبيب بن مظاهر،
وميثم التمار، وأمثالهم، ممن يركن إلى حسن تقييمه وسداد رأيه،
أدركنا بوضوح أن الموقف في الكوفة كان يبدو بحق في غاية القوة
وذروة الصلابة.
وقد كان
الوضع حقيقة كذلك دون أدنى شك ثم حدث ما لم يكن بالحسبان مطلقاً،
ولم يبق حجر على حجر.
لنقرأْ
مرة أخرى، بذهول، واعتبار "وكان كُبْرُ أمره {أي معظم
اهتمام ابن زياد} " أن يتمسك بباب القصر" بلفظ الطبري
(1) أو" يُمسك باب القصر" بلفظ غيره.(2)
وما أكثر
حركات الإعتراض التي كانت تملك من مقومات القوة فائضاً كبيراً عما
تحتاجه للوصول إلى الحكم، ومع ذلك فإنها لم تصل.
ولا يعني
ذلك أدنى شائبة توجيه للإنقلاب الكوفي على الأعقاب والذي يبقى مضرب
المثل عبر الأجيال، وإنما يعني الدعوة إلى حسن القراءة في هذا
الإنهيار الكوفي الرهيب.
نخطيء
كثيراً إذا انطلقنا من الإستهانة برصيد " الثورة" في الكوفة عشية
شهادة مسلم وهانيء، ونخطيء كثيراً إذا بحثنا عن أعذار للكوفيين.
وعلى تجنب
هذين الخطأين، يتوقف الوصول إلى حقيقة ما جرى في الكوفة، سواءً قبل
الإنهيار، أو بعده.
ولكي ندرك
هول هذا الإنهيار وتداعياته، فإن علينا أن نتنبه إلى أننا لا نتحدث
عن تظاهرة حاشدة رفعت شعارات معادية للنظام، ثم تلاشت، ولا عن بضعة
ألوف أعلنوا الحرب، ثم اضطروا إلى الإنسحاب والتخفي، ولا نتحدث
كذلك عن حركة اعتراض جادة ضد الحاكم المحلي تحت سقف السمع والطاعة
للحاكم المركزي.
إننا
نتحدث عن الكوفة – الحاضرة الإسلامية الأقوى والأبرز، ودار الجند –
التي أعلنت الثورة على الحاكم المركزي، وكل امتداداته، وخرجت إلى
الشارع وحاصرت قصر الإمارة، وضيقت الخناق على ابن زياد بن أبيه،
الذي تحمل الكوفة على أكتافها وأنوفها من ثاراتها مع أبيه ما يكفي
بعضه للإطاحة به وتمزيقه شر ممزق، وقد تصاعد المد الثوري منذ هلاك
معاوية وحتى لحظة تحصن الطاغية بالقصر المنيع وبذل قصارى جهده
ليبقى باب القصر موصداً يقبع خلفه ترتعد فرائصه خوفاً من أن يجتاح
إعصار الثورة قصره، ويقضي عليه.
هذه
الكوفة، كيف كانت بعد الشهيدين؟ وماذا سيجرى فيها بعد هذا
الإنهيار؟
من هم
الشهداء الكربلائيون في الكوفة؟ ومن هم الذين أصدر الطاغية فيهم
حكم القتل ولم يتمكن من تنفيذه؟
وكيف
ستكون ردة فعل "ثوار" الأمس الذين لم يصمد ضحل خزينهم "الثوري" إلى
ما بعد صلاتي المغرب و العشاء؟
كيف
سيتصرفون وقد كشفوا أنفسهم بما لا مزيد عليه أمام من أمعن في القتل
على الظن و التهمة؟
من غادر
منهم الكوفة فولى هارباً من عواقب ما أقدم عليه؟
ومن اختبأ
منهم داخل الكوفة؟ ومن هم، وكم هم الذين تملقوا شيوخ العشائر
للتدخل مع الطاغية للصفح عنهم؟
و كيف
ستكون ردة فعل الطاغية المتجبر, خصوصاً مع هؤلاء الذين جرّعوه غصص
الموت الزؤام، وألقوا به لساعات عجاف في غياهب النزع، حتى بلغت
الروح الحلقوم، الأمر الذي سيكون له حضوره الكبير في جميع تصرفات
الطاغية في ما بعد.
لا شك
-إذاً- أن أحداثاً جساماً طبقت أصداؤها أرجاء الكوفة، بعد ذلك
الدوي الهائل الناجم عن سقوط أهلها في الإمتحان الكربلائي.
ولا شك في
أن الإجابة على كل ما تقدم من أسئلة وما يشبهها غاية في الأهمية،
يفرض اكتمال البحث في أحداث الكوفة الوقوف عنده، من خلال الدخول
إلى النسيج الكوفي لمعرفة خصائص الظاهرة الكوفية والتأمل عن كثب في
ملامحها والقسمات لاستلهام الدروس والعبر, وتبرئة ساحة أولئك
الأبدال الذين لم يجد الضعف إلى أنفسهم سبيلاً, فمنهم من قتل فوراً
ومنهم من سجن ثم قتل ومنهم من تمكن من اللحاق بسيد الشهداء واستشهد
بين يديه.
ولكن
الحقيقة المرة هي أن ما تحمله مظان هذه الوقائع من معطيات لا يمكنه
أن يفي بالغرض، مما يحتم أن تبقى أكثر الأسئلة حائرة تنتظر دورة
الزمن لتتراكم جهود الباحثين، أو العثور على بعض المصادر الكثيرة
التي ضاعت في غمرات تقلبات الدهر، أوغير ذلك مما يحمل الغد الآتي.
إلا أن
هذا لا ينبغي أن يحول دون الوقوف عند ما تحمله المصادر وإن لم يكن
فيه ما يروي الغليل.
* * * * *
*المختار في مأزق
يطالعنا في البداية نص ملفت عن دخول المختار الثقفي إلى
الكوفة، واكتشافه أن كل شيءٍ قد انتهى، وهذا ابن زياد يحكم قبضته
على الرقاب والمصائر.
قال
الطبري:
" خرج ابن عقيل يوم خرج والمختار في قرية له ب: "خطرنية"(3)
تدعى " لقفا " فجاءه خبر ابن عقيل عند الظهر أنه قد ظهر بالكوفة، فلم
يكن خروجه يوم خرج على ميعاد من أصحابه، إنما خرج حين قيل له إن
هانيء بن عروة المرادي قد ضرب وحبس، فأقبل المختار في موالٍ له حتى
انتهى إلى باب الفيل بعد الغروب، وقد عقد عبيدالله بن زياد لعمرو بن
حريث رايةً على جميع الناس، وأمره أن يقعد لهم في المسجد، فلما "قدم"
المختار وقف على باب الفيل فمر به هانيء بن أبى حية الوادعي، فقال
للمختار: ما وقوفك ههنا؟ لا أنت مع الناس، ولا أنت في رحلك!
قال: أصبح
رأيي مرتجاً لعظم خطيئتكم!
فقال له أظنك والله قاتلاً نفسك. ثم دخل
على عمرو بن حريث فأخبره بما قال للمختار وما رد عليه المختار.
( قال أبو مخنف ) فأخبرني النضر بن صالح عن عبد الرحمن بن أبى
عمير الثقفى، قال: كنت جالساً عند عمرو بن حريث حين بلَّغه هانيء بن
أبى حية عن المختار هذه المقالة، فقال لي قم إلى ابن عمك فأخبره أن
صاحبه { أي ابن زياد} لا يدري أين هو، فلا يجعلن على نفسه
سبيلا. فقمت لآتيه ووثب إليه زائدة بن قدامة بن مسعود فقال له:
يأتيك على أنه آمن. فقال له عمرو بن حريث: أما مني فهو آمن، إن رقى
إلى الأمير عبيدالله بن زياد شيء من أمره، أقمت له بمحضره الشهادة،
وشفعت له أحسن الشفاعة. فقال له زائدة بن قدامة لا يكونن مع هذا إن
شاء الله إلا خير. قال عبد الرحمن فخرجت وخرج معي زائدة إلى
المختار فأخبرناه بمقالة ابن أبى حية وبمقالة عمرو بن حريث،
وناشدناه بالله ألا يجعل على نفسه سبيلاً، فنزل إلى ابن حريث فسلم
عليه وجلس تحت رايته حتى أصبح.
"
وتذاكر الناس أمر المختار وفعله، فمشى عمارة بن عقبة بن أبى معيط
بذلك إلى عبيدالله بن زياد فذكر له، فلما ارتفع النهار فُتح باب
عبيدالله بن زياد، وأذن للناس، فدخل المختار في من دخل، فدعاه عبيدالله،
فقال له أنت المقبل في الجموع لتنصر ابن عقيل؟ فقال له: لم أفعل
ولكني أقبلت ونزلت تحت راية عمرو بن حريث وبتُّ معه وأصبحت، فقال له
عمرو: صدق أصلحك الله. قال فرفع القضيب فاعترض به وجه المختار فخبط
به عينه فشترها، وقال أولى لك، أما والله لولا شهادة عمرو لك لضربت
عنقك. إنطلقوا به إلى السجن فانطلقوا به إلى السجن فحبس فيه فلم
يزل في السجن حتى قتل الحسين ".(4)
ويلاحظ
هنا ما يلي:
1- أن المسافة بين الكوفة وقرية المختار - ذهاباً وإياباً - كانت
تستغرق حوالي الوقت ما بين الظهر والمغرب(5)
ومثل هذه المسافة لا تتيح في ظرف كالذي شهدته الكوفة إثر اعتقال
الشهيد هانئ إيصال خبر عاجل إلى المختار، ليكون حاضراً في بدايات
التحرك، ولكنه توجه إلى الكوفة بمجرد أن بلغه خبر خروج مسلم،
فوصلها ليلاً، بعد أن كان ابن زياد قد عيَّن عمرو بن حريث أميراً
على الكوفة من قبله.
2- وقد
أورد الطبري نفسه عن غير أبي مخنف ما يوحي بأن دخول المختار الكوفة
كان قبل الغروب. قال الطبري:
"وذكر هارون بن مسلم عن علي بن صالح عن عيسى بن يزيد أن المختار
بن أبي عبيد وعبد الله بن الحارث بن نوفل كانا خرجا مع مسلم، خرج
المختار براية خضراء، وخرج عبد الله براية حمراء، وعليه ثياب حمر،
وجاء المختار برايته فركزها على باب عمرو بن حريث، وقال: إنما خرجت
لأمنع عمراً، وأن الأشعث والقعقاع بن شور وشبث بن ربعي قاتلوا
مسلماً وأصحابه عشية سار مسلم إلى قصر ابن زياد قتالاً شديداً وأن
شبثاً جعل يقول: إنتظروا بهم الليل يتفرقوا".(6)
ولا مجال
للمقارنة بين ما تقدم عن أبي مخنف، وبين غيره، ثم إن ما ذكر هنا
ليس نصاً في التوقيت، وإنما يفهم التوقيت فيه من السياق، ولا يركن
إليه.
3- لم
يدخل المختارالكوفة - إذاً - وحده بل دخلها ومعه جماعة وهو يحمل
راية خضراء، ويحمل عبد الله بن الحارث بن نوفل بن عبد المطلب راية
حمراء، ومع المختار مواليه.
إنها اذاً
مجموعة محاربة تريد الإلتحاق بجيش مسلم وقد دخلت الكوفة في الوقت
الذي تفرق فيه الجيش عن قائده، وانتهى الأمر، ولك أن تقدر خطورة
الموقف.
ولشدة
ذهول المختار فإنه قد فقد السيطرة على أعصابه، وتصرف بمنتهى
البلاهة، وعندما رآه هانيء بن أبي حية - وهو الذي حمل رؤوس الشهداء
مسلم وهانيء وعمارة إلى الشام- تعجب من تعريضه نفسه للقتل، فقال له
المختار: "أصبح رأيي مُرتَجَاً(7)
لعظم خطيئتكم!" ثم يبلغ ابن أبي حية ما رآه إلى عمرو بن حريث
الذي قرر تغطية انكشاف المختار، ولعل السبب في ذلك يرجع إلى حضور
قدامة بن زائدة الذي كان شديد الإخلاص للمختار، كما سيأتي.
ويجدر
التأمل ملياً في مقولة المختار هذه واعتبارها من وثائق فهم حقيقة
الموقف في الكوفة قبل الإنقلاب على الأعقاب، فالمختار رغم كل ما
عرف به من حنكة ودهاء، وشديد حذر، وتقليب الأمور ظهراً لبطن، كان
موقناً بأن الكوفة هذه المرة غيرها في مراتٍ سابقة، و أن الجو فيها
لصالح مسلم، وهذا ما حمله على دخول الكوفة بتلك الطريقة المكشوفة،
مطمئناً كل الإطمئنان إلى سهولة السيطرة على قصر الإمارة وعلى
مقاليد الأمور في الكوفة.
كما يجدر
التأمل في خطاب المختار بمقولته هذه لابن أبي حية بما يشمله هو
شخصياً: " لعظم خطيئتكم" وهو صريح في أن هذا الذي سيحمل بعد قليل
الرؤوس إلى الشام، كان بحسب تصنيف المختار من جمهور المعارضة!
تبقى
الإشارة إلى أمرين:
أ- أن الذي أوقع المختار في هذا المأزق بالإضافة إلى تخاذل أهل
الكوفة هو ما ورد في النص من أن الشهيد مسلم بن عقيل اضطر إلى
تقديم موعد الثورة نتيجة إعتقال الشهيد هانيء.
ب- أن
المختار قد رد التحية لعمرو بن حريث بأحسن منها، يوم أصبح الحاكم
بأمره في الكوفة، فسمح لعمرو بن حريث أن يخرج من القصر المحاصر إلى
بيته ثم إلى البر سالماً.(8)
* من المشهد الكوفي: التواري، وأخذ
الأمان
ويورد الطبري بعد ما تقدم عن دخول المختار الكوفة ما
يكشف عن بعض وقائع ما بعد الإنهيار الكوفي، وبشكل خاص اضطرار البعض
إلى التخفي وتوسيط شيوخ العشائر للصفح عنهم. وليس ما ورد هنا إلا
عينة من ظاهرة، وملمحٌ من مشهد.
قال الطبري:
" ثم
إن المختار بعث إلى زائدة بن قدامة فسأله أن يسير إلى عبد الله بن
عمر بالمدينة فيسأله أن يكتب له إلى يزيد بن معاوية، فيكتب إلى
عبيدالله بن زياد بتخلية سبيله، فركب زائدة إلى عبد الله بن عمر
فقدم عليه فبلغه رسالة المختار، وعلمت صفية أخت المختار بمحبس أخيها،
وهى تحت عبد الله بن عمر، فبكت وجزعت، فلما رأى ذلك عبد الله بن عمر
كتب مع زائدة إلى يزيد بن معاوية: أما بعد فإن عبيدالله بن زياد حبس
المختار وهو صهري، وأنا أحب أن يعافى ويصلح من حاله، فإن رأيت
رحمنا الله وإياك أن تكتب إلى ابن زياد فتأمره بتخليته فعلت
والسلام عليك.
فمضى زائدة على رواحله بالكتاب حتى قدم به على يزيد
بالشام فلما قرأه ضحك، ثم قال يشفع أبو عبد الرحمن وأهل ذلك هو.
فكتب له إلى ابن زياد: أما بعد فخلّ سبيل المختار بن أبى عبيد حين
تنظر في كتابي والسلام عليك.
فأقبل به زائدة حتى دفعه إلى ابن
زياد. فدعا ابن زياد بالمختار فأخرجه ثم قال له: قد أجّلتك ثلاثاً،
فإن أدركتك بالكوفة بعدها فقد برئت منك الذمة فخرج إلى رحله. وقال
ابن زياد والله لقد اجترأ عليّ زائدة حين يرحل إلى أمير المؤمنين
حتى يأتيني بالكتاب في تخلية رجل قد كان من شأني أن أطيل حبسه.
عليَّ به. فمر به عمرو بن نافع أبو عثمان كاتبٌ لابن زياد وهو
يُطلب وقال له: النجاء بنفسك واذكرها يداً لي عندك. قال فخرج زائدة
فتوارى يومه ذلك، ثم إنه خرج في أناس من قومه حتى أتى القعقاع بن
شور الذهلي ومسلم بن عمرو الباهلي فأخذا له من ابن زياد الأمان ".(9)
ومن
المفيد الإشارة إلى أن زائدة بن قدامة الذي كان مقرباً من ابن حريث
كما يدل عليه ما سبق من أخذه الأمان له من ابن حريث، كان وثيق
الصلة بالمختار إلى حد أنه غامر بمصيره وركب القفار من أجل إنقاذه،
ولقد كان قدامة بن سعد حفيد زائدة هذا مقرباً أيضا من ابن حريث،
كما تدل عليه منقولات أبي مخنف عنه لبعض وقائع القصر وما يرتبط به.
* الحلقات المفقودة
وما جرى للمختار، وزائدة رغم أنه مقرب من أمير
الكوفةآنذاك، يسلط الضوء على الأوضاع المشابهة التي يقدر أن يكون
قد اضطر إليها كثير من الموالين وغيرهم, كما يبين أن كثيراً من
الإعتقالات وربما الصدامات قد حصلت نتيجة المباغتة بتسارع الأحداث.(10)
ليس
طبيعياً أبداً, أن ينهار تحرك سياسي كبير, و لا تكون لذلك آثار و
ذيول على أوسع نطاق تمتد طيلة أيام على الأقل وتشمل أعداداً غفيرة
ممن لا ترضي السلطة ميولهم، خاصة و أن قادة هذا التحرك هم وجهاء
المجتمع ورموزه.
من
الطبيعي جداً أن ابن زياد في الوقت الذي كان يسعى فيه لاعتقال مسلم
وتصفيته ومن بعده هانيء، كان يبذل أيضاً قصارى جهده لاعتقال رموز
نهضة مسلم والموالين للإمام الحسين، وتصفيتهم، خصوصاً وأن الكوفة
لم تكن كغيرها من سائر المناطق، فقد كانت تحتضن عدداً كبيراً من
الشخصيات البارزة من خواص أصحاب أمير المؤمنين سلام الله عليه
الذين كان يمكن لكل واحدٍ منهم أن يكون محوراً للكوفة كلها.
ويؤكد هذه
الحقيقة، الثابت من أن الطاغية قد ألقى بعددٍ من هؤلاء العظماء في
غياهب السجن(11)
وقد جاء
ذلك ضمن تدابير الأحكام العرفية التي أعلنها في الكوفة، التي ظلت
أكثر حلقاتها حتى الآن مفقودة، رغم ما يقال عن "تتبع الاشراف
الناهضين مع مسلم"(12) أو الحديث عن أربعمائة
معتقل(13) من الوجوه وغيرهم، بل وعن اعتقال
اثني عشر ألفاً(14) فإن ما هو أكثر من ذلك
طبيعي جداً في ظرف الكوفة عند إحكام طاغية "لا يصطلى بناره" قبضته
عليها، إلا أن من تحدثوا عن ذلك لم يقدموا مستنداً يمكن الركون
إليه والإطمئنان به، والمصادر الأم خالية الوفاض منه، ما عدا ما
تقدم من شذرات لا تبل الغلة، وما يأتي من شهادة من ثبتت شهادتهم.
ولا يمكن
أن تكتمل ملامح المشهد الكوفي دون الوقوف على هذه الأحداث العاصفة
التي أعقبت مقتل الشهيدين مسلم وهانيء، كما لا تكتمل حلقة الإعتبار
إلا به.
* عبرتان برسم الأجيال
الأولى: من الملفت أن تنهار الكوفة رغم وجود كل هذه
الشخصيات فيها الا أن العبرة التي ينبغي استخلاصها من ذلك، أن
توفَّر القيادة الحكيمة لا يكفي لإحراز النصر، بل لابد من تحمل كل
فردٍ مسؤليته. "كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته".
ثمة
قيادات عظيمة، كثيرة في التاريخ، إلا أنها لم توفق لإحراز النصر
على الطاغوت، والسبب هو أن لكل فرد في المجتمع دوراً أساسياً، كما
أن للقائد دوراً اساسياً، ودور كلٍ بحسبه.
إن انهيار
الكوفة أمام المتغيرات المفاجئة، يكشف مكمن الخلل في بنية الشخصية
الكوفية، وهو العبودية للرأي العام بدلاً من العبودية لله تعالى،
وعندما يصبح "الرأي العام" إلهاً يعبد من دون الله تعالى، يفقد
الإسلام أنصاره و تخلو الساحة للشيطان، وليزيد و ابن زياد و
أضرابهما و أتباعهم.
و لا
يتصور على الاطلاق أن يكون مجتمع "الإمعات"(15)
حافلاً بالممانعة و الإعتراض.
هنا
تبدو بجلاء أهمية أن يربي المسلم نفسه على الموقف المبدئي، فلا
تزيده شدة تفرق الناس عنه إلا تماسكاً و تجذراً، فيمضي في طريقه
كحد السيف ما دام تكليفه الشرعي واضحاً.
إن عقد
القلب على هذا المنهج هو وحده المدخل إلى اصطفاف المجاهدين و
الثوار في الصف الذي يحبه الله تعالى.
و هل
انطلقت ثورة إلا من أتون التحدي و معاكسة التيار العام؟ و هل التف
الناس حول راية ثورة، إلا بعد أن طال ليل معاناة الثوار الأوائل، و
تحملوا من التهم و الأذى و البطش، ما لا يقوى عليه إلا الأبدال.
و المسافة
بين هذا المنطق و تنظير الحالمين، الذين يستنبطون "الموقف
المبدئي"! من "معطيات الواقع" الموهوم عادة، هي نفس المسافة بين
مجاهد و آخر قاعد، الأول يدرس "المعطيات" جيداً ليواجهها بالأسلوب
الأمثل، و الثاني تأسره هذه المعطيات و تزيده قناعةً بالإخلاد إلى
الأرض و هو يحسب أنه يحسن صنعا .
* أما
العبرة الثانية و هي الترجمة العملية للأولى، فهي، أولئك الشهداء
"الكوفيون" الذين تبرؤوا عملياً من الإيمان الكوفي، والتحقوا بسيد
الشهداء عليه السلام، فأثبتوا حقائق كثيرة في طليعتها أن الظاهرة
الكوفية لا ترتبط بجغرافيا الكوفة والعراق بل ترتبط بمرض يمكنه أن
يضرب كل نفسٍ بشرية لا تمتلك المناعة الكافية منه ومن مقدماته التي
تؤدي إلى الإصابة به.
لقد كان
هؤلاء بين أهل الكوفة، إلا أنهم لم يكونوا منهم، عاشوا بكل ذرةٍ من
كيانهم تداعيات ذلك الإنهيار العجيب، و أحسوا بكل كيانهم بتخاذل
الناس من حولهم، إلا أنهم لم يتأثروا بذلك إطلاقاً ولم يحددوا
تكليفهم على أساس الرأي العام، و إنما حددوا تكليفهم على أساس أن
الإمام الحسين هو سبط رسول الله صلى الله عليه و آله، و قد أوصى
الأمة بطاعته و حبه، وهو إمام زمانهم، و قد ثار على الحاكم الظالم
الذي يشكل الخطر الأكبر على الإسلام.
و رغم أن
الخروج من الكوفة كان مكلفاً جداً، فقد يؤدي مجرد محاولة الخروج
إلى القتل، فإنهم رضوان الله تعالى عليهم قرروا الإلتحاق بسيد
الشهداء، علماً بأن الطريقة التي اضطر إليها بعضهم كانت محفوفة
بأكبر المخاطر، إذ أن الطاغية - و بعد ان استتب له الأمر في الكوفة -
رمى بكل ثقله العسكري و الأمني في مجال الحيلولة بين الإمام الحسين
و أنصاره الذين قد يفكرون بالتوجه إليه.
كانت
الحواجز كثيفة جداً إلى حد أن من هم خارج الكوفة لم يكونوا
يستطيعون الدخول إليها، و الذين هم فيها لا يستطيعون مغادرتها.(16)
و رغم ذلك
كله نجد أن فريقاً من شهداء كربلاء الذين التحقوا بالإمام عليه
السلام قدموا من الكوفة، وتحدوا كل المخاطر، حتى أن أحدهم و هو
الشهيد عامر بن أبي سلامة الدالاني، حمل على تجمع لجنود الطاغية
قوامه خمسمائة فارساً، و فرقهم ليمضي في طريقه الكربلائي، و يلتحق
بسيد الشهداء عليه السلام.(17)
" قل كلٌ يعمل على شاكلته".
تتلخص هذه
العبرة بأن على الطليعة المجاهدة أن تكون متحررة من قيود ممالئة
الرأي العام على الخطأ كي تصبح مؤهلة لإحداث الصدمة، و احتلال
الموقع الريادي.
وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين.
الشهـداء في الكوفـة
أبرز
تداعيات الانهيار الكوفي - بعد الشهيدين - أمران:
الاول:
التصفية الجسدية الفورية لعدد من الرموز الموالين للإمام الحسين
عليه السلام الذين أمكن القاء القبض عليهم.
الثاني:
الزج بقسم آخر منهم في السجن، لينظر في أمره في ما بعد، في ضوء
المعطيات و منها المعادلات القبلية.
و نتيجة
ذلك فقد استشهد في الكوفة، عدد من الشهداء الأبرار، الغرباء، و
المظلومين، الذين بقيت أمنية نصر الامام الحسين والاستشهاد بين
يديه في ساحة المعركة حسرة في قلوبهم، جزاهم الله عن الاسلام و
أهله افضل الجزاء، و رزقنا شفاعتهم.
و سأحاول
هنا التعرف عليهم في تراجم أفردت لكل منهم.
وقد أضفت
إليهم الشهيدين عبدالله بن بقطر، وقيس بن مسْهر لأنهما استشهدا في
الكوفة ويأتي الكلام في توقيت شهادة كل منهما.
كما أضفت
ترجمة الشهيد الكربلائي الأول رسول الإمام الحسين عليه السلام إلى
البصرة الذي استشهد على مشارف توجه ابن زياد من البصرة إلى الكوفة،
بعد أن جُمع له المصران.
ولم أورد
ترجمة الشهيد عبد الله بن عفيف الأزدي، فقد استشهد في مرحلة لاحقة
عند دخول السبايا إلى الكوفة.
وكانت في
السياق وقفة تفصيلية حول من ذكر أنهم استشهدوا في الكوفة خلال هذه
الحوادث وإثرها، ولم تثبت شهادتهم، أو ثبت عدمها.
الشهيد عبدالله بن بقطر
* على أعتابه
لدة الحسين، وكفاك فخراً أن يقترن مولدك بمولده، أو
رضيع الحسين، وكفاك عزاً أن ينبت منك اللحم ويشتد العظم على حليب
طاهر اختاره الله تعالى لرضاعة من هو من المصطفى الحبيب، وهو - فداه
كل العالمين- منه، وشهيد رسالة الحسين، المؤذن بها من فوق شرفة
القصر - بأعلى الصوت وفوار دمه الحسيني الذي ترجم بكل أمانة در
الثدي الطاهر - معرباً عن بعض خلجات ما يكنه الفؤاد من عشق الحسين،
بالرأس المقطوع، والجسد المدمى يهوي من طمار، وحشرجة العظام،
والذبح بشفرة قاضي الكوفة، قبل أن تهوي الشفرة إلى نحر سيد
الشهداء، وقبل أن يعفر جسده التريب، وترض الخيول صدره، ويحمل رأسه
على الرمح.
إنها
المواساة. لقد أبى الرضيع اللدة إلا أن يشارك المولى بعض تعبيرات
النهاية كما شاركه البداية.
ذلكم هو
الصحابي الآخر من أنصار سيد الشهداء عليه السلام ورسوله إلى أهل
الكوفة، الشهيد عبدالله بن بُقطر، رزقنا الله تعالى شفاعته.
* ضبط الإسم
ورد اسم الشهيد في عدد كبير من المصادر: عبدالله بن
يقطر(18)
وضبطه العلامة الحلي " بالقاف الساكنة
بعد الياء المنقطة تحتها نقطتان، والطاء المهملة والراء"(19)
كما ضبطه المحقق النراقي " بالقاف الساكنة بعد الياء المثناة
التحتانية ثم الطاء المهملة ".(20)
وفي
المقابل ورد الإسم في عدد آخر من المصادر عبدالله بن بقطر بالباء
بنقطة واحدة قبل القاف، لا الياء بنقطتين.(21)
و الراجح
هو الثاني بالباء بنقطة واحدة، بقرينة عدم كون الإسم بالياء
بنقطتين، متداولاً كما يتضح من مراجعة المعاجم الرجالية، واللغوية(22)
وغلبة كون الإسم بالباء بنقطة واحدة قبطياً معرباً عن (فيكتور)
ويطلق ذلك في كتابات النصارى إطلاق المسلمات.
ولا يعني
إطلاق الإسم على شخصٍ، كونَه غير عربي، فقد ورد في نسب الشهيد أنه
"عبدالله بن يقطر ( بنقطتين ) بن أبي عقب الليثي من بني ليث بن بكر
بن عبد مناف بن كنانة"(23)
* محاور التعريف بالشهيد
أولاً: لدة الحسين، أو رضيعه عليه السلام.
ثانياً: المهمة.
ثالثاً: الشهادة.
* المحور الأول
تدرج المصادر على وصف الشهيد بأنه رضيع الحسين(24)
عليه السلام، إلا في موردين متأخرين وصفاه بأنه " لدة الحسين"(25)
أي تربه الذي ولد معه في وقت واحد، وقد نسبا ذلك إلى ابن حجر في
الإصابة وما وجدته في النسخة التي اعتمدتها هو قول ابن حجر
"عبدالله بن بقطر ذكر أبو جعفر الطبري أنه قتل مع الحسين بن علي
بكربلاء وكان رضيعه"(26)
والفرق
بين الوصفين أن الرضيع أكثر قرباً من اللدة لاشتراكه معه في
الحليب، و وصف اللدة يحتمل فيه ذلك إلا أنه ليس نصاً فيه، لكن
الوصفين يشتركان في الدلالة على كون الشهيد صحابياً - مع إمكان
دغدغة في ذلك - وقد عده ابن حجر في الصحابة.
والأرجح
أن الصحيح هو الجمع بينهما فهو لدة الإمام ورضيعه، لكن المستفيض في
المصادر هو الثاني، وسيأتي في الحديث عن شهادته تصريح سيد الشهداء بأنه
أخوه من الرضاعة(27) وإذا ثبت أنه رضيع استتبع
- عادة - كونه لدته عليه السلام.
المحور الثاني:
تتداخل مهمة الشهيد عبدالله مع مهمة الشهيد قيس بن
مُسْهِر، والسبب هو اشتراكهما في كونهما رسولين، واشتراكهما في
طريقة القتل، واشتراكهما بحسب بعض المصادر في ذبح قاضي الكوفة لكل
منهما بعد الإلقاء من أعلى القصر.
وينبغي
التنبه إلى أن الغموض في ترجمة الشهيد عبد الله ينشأ- بالإضافة إلى
التداخل المذكور- من كون المشهور أنه رسول الإمام إلى مسلم، وهو
مقتضى كونه لدة الإمام فمقامه حيث هو الإمام، ووجوده في الكوفة علامة
كونه رسولاً منه، إلا أن نص الرسالة التي حملها من الإمام غير
محدد، وفي المقابل فإن نص الرسالة التي حملها من الشهيد مسلم هو
الذي يجري الحديث عنه في عدد من المصادر المعتبرة، ومع ذلك فإن
مانسب إليه على أبواب الشهادة هو التصريح بأنه رسول الإمام عليه
السلام.
و هو ما
يجعل السؤالين الأصعب حول الشهيد عبدالله:
1- هل كان رسول الإمام إلى مسلم أم العكس؟
2- كيف يمكن التفريق بين مهمته وبين مهمة الشهيد قيس؟
و يستتبع
ذلك محاولة تحديد الفترة التي استشهد فيها لدى القيام بمهمته.
و يمكن
الإجابة على السؤالين الأول والثاني بما يلي:
أوردابن
أعثم والخوارزمي وابن شهراشوب أن الشهيد كان رسول مسلم إلى الإمام،
وأنه كان يحمل إليه الرسالة التالية:
" بسم
الله الرحمن الرحيم للحسين بن علي. أما بعد فإني أخبرك أنه بايعك
من أهل الكوفة ماينيف على عشرين ألفاً، فإذا أتاك كتابي هذا فالعجل
العجل، فإن الناس كلهم معك، وليس لهم في يزيد بن معاوية هوى ولا رأي
".(28)
و ترسل
المصادر الأخرى كون الشهيد رسول الإمام إلى مسلم، إرسال المسلمات،
حتى أن ابن شهراشوب نفسه يقول في سياق آخر:
" ومن أصحابه : عبدالله
بن يقطر رضيعه وكان رسوله".(29)
وهو ما جعل
السائد المشهور أنه رسول الإمام عليه السلام.(30)
إلا أن التدقيق في الظروف والمعطيات يقوي كونه رسول الإمام إلى
الشهيد مسلم ورسول الشهيد مسلم أيضاً إلى الإمام.
و تجدر
الوقفة في هذا السياق عند العناصر التالية:
1- نحن
أمام رسالتين(31) إحداهما الرسالة التي يقال إن الشهيد عبدالله كان
يحملها من الشهيد مسلم إلى الإمام، والثانية الرسالة التي يقال إن
حاملها من الإمام إلى الشهيد مسلم هو الشهيد قيس أو الشهيد
عبدالله، والقرائن المتقدمة تساعد على كون الأولى مع الشهيد
عبدالله والثانية مع الشهيد قيس.
2- تتحدث
المصادر عن إرسال الإمام أخاه من الرضاعة، بشكل ملتبس بينه وبين
الشهيد قيس، أو بإشارة إلى إرساله إياه في معرض الحديث عن شهادته،
فتأتي الصيغة هكذا:
" ولما
بلغ الحسين الحاجر من بطن الرمة، بعث قيس بن مُسْهِر الصيداوي
ويقال إنه بعث أخاه من الرضاعة عبدالله بن يقطر إلى أهل الكوفة".(32)
وقد أورد
الطبري الخبر نفسه وليس فيه اسم الشهيد عبد الله.(33)
أو يأتي
الإلتباس في عدم تحديد وقت إرسال الإمام الشهيد عبد الله كما يلي:
" كان
الحسين لا يمر بأهل ماء إلا اتبعوه حتى انتهى إلى "زبالة" سقط إليه
مقتل أخيه من الرضاعة مقتل عبد الله بن بقطر، وكان سرحه إلى مسلم بن
عقيل من الطريق وهو لا يدرى أنه قد أصيب، فتلقاه خيل الحصين بن نمير
بالقادسية".(34)
ويصرح
الشهيد قيس بأنه ترك الإمام في الحاجر من بطن الرمة.(35)
بينما لا نجد ذلك منسوباً إلى الشهيد عبدالله إلا في النصوص
الملتبسة بين الإسمين، كما رأيت.
3- في
النص المتقدم تصريح باستعجال الشهيد مسلم قدوم الإمام، وهو ينسجم
مع ماورد من أنه قد أرسل رسالة قبل سبعة وعشرين يوماً (ربما مع
الشهيد قيس(36) ) ولما استبطأ وصول الإمام بادر
إلى إرسال الثانية مع الشهيد عبدالله، وينبغي أن يلاحظ في هذا
السياق أن ظرف الشهيد مسلم في الكوفة كان شديد الحرج، فقد اضطر إلى
مغادرة مكان إقامته، منتقلاً إلى بيت الشهيد هانيء، ولم يوافق
الشهيد - كما مر- على ما اقترحه عليه من إعلان خلع يزيد والسيطرة
على قصر الإمارة.
وبالتدقيق
في مضمون الرسالة المتقدمة نجد أنها تنسجم مع هذا الظرف.
4- في ضوء
ما تقدم يحتمل قوياً أن يكون الشهيد عبدالله رسول الإمام إلى مسلم،
ورسول مسلم إلى الإمام، أي أن الإمام بعد وصول رسالة الشهيد مسلم
التي بعث بها إليه قبل شهادته بسبعة وعشرين ليلة(37)
بادر إلى إرسال الشهيد عبدالله(38) و بعد أن
سلم الرسالة، حمل رسالة من الشهيد إلى الإمام فألقي القبض عليه وهو
في طريقه من الكوفة إلى مكة، ثم إن الإمام عندما وصل إلى الحاجر من
بطن الرمة أرسل الشهيد قيساً، إلا أن عدم وجود رسالة ينسجم تاريخها
مع التوقيت التقريبي لمجيء الشهيد عبد الله مرسلاً من قبل الإمام
يضعف هذا الإحتمالن لأن الموجود عبارة عن رسالتين يتناسب تاريخهما
مع مهمة الشهيد قيس، حيث ورد في الأولى قول الإمام عليه السلام:
"وقد شخصت إليكم ".." يوم التروية" وجاء في الثانية أن
الإمام كتبها من بطن الرمة أي بعد شهادة مسلم.(39)
إلا أن هذا الإحتمال يبقى قائماً غاية الأمر أنا لانعرف مضمون
الرسالة التي حملها الشهيد عبد الله، ولا تاريخ قدومه الكوفة
بالتحديد، وإن كان الراجح أنه قدمها قبل اعتقاله بأيام قليلة.
و بناء
عليه فإن كون الشهيد عبدالله بن بقطر رسولاً من الإمام واليه معاً،
أقرب الوجوه إلى طبيعة الأمور وسير الأحداث، وهو ما يقوى في الظن،
خصوصاً إذا لاحظنا أن المكان الطبيعي في إقامة لدة الإمام هو
الحجاز، ويأتي مايعزز ذلك.
و تجدر
الإشارة هنا إلى أن تصريح الشهيد عبدالله بأنه رسول الإمام الحسين
عليه السلام(40) لا ينافي كونه رسوله ورسول
الشهيد مسلم إليه، لأنه رسوله فعلاً وقد أراد أن يوصل إلى الناس ما
يحثهم على اللحاق به عليه السلام.
* أما
تحديد الفترة التي ألقي فيها القبض على الشهيد عبدالله فهو يتراوح
في النصوص بين ما يلي:
1- ليلة
قدوم ابن زياد الكوفة، قال ابن عساكر:
" وأتي تلك الليلة برسول الحسين بن علي [ و] قد كان أرسله إلى مسلم
بن عقيل [ وكان ] يقال له : عبدالله بن يقطر فقتله".(41)
2- بعد
خروجه من عيادة شريك.
قال في المناقب: "فتوهم ابن زياد وخرج {من بيت هانيء}
فلما دخل القصر أتاه مالك بن يربوع التميمي بكتاب أخذه من يدي عبد
الله بن يقطر".(42)
3- أثناء
حديث ابن زياد مع من أرسلهم لاستدراج هانيء إلى القصر.
قال الخوارزمي: "فبينا عبيد الله مع القوم في هذه المحاورة، إذ
دخل رجل من أصحابه، يقال له مالك بن يربوع التميمي، فقال: أصلح
الله الأمير، هاهنا خبر، فقال ابن زياد: ماذاك؟ قال: كنت خارج
الكوفة أجول على فرسي، إذ نظرت رجلاً خرج من الكوفة مسرعاً يريد
البادية فأنكرته، ثم إني لحقته وسألته عن حاله فذكر أنه من
المدينة، فنزلت عن فرسي وفتشته فأصبت معه هذا الكتاب. ثم أورد
النص الذي تقدم ذكره.(43)
4- ما
يشعر بأن الفترة، بعد شهادة الشهيدين مسلم وهانيء، حيث قال الطبري:
" وكان
سرحه إلى مسلم بن عقيل من الطريق وهو لا يدرى أنه قد أصيب، فتلقاه
خيل الحصين بن نمير بالقادسية فسرح به إلى عبيدالله"(44)
وفي هذا
النص إشارتان إلى التوقيت، وهما قوله "لا يدري أنه قد أصيب"
وقوله
"خيل الحصين" وإنما تولى الحصين التشديد على الخروج من الكوفة
والدخول اليها بعد أن علم ابن زياد بتوجه الإمام إليها، وقد غادر
عليه السلام مكة في يوم خروج الشهيد مسلم بالكوفة، أي قبل شهادته
بيوم، أو قريباً من ذلك.(45)
ولابد من
تسجيل الملاحظات التالية:
1- يبعد أن تكون شهادته بالطريقة المعروفة ليلة قدوم الطاغية
الكوفة، أو بعد خروجه من بيت هانيء، لأن شهادة من هذا النوع ينبغي
أن تصبح محور الحديث وعلى كل شفة ولسان، و لايظهر لذلك أثر في
المداولات السرية أو العلنية في ما وصل من أخبار الأيام التي سبقت
انفجار الموقف عند استدراج هانيء.
ويتأكد ما
تقدم إذا لاحظنا أن شريكاً توفي بعد ثلاثة أيام من عيادة هانيء له،
وصلى عليه ابن زياد، وقد أوكل لمعقل مهمته بعد خروجه من بيت
هانيء كما سبق بيان ذلك كله، فقد كانت هذه الفترة كافية لتداول خبر
من هذا النوع وظهور بعض تداعياته.
2- ويبعد
أن يكون الذي تولى اعتقاله هو الحصين بن نمير، لأنه لم يتول مهمة
نظم الخيل على حدود الكوفة وعلى أوسع نطاق إلا بعد تفرق الناس عن
مسلم، ولعل ذلك ناشيء من التداخل المذكور آنفاً بين مهمتي الشهيدين
عبدالله وقيس، أو أن ينسب اعتقال مالك بن يربوع إياه إلى الحصين
بلحاظ أن الحصين مسؤول الشرطة العام.
3- ومن
البعيد جداً أن تكون شهادته بالطريقة المعروفة قبل المجيء بهانيء
إلى القصر مباشرة، لأن حدثاً من هذا النوع كان يكفي لحمل الشهيد
هانيء على الإمتناع عن مرافقة ابن الأشعث ومن معه، وهي نقطة شديدة
الأهمية في تحديد وقت شهادته رضوان الله عليه، وإن كانت لاتلغي أن
يكون اعتقاله - دون القتل - قبل مجيء هانيء، إلا أن يكون القتل بغير
الإلقاء من أعلى القصر كما أورد ابن أعثم والخوارزمي، ويمكن حمل
مافي المناقب عليه ولكن المشهور جداً خلافه.
4- الراجح
أن الشهيد اعتقل في الفترة التي سبقت استدراج هانيء بوقت قصير ولم
يُتناقل خبر اعتقاله إلا بعد دخول هانيء القصر، وهو ما يتناسب مع
وصول خبر مقتل الشهداء الثلاثة إلى سيد الشهداء (من الطرق
المتعارفة) في وقتين متقاربين.(46) وقد نعاهم
الإمام عليه السلام في نص واحد
(47) وسيأتي ذكر
ذلك في الحديث عن شهادته رضوان الله تعالى عليه.
وبناء على
ماتقدم تكون النتيجة في مجال التوقيت بالخصوص لصالح مارواه ابن
أعثم والخوارزمي، من أنه كان عند حديث الطاغية مع من أرسلهم
لاستدراج الشهيد هانيء إلى القصر، أي في اليوم الثامن
من ذي الحجة.
ومن
الملفت أن نص المناقب صريح في أن وقت اعتقال الشهيد كان بين خروج
ابن زياد من بيت هانيء كما تقدم، وبين إرساله ابن الأشعث ومن معه
لاستدراج هانيء، ليلتقي النص بذلك مع ما أورده ابن أعثم
والخوارزمي، ويشكل قرينة على عدم الدقة فيه.
وهكذا
يتعزز جداً احتمال أن يكون اعتقال الشهيد عبد الله كان على أبواب
استدراج الشهيد هانيء إلى القصر، ولا يمكن بناء على ذلك الجمع بين
قتله وقبول هانيء المجيء إلا بأن القتل كان بعد ذلك، غير أن تأخير
القتل لاينسجم مع ظاهر نصوص الشهادة من أنها حصلت فور الإعتقال،
وهو الأمر الذي يقوي أن يكون القتل قد حصل فوراً ولكن دون الإلقاء
من أعلى القصر، ولكن تصريح عدد كبير من المصادر بطريقة القتل
بإلقائه من طمار القصر وسقوطه إلى الأرض وبه رمق ثم ذبح القاضي
الجلواز له لايمكن تجاوزه إطلاقاً والله العالم.
والنتيجة
النهائية مما تقدم هي الآتي : أغلب الظن - كما مر - أن الشهيد
عبدالله حمل رسالة الإمام إلى الشهيد مسلم، في فترة السبع وعشرين
ليلة التي فصلت بين رسالة الشهيد مسلم إلى الإمام مع الشهيد قيس
وحمل رسالة الشهيد مسلم إلى الإمام في أواخر تلك الفترة نفسها.
يعني ذلك
أنه جاء الكوفة فسمع فيها ما سره من اجتماع كلمة القوم على نصرة
الإمام عليه السلام، ورأى تعقيد ظرف الشهيد مسلم، وأحاط علماً
بمحاولات ابن زياد الحثيثة لقلب ميزان القوى لصالحه، الأمر الذي
جعله يغذ السير مجدداً الى الإمام، ليوصل الرسالة في أسرع وقت
ممكن.
ويظهر من
تقارب زمن شهادته والشهيدين مسلم وهانيء، أنه غادر الكوفة حاملاً
الرسالة الجوابية في بداية الأيام المفصلية التي شهدت الإنهيار
الكوفي المدوي، حيث يبدو أنه اعتقل في أطراف الكوفة الممتدة آنذاك
إلى القادسية، التي أمر ابن زياد الحصين بن نمير في ما بعد أن ينظم
الخيل بينها وبين القطقطانة
(48) لتشديد
الرقابة على من يدخل الكوفة أو يخرج منها، ولقد كانت هذه الرقابة
قائمة من قبل، وإن بدرجة أخف.
والراجح
في وقت اعتقاله أنه على مشارف المجيء بالشهيد هانيء إلى القصر، أما
وقت شهادته وكيفيتها فالأقرب فيها معارض بالنصوص الكثيرة والأقوى.
* الشهـــــادة
تتفق
النصوص المختلفة على أن الشهيد عبد الله قد اعتقل خارج الكوفة وجيء
به مخفوراً إلى ابن زياد.
قال ابن
أعثم والخوارزمي:
"فلما وقف بين يدي ابن زياد قال له: من أنت؟
قال: مولى لبني هاشم.
قال مااسمك؟
قال: عبد الله بن يقطر.
قال: من دفع إليك هذا الكتاب؟
قال: امرأة لاأعرفها.
فضحك ابن زياد وقال: اختر واحدة من اثنتين: إما أن تخبرني من دفع
إليك هذا الكتاب، أو تُقتل.
فقال: أما الكتاب فإني لاأخبرك من دفعه إلي، وأما القتل فإني
لاأكرهه، لأني لا أعلم قتيلاً عند الله أعظم أجراً من قتيل يقتله
مثلك.
فأمر ابن زياد فضرب عنقه صبراً.(49)
وقال
الطبري:
"فتلقاه خيل الحصين بن نمير بالقادسية، فسرح به إلى عبيدالله بن
زياد، فقال: اصعد فوق القصر فالعن الكذاب ابن الكذاب ثم انزل حتى أرى
فيك رأيي، فصعد.
" فلما
أشرف على الناس، قال أيها الناس، إني رسول الحسين بن فاطمة ابن بنت
رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم لتنصروه وتوازروه على ابن
مرجانة ابن سمية الدعي، فأمر به عبيدالله فألقي من فوق القصر إلى
الأرض فكسرت عظامه، وبقى به رمق فأتاه رجل يقال له عبد الملك بن
عمير اللخمي، فذبحه، فلما عيب ذلك عليه، قال: إنما أردت أن أريحه ".(50)
و لئن
كانت أحاسيس الشهيد في بداية اعتقالاته موزعة بين ضرورة كتمان ما
يعرف، وبين احتمالات الإفراج السريع عنه، فإن بالإمكان أن تصغي
بأذن القلب إلى همسات قلبه الحسيني بالولاية والتربية والحليب
والدم، يردد مقالة الشهيد مسلم وكل شهداء كربلاء: ما لنفسي أبكي
وإن كنت لم أرد لها طرفة عين تلفاً، وإنما أبكي للحسين وأهل
الحسين!
هل عرف
الشهيد عبدالله بالإنقلاب الكوفي على الأعقاب؟
ومتى كانت
وقفة ابن زياد صاغراً أمام تعملق الإيمان في قلبه الحسيني؟
إن كانت
شهادته قبل الشهيد مسلم؟ فبماذا حدّث القلب القلب؟
وإن كانت
قبل دخول هانيء إلى القصر، فهل عرف بذلك؟
تلك من
أنباء الغيب، إلا أن طلب ابن زياد من الشهيد أن يصعد فوق القصر،
ويلعن الخ، يدل على أن المرحلة التي كان فيها الطاغية هي أجواء
اليوم التاسع من ذي الحجة بعد أن تفرق الناس عن مسلم.
ولئن
تشابه موقف الشهيدين عبدالله وقيس في اغتنام الفرصة لحث الناس على
اللحاق بسيد الشهداء عليه السلام إلا أن قصب السبق في ذلك للشهيد
عبدالله، ويبدو أن الشهيد قيساً استلهم هذه اللفتة منه.
أي سر في
هذه الحنايا الطاهرة، التي لم تعرف اشتباكاً بالدنيا يجعلها تثاقل
إلى الأنا الأرضية الموحلة، فإذا بها حيث لايرقى النسر المحلق
سمواً وهدفية؟
على مشارف
ضرب العنق أو الإلقاء بالجسد كله من طمار، لايشغل الشهيد عبدالله
إلا الحسين ونصرة الحسين وكلمة الحق فوق رأس السلطان الجائر، ولذلك
وافق أن يصعد أعلى القصر
واستشاط
الفرعون غضباً فأمر أن يلقى من طمار القصر.
وبودك أن
تعرف، هل كان الحكم بإلقائه من فوق القصر قد صدر مسبقاً إذا بدر
منه ما لايُحمد، أم أن الطاغية كان بحيث يسمعه، أم أن غلاماً أخبر
ابن زياد بما جرى، إذاً كيف تصرمت تلك الدقائق واللحظات ريثما نزل
الغلام وصعد، وهل بقي الشهيد عبدالله يخاطب الناس أو يحاول
مخاطبتهم؟
يفتت
القلب هُوي ذلك الجسد الطاهر، ولكن سرعان ما تخطف الدهشة انتباهك
وأنت تقرأ : " وبقى به رمق فأتاه رجل يقال له عبد الملك بن عمير
اللخمى فذبحه! فلما عيب ذلك عليه قال إنما أردت أن أريحه!!".
ويستبد
الذهول ويستحيل لوعة تضرى حين تعرف أن هذا الجلواز الوضيع يعرف
بأنه قاضي الكوفة!
ليس شريح
القاضي فرداً، بل هو ظاهرة لا تعرف من الزمان ولا المكان حدوداً،
حدودها مساوقة للنفس البشرية التي تقودها التدسية إلى أسفل سافلين،
حيث كان هذا اللخمي مخلداً إلى مستنقع التزلف والتملق، يردد مع كل
حزة شفرة مقالة ابن سعد حين أطلق السهم الأول باتجاه معسكر الإمام:
اشهدوا لي عند الأمير.
ولا يمكن
للعالم القاضي حصن الإسلام وملاذ الأمة في النوائب، أن يكون شريحاً
أو عبد الملك، وشفة على حذاء السلطان، إنه شريح المتستر ببرقع
العلم والقضاء، المتسلل تحت جنح الظلام إلى موقع حصن الإسلام.
وإنه عبد
الملك الذي يدعي العلم ويتقمص القضاء زوراً ، كما تقمصه غيره من قبل
ومن بعد.
ولكثرة
هذه النماذج دق التمييز بين الأصل والمدعى وشف.
وها هم
ملء غثيان الفؤاد ومرمى البصيرة، وحذار يا نفس أن تكوني منهم.
ولا يخفف
من استبداد الذهول أن تقرأ في نفس السياق:" حدثنا أبو بكر بن
عياش عمن أخبره قال والله ما هو عبد الملك بن عمير الذى قام إليه
فذبحه، ولكنه قام إليه رجل جعد طوال يشبه عبد الملك بن عمير".
فليس ذلك
إلا محاولة فاشلة بحديث مرفوع لايعرف مصدره للتستر على ما لا يمكن
التستر عليه، فعبد الملك من الوضاعة بحيث لا يمكن استبعاد إقدامه
على هذه الجريمة النكراء.
كما لا
يمكن لتكرار رواية ذبح هذا الجلواز المسمى قاضياً في سياق مقتل
الشهيد قيس بن مُسْهِر، أن يحمل على النفي الذي يطرحه بموضوعية
احتمال المبالغة، لأنا نجد المحقق النراقي على جلالة قدره في
التحقيق، يقول في عبد الملك هذا : " هو الذي روى حديث ما طلعت
الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين أفضل من أبي بكر، وكان مع
عسكر الشام في حرب الحسين ( عليه السلام ) وكلما وصل إلى واحد من
عسكر الحسين ( عليه السلام ) وقد رمي من فرسه إلى الأرض قطع رأسه
من بدنه، وهو الذي روى عن أسيد بن صفوان راوي الزيارة
المعروفة بزيارة الخضر لأمير المؤمنين أن أمير المؤمنين لما مات
أبوبكر زاره بتلك الزيارة، وهو أيضا قاتل عبدالله بن يقطر رضيع
الحسين عليه السلام ورسوله إلى ابن زياد بالكوفة فأمر به ابن زياد
فرمي من فوق القصر مكتوفاً، فوقع على الأرض وبه رمق فذبحه عبد
الملك، وروى عنه البخاري حديث كفر أبي طالب في آخر باب صفة أهل
الجنة والنار بواسطتين، ومع ذلك كله كان مشهوراً بسوء الولادة
أيضا".(51)
كما نجد
علم الهدى السيد المرتضى يشير إلى هذه الجريمة بقوله: " وهو ممن
تبع بني أمية، وممن تولى القضاء لهم، وكان شديد النصب والإنحراف عن
أهل البيت، وروي أنه كان يمر على أصحاب الحسين عليه السلام وهم
جرحى فيجهز عليهم، فلما عوتب على ذلك قال : انما أردت أن اريحهم
(52)
إذا كان
الإجهاز على الجرحى دأبه في كربلاء، فليس غريباً أن يكرر ذلك مرتين
في الكوفة.
ولكي نعرف
المزيد عن وضاعة هذا الجلواز الذي تظاهر بالرحمة والشفقة كما هو
دأب الجزارين من أدعياء حقوق الإنسان، ينبغي الوقوف على ما أورده
الشيخ المفيد حيث يقول:
"أما عبد
الملك بن عمير فمن أبناء الشام، وأجلاف محاربي أمير المؤمنين عليه
السلام، المشتهرين بالنصب والعداوة له ولعترته، ولم يزل يتقرب إلى
بني أمية بتوليد الأخبار الكاذبة في أبي بكر وعمر، والطعن في أمير
المؤمنين عليه السلام حتى قلدوه القضاء، وكان يقبل فيه الرشا،
ويحكم بالجور والعدوان، وكان متجاهراً بالفجور والعبث بالنساء، فمن
ذلك أن الوليد بن سريع خاصم أخته كلثم بنت سريع إليه في أموال
وعقار، وكانت كلثم من أحسن نساء وقتها وأجملهن فأعجبته، فوجه
القضاء على أخيها تقرباً إليها، وطمعاً فيها، فظهر ذلك عليه
واستفاض عنه ، فقال فيه هذيل الاشجعي:
أتـاه
ولـيد بالـشهود يقودهـم
على ما ادعى من صامت المال والـخول
يسوق إلـيه كـلـثماً وكلامـها شفــاءٌ من الـداء المخامـر والخبـل
فما برحت تومي إليه بطرفـهـا
وتـومض أحيـانا إذا خـصمها غـفـل
إلى قوله:
إذا ذات
دلّ كـلـمته بحاجـة
فـهمَّ بأن يقـضي تنحنـح أو سـعل
وبرَّق عـينيـه ولاك لـسانـه
يرى كـل شيء ما خلا سخطها خبل(53)
يضاف
إلى ذلك أن خبر فعلته الشوهاء هذه مستفيض في المصادر.(54)
هنيئاً لك
أيها الشهيد الجليل، يا لدة الحسين ، ومولى كل صادق ما عاهد الله
عليه، أن يشرك في دمك كفر يزيد وضراوة الذئب ابن زياد، وتلوُّن
الكوفيين، ووضاعة وعاظ السلاطين، الذين آتاهم الله آياته فانسلخوا
منها فمثلهم كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث.
***
وبلغ
الخبر بالطرق الإعتيادية سيد الشهداء،(55)
بعد
الشهيد الكربلائي الأول، أبي رزين، ها هي الكوكبة الكربلائية
الأولى مسلم وهانيء وعبدالله بن بقطر، تعلن دخول الفتح المبين إحدى
مراحله المتقدمة.
ويبدو أن
وصول خبر شهادة هذه الثلة إلى الإمام كان في وقتين متقاربين(56)
إلا أنه عليه صلوات الرحمن قد أبَّنهم جميعاً، قال الخوارزمي:
قام في الناس خطيباً، فقال:
"ألا
إن أهل الكوفة وثبوا على مسلم بن عقيل وهانيء بن عروة، فقتلوهما،
وقتلوا أخي من الرضاعة، فمن أحب منكم أن ينصرف، فلينصرف من غير
حرج، وليس عليه منا ذمام.
"فتفرق
الناس وأخذوا يميناً وشمالاً، حتى بقي في أصحابه الذين جاؤوا معه
من مكة.
و إنما
أراد أن لا يصحبه إنسان إلا على بصيرة".(57)
و قال
الشيخ المفيد:
" فأخرج إلى الناس كتابا(58) فقرأه
عليهم :
" بسم
الله الرحمن الرحيم أما بعد : فإنه قد أتانا خبر فظيع قتل مسلم بن
عقيل ، وهانئ بن عروة ، وعبدالله بن يقطر ، وقد خذلنا شيعتنا ، فمن
أحب منكم الانصراف فلينصرف غير حرج ، ليس عليه ذمام ".
فتفرق
الناس عنه وأخذوا يمينا وشمالاً ، حتى بقي في أصحابه الذين جاؤوا
معه من المدينة، ونفرٍ يسيرٍ ممن انضووا إليه. وإنما فعل ذلك لأنه
عليه السلام علم أن الأعراب الذين اتبعوه إنما اتبعوه وهم يظنون
أنه يأتي بلداً قد استقامت له طاعة أهله، فكره أن يسيروا معه إلا
وهم يعلمون على ما يقدمون".(59)
ولا يمكن
إلا أن يستوقف العقل والقلب معاً تعبير الإمام: "أخي من الرضاعة"
عسى أن ينعما برشة من خزين الحنان الحسيني الغامر، وينفذا بسلطان
إلى مشارف خلجة قلب أبي عبدالله في تلك اللحظة، وصورة الشهداء
ماثلة أمامه: هذان يهويان من طمار، وذاك تضرب منه العنق الأبية في
سوق الجزارين، فتغرورق العينان بالدموع!
عندها سيدرك العقل ويفقه القلب بعض دلالات التعبير الآخر للإمام
"خبر فظيع"!
ولعل أشد
مظاهر الفظاعة، أصوات تكسر عظام هذا الشهيد الجليل عبدالله بن
بقطر، وهو مشدود الوثاق، ثم ذبحه على تلك الحال بيد "قاضي الكوفة"!
الفهارس
(1) الطبري4/276.
(2) الشيخ المفيد، الإرشاد2/ 52. والفتال النيسابوري،
روضة الواعظين174. والمجلسي، البحار44/348.
(3) جاء في معجم البلدان2/378: خُطَرِنية: بالضم ثم
الفتح، وبعد الراء الساكنة نون مكسورة، وياء، آخر الحروف مخففة،
ناحية من نواحي بابل العراق. وفيه في ج1/516: " بهقباذ: بالكسر ثم
السكون، وضم القاف، وباء موحدة، وألف، وذال معجمة: اسم لثلاث
كور ببغداد من أعمال سقي الفرات، منسوبة إلى قباذ بن فيروز والد
أنوشروان بن قباذ العادل، منها : بهقباذ الأعلى سقيه من الفرات،
وهو ستة طساسيج : طسوج خطرنية، وطسوج النهرين، وطسوج عين التمر،
والفلوجتان العليا والسفلى، وطسوج بابل.". وفي الأخبار الطوال
للدينوري65: " كتب (قباذ،أحد ملوك الفرس،إلى سابور) وكان عامله على
بابل وخطرنية ". والطسوج هنا بمعنى الناحية.
(4) الطبري4/441-442. بتصرف يسير اقتضاه التصحيف. وقد نقل السيد
المقرم في مقتل الحسين157-158 عن البلاذري في أنساب الأشراف5/215
مايلتقي مع ما ذكره الطبري باختلاف في تحديد وقت دخول المختار
الكوفة بأنه بعد مقتل مسلم وهانيء، وهو بعيد.
(5) ينبغي ملاحظة أن خبر خروج مسلم لم يصل ظهراً كما ورد في النص،
بدليل أن الخروج كان بعد الظهر وهو إلى وقت العصر أقرب، ثم ملاحظة
أن المختار لم يصل بعد المغرب، بدليل أن عمرو بن حريث أصبح أمير
الناس من قبل ابن زياد بعد صلاة " العتمة" وعليه فيكون وصول
المختار بعد ذلك، وإذا لاحظنا الوقت مابين العصر وأوائل ما بعد
العتمة، فهو يعادل ما بين الظهر والمغرب، وهو الوقت الذي استغرقه
وصول الخبر للمختار ثم وصوله الكوفة.
(6) الطبري4/286.
(7) يمكن أن تقرأ" مرتجاً" بفتح الجيم بلا تشديد من رتج بمعنى سد،
وبفتح الجيم بتشديد من ارتج بتشديد الجيم، يقال: رأي مرتجّ
بالتشديد: مضطرب، والأول أقرب وأفصح. أنظر: العين للخليل، وإصلاح
المنطق لابن السكيت ، والصحاح للجوهري.
(8) الطبري4/506.
(9) الطبري4/ 442. مصححاً على مانقله عنه ابن عساكر، تاريخ
دمشق18/297.
(10) أورد المحدث القمي في نفس المهموم أن "مذحج" قبيلة هانيء بن
عروة قد قاتلت لإنتزاع جثته و جثة الشهيد مسلم من أيدي جلاوزة إبن
زياد، و فد نقل ذلك عن الطريحي في المنتخب/المجلس التاسع من الجزء
الثاني.
(11) الشيخ المفيد، الإرشاد1/324 في سجن ميثم والمختار وعبيد الله
بن الحارث، وانظر:المقرم، مقتل الحسين 157
(12) المقرم، مقتل الحسين 157
(13) القرشي، حياة الإمام الحسين 2/416نقلاً عن الدر المسلوك في
أحوال الأنبياء والأولياء1/109(مخطوطة مكتبة السيد الحكيم).
(14) نفس المصدر نقلاً عن: المختار: مرآة العصر الأموي
(15) جمع "امَّعة" و هو مما ورد في الحديث الشريف الذي يقول أسير
مع الناس، و حيث يسيرون. وقد تقدم شرحه.
(16) الطبري/4/295
(17) المقرم- مقتل الحسين/199نقلا عن الإكليل للهمداني ج10/87 و
101.
(18) انظر: الشيخ المفيد، الإرشاد2/70 و75والشيخ
الطوسي،رجاله103والشيخ ابن نما،مثير الأحزان، والسيد ابن طاوس،
اللهوف. والإقبال 346 والفتال النيسابوري، روضة الواعظين177و178
والقاضي النعمان،شرح الأخبار3/245والقطب الراوندي، الخرائج
والجرائح 2/550 وابن شهراشوب، مناقب آل أبي طالب3/343والبياضي، علي
بن يونس العاملي، الصراط المستقيم 3/145ومحمد طاهر القمي الشيرازي،
كتاب الأربعين275والسيد بحر العلوم، الفوائد الرجالية 4/31و32
والسيد الخوئي، معجم رجال الحديث11/408 وغيرها
(19) العلامة الحلي، خلاصة الأقوال ص 19
(20) المحقق النراقي، عوائد الأيام ص 29
(21) انظر: الطبري ج4/300و359 وابن حجر الإصابة 5/8 وابن حبان،
الثقاة 2/310 وابن كثير، البداية والنهاية 8/182و206 . وجاء في هامش
الإرشاد 2/70" وكذا ضبطه علماؤنا الا أن ابن داود ذكر قولاً بالباء
– بقطر"
(22) في تاج العروس للزبيدي ج ص 6 : (البقطرية بالضم ) أهمله
الجوهرى وقال الفراء البقطرية ( الثياب البيض الواسعة ) كالقبطرية،
وبقطركعصفر رجل.
(23) الراوندي،الخرائج والجرائح 2/550 .
(24) انظر جميع المصادر التي تقدم أن اسم الشهيد فيها ورد بالياء
بنقطتين.
(25) الشيخ محمد مهدي شمس الدين، أنصار الحسين/123قال:" عبدالله بن
بقطر : ( حميري من عرب الجنوب ) كانت أمه حاضنة للحسين، ذكره ابن
حجر في الإصابة، قال إنه كان صحابياً لانه لدة الحسين". اه ومحققاالفوائد الرجالية للسيد بحر العلوم4/32 قالا:"و ما جاء في كلام
الطبري وبعض المؤرخين: من أن عبدالله بن يقطر رضيع الحسين - عليه
السلام - ليس له صحبة ، بل كانت أم عبدالله بن يقطر حاضنة للحسين -
عليه السلام - وكان لدة الحسين - عليه السلام - كما ذكره ابن حجر
في الاصابة واللدة بكسر - اللام - الذي ولد مع آخر في زمن واحد.
(26) إبن حجر، الإصابة 5/8.
(27) انظر:الخوارزمي، مقتل الحسين(م.م) ص328.
(28) إبن أعثم، الفتوح5/45والخوارزمي، مقتل الحسين293-294و ابن
شهراشوب، مناقب آل أبي طالب3/243 واللفظ للخوارزمي، وقد ورد في
فتوح ابن أعثم" نيف وعشرون ألفاً، بينما لم يذكر ابن شهراشوب عدداً
بل قال " بايعك كذا" مع اختلاف يسير في موارد أخرى.
(29) المصدر/232
(30)انظر المصادر المذكورة في الهوامش المتقدمة، و قد ذكر السيد
الخوئي ما ورد في المناقب فقال:" كما ذكر قصة قتله غير واحد من
الأعلام، إلا أن ابن شهراشوب ذكر أنه كان رسول مسلم إلى الحسين
عليه السلام، وأن مالك بن يربوع التميمي أخذ الكتاب منه وجاء به
إلى عبيدالله بن زياد فقرأ الكتاب وأمر بقتل عبدالله بن يقطر".
معجم رجال الحديث ج11/408
(31) غير الثالثة التي يأتي الحديث عنها.
(32) الشيخ المفيد، الإرشاد 2/70.و انظر:إبن كثير،البداية والنهاية
8/181 فإنه بعد أن تحدث عن الشهيد قيس قال:" وفي رواية أن الذي قدم
بكتاب الحسين إنما هو عبدالله بن بقطر أخو الحسين من الرضاعة ،
فألقي من أعلى القصر . والله أعلم "
(33) الطبري4/297
(34) الطبري4/300.
(35) أبو مخنف، مقتل الحسين/72والشيخ ابن نما، مثير الأحزان/30
(36) تذكر بعض المصادر أن الذي حمل الرسالةهوالشهيد
عابس(الطبري4/281)و في مثير الأحزان للشيخ ابن نما أن الشهيدين
قيساً وعابساً حملا الرسالة، ويبدو أن الأرجح هو أن الشهيد قيساً
كان وحده في هذه المهمة ويأتي في ترجمته مزيد توضيح .
(37) المجلسي، بحار الأنوار44/370.، نقلاً عن الإرشاد،
انظر:2/70.والطبري 4/297وأبو مخنف، مقتل الحسين/72
وابن كثير،البداية والنهاية 8/181. و قدورد فيهما نص الكتاب
كمايلي: " أما بعد فإن الرائد لا يكذب أهله، وإن جميع أهل الكوفة
معك ، فأقبل حين تقرأ كتابي هذا والسلام عليكم".
(38) ولا ينافي ذلك قول أبي مخنف:" سرحه إلى مسلم بن عقيل من
الطريق" وإن كان الأقرب أنه عليه السلام قد أرسله قبل أن يخرج من
مكة.
(39) الدينوري، الأخبار الطوال/230.و قد أورد الرسالة كما يلي:" (
بسم الله الرحمن الرحيم ، من الحسين بن علي إلى إخوانه من المؤمنين
بالكوفة ) ، سلام عليكم ، أما بعد ، فإن كتاب مسلم بن عقيل ورد علي
باجتماعكم لي، وتشوفكم إلى قدومي، وما أنتم عليه منطوون من نصرنا، والطلب بحقنا، فأحسن الله لنا ولكم الصنيع، وأثابكم على ذلك
بأفضل الذخر، وكتابي إليكم من بطن الرمة، وأنا قادم عليكم،
وحثيث السير إليكم، والسلام ) .
و هي برواية الشيخ المفيد،الإرشاد2/70" بسم الله الرحمن الرحيم من
الحسين بن علي إلى إخوانه من المؤمنين والمسلمين، سلام عليكم،
فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو . أما بعد: فإن كتاب
مسلم بن عقيل جاءني يخبر فيه بحسن رأيكم واجتماع ملئكم على نصرنا
والطلب بحقنا، فسألت الله أن يحسن لنا الصنيع، وأن يثيبكم على
ذلك أعظم الأجر، وقد شخصت إليكم من مكة يوم الثلاثاء لثمان مضين
من ذي الحجة يوم التروية، فإذا قدم عليكم رسولي فانكمشوا في أمركم
وجدوا، فإني قادم عليكم في أيامي هذه، والسلام عليكم ورحمة
الله".وهي نفس رواية أبي مخنف:" بسم الله الرحمن الرحيم ، من
الحسين بن علي إلى إخوانه من المؤمنين والمسلمين، سلام عليكم فإني
أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد فإن كتاب مسلم بن
عقيل جاءني يخبرني فيه بحسن رأيكم واجتماع ملئكم على نصرنا،
والطلب بحقنا، فنسأل الله أن يحسن لنا الصنيع، وأن يثيبكم على
ذلك أعظم الأجر، وقد شخصت إليكم من مكة يوم الثلاثاء لثمان مضين
من ذي الحجة يوم التروية، فإذا قدم عليكم رسولي فاكتموا أمركم
وجدوا فإني قادم عليكم في أيامي هذه إن شاء الله تعالى، والسلام
عليكم" ابن كثير، البداية والنهاية8/181، و انظر: إبن نما، مثير
الأحزان/30 وتجدر الإشارة إلى أن ثمة نصاً ثالثاً للرسالة التي قيل
إن الشهيد قيساً حملها من كربلاء! إلى أشخاص أورد النص أسماءهم،
إلا أنه قول بعيد جداً، فقد كان زضول الحر إلى الإمام بداية تسليط
الضوء على كل من التحق بسيد الشهداء بعد وضول الحر، أو من خرج من
أصحابه عليه السلام، إلى أي مكان، ولو أن الإمام بعث فعلاً رسولاً
من كربلاء لتحدثت المصادر عن ذلك باستفاضة، في حين أنا لانجد من
هذا عيناً ولا أثراً، والله العالم. انظر:اللهوف46 ويأتي مزيد
إيضاح في ترجمة الشهيد قيس بحوله تعالى.
(40) الطبري 4/30
(41) ابن عساكر، ترجمة الإمام الحسين327. ويبدو أن في هذا التحديد
اشتباهاً ناشئاً من زواج ابن زياد بابنة عمارة بن عقبة، حيث إن ابن
عساكر قال قبل ماذكر في المتن، مباشرة: " وبنى عبيد الله بن زياد تلك
الليلة بأهله أم نافع بنت عمارة بن عقبة بن أبي معيط".اه . ويصرح
الطبري عند الحديث عن دخول ابن زياد الكوفة، بأنه تزوج بها تلك
الليلة، و عند الحديث عن المجيء بهانيء إلى القصر أنه كان قد بنى
بها وهو واضح الدلالة على أن ذلك كان ليلة اليوم الذي استدرج فيه
هانيء إلى القصر، كما مر.
(42) إبن شهراشوب، المناقب3/243.
(43) إبن أعثم، الفتوح5/45 والخوارزمي، مقتل الحسين293-294.
(44) الطبري، 4/300
(45) المصدر4/286والمسعودي ، مروج الذهب 3/60
(46) الطبري 4/300، والشيخ المفيد، الإرشاد 2/7
(47) الشيخ المفيد، الإرشاد2/75. وهو مستفيض في المصادر كما يأتي.
(48) الطبري 4/297
(49) الخوارزمي، مقتل الحسين294.
(50) الطبري4/300.
(51) المحقق النراقي(أحمد بن محمد مهدي، تو في1245) مستند الشيعة
19/23.
(52) محمدطاهر القمي الشيرازي(1098هج) كتاب الأربعين 275.
(53) الشيخ المفيد، الإفصاح 219-221و في هامشه حول الشاعرهذيل
الأشجعي نقلاً عن جمهرة أنساب العرب 249والأعلام للزركلي9/72"شاعر
كو في معروف، له هجاء في ثلاثة من قضاة الكوفة: عبد الملك بن عمير،
الشعبي، إبن أبي ليلى ".
(54) بالإضافة إلى ما تقدم عن الطبري وغيره، قال أبو القاسم الكوفي
في الإستغاثة ج2/33:" رواه عبد الملك بن عمير اللخمي وكان فاسقاً
جريئاً على الله، وهو الذي قتل عبدالله بن يقطر رسول الحسين بن علي
عليه السلام الى مسلم بن عقيل حين رمى به ابن زياد من فوق القصر
وبه رمق فأجهز عليه، فلما عوتب على ذلك قال: إنما أردت أن أريحه،
استهزاء بالقتل، وقلة مبالاة، وكان يتولى القضاء لبني أمية وكان
مروانياً شديد النصب والانحراف عن أهل البيت عليهم السلام، ومن هذه
صورته لا تقبل روايته"و قال الشيخ الطوسي في تلخيص الشافي 3 : 33 :
كان فاسقاً جريئاً على الله ، وهو الذي قتل عبدالله بن يقطر رسول
الحسين بن علي إلى مسلم بن عقيل.وكان مروانياً "نقلاً عن هامش
الإفصاح/219.و انظر:الفتال النيسابوري، روضةالواعظين/177،والقاضي
النعمان المغربي، شرح الأخبار3/245والقطب الراوندي، الخرائج والجرائح
2/550، والبياضي العاملي، الصراط المستقيم 3/145و فيه: " ورواية عبد
الملك اللخمي مطعون فيها بأنه كان فاسقاً جريئاً على الله بالقتل،
وهو قاتل عبدالله بن يقطر، وهو رسول الحسين إلى مسلم بعد رمي ابن
زياد له، وكان مروانيا ًيتولى القضاء لبني أمية، شديد النصب
والإنحراف عن أهل بيت النبوة ".
(55) تكاد المصادر تجمع أن ذلك كان في منطقة"زبالة" انظر:الطبري
4/300والشيخ المفيد، الإرشاد 2/75والسيد بحر العلوم، الفوائد
الرجالية 4/31و هي منطقة تفصل بينها وبين الحاجرمن منطقة بطن
الرمة- باتجاه الكوفة – منازل الخزيمية وزرود والثعلبية والشقوق.
انظر: المقرم، السيد عبد الرزاق، مقتل الحسين أو حديث
كربلاء175-180(ط خامسة، دار الكتاب الإسلامي – بيروت).و قال الحموي
في معجم البلدان ج3/129:" زبالة : بضم أوله : منزل معروف بطريق مكة
من الكوفة ، وهى قرية عامرة بها أسواق بين واقصة والثعلبية ، وقال
أبو عبيد السكوني : زبالة بعد القاع من الكوفة وقبل الشقوق ، فيها
حصن وجامع لبنى غاضرة من بنى أسد .
(56) فقد جاءه عليه السلام في منطقة "الثعلبية"و هي بين
زرود والشقوق"من أخبره بشهادة مسلم وهانيء ثم جاءه في "زبالة"(التي
تلي الشقوق في طريق الذاهب إلى الكوفة) من أخبره بشهادة
عبدالله.انظر:الطبري 4/299 والشيخ المفيد،الإرشاد73-76والخوارزمي
327-328و في الأخبار الطوال للدينوري 247-248أن خبر شهادة مسلم
وهانيء بلغ الإمام عندما"رحل من زرود" وفي "زبالة بلغه خبر شهادة
قيس، و هو بعيد.ولم يذكر السيد ابن طاوس خبر الشهيد عبدالله لكنه
ذكر أن خبر شهادة مسلم بلغ الإمام في منزل "زبالة". اللهوف 45..و
في هذا السياق ورد قوله "فاستعبر باكياً" أي الإمام عليه السلام، إلا
أن في البحار44/374 نسبة هذا إليه عليه السلام بعد علمه بمقتل
الشهيد عبدالله، ومثله في الفوائد الرجالية للسيد بحر العلوم
4/42، ولعل في النسخة التي اعتمدتها سقطاً.
(57) الخوارزمي،مقتل الحسين(م.م) ص328-329.
(58) من الواضح أن ماقاله عليه السلام ليس مضمون كتاب، ولذلك قدمت
ماأورده الخوارزمي"قام في الناس خطيباً"إلا أن الدينوري في الأخبار
الطوال 247ينقل أن رسول ابن الأشعث إلى الإمام بطلب من الشهيد
مسلم، قد وصل إلى الإمام في"زبالة" فلعل الكتاب كان في يد الإمام
حين قام خطيباً ، وجاء وصف ذلك ملتبساً كماترى.
(59) الإرشاد2/75-76.و ما ورد في هذين المصدرين يرجع عمدة إلى
ما أورده الطبري عن أبي مخنف. انظر:الطبري 4/300. |