* كيف اعتقـــل ؟
تكرر في النصوص المتقدمة أن الشهيد قد أعطي الأمان،
وإذا ثبت ذلك فلا يبقى مجال للسؤال عن كيفية اعتقاله، إلا أن مسألة
قبوله الأمان لا يمكن الجزم بها، وإن كانت أرجح، بتوضيح يأتي.
قال
ابن قتيبة:
" وأرسل جماعة إلى مسلم بن عقيل، فخرج عليهم بسيفه، فما زال
يقاتلهم حتى أخرج وأسر".(1)
وقال
الخوارزمي:
" وطعن من خلفه، فسقط إلى الأرض، فأخذ أسيراً، ثم أُخذ فرسه
وسلاحه، وتقدم رجل من بني سليم يقال له عبيد الله بن العباس، فأخذ
عمامته.."(2)
وقال
ابن شهراشوب:
" وطعن من خلفه فسقط من فرسه فأسر ".(3)
وقال السيد ابن طاوس:
" وتكاثروا عليه بعد أن أثخن بالجراح فطعنه رجل من خلفه فخر إلى
الأرض فأخذ أسيراً ".(4)
وقد ذُكر
- ولا مؤيد له
- أن القوم لم يتمكنوا من اعتقال الشهيد إلا بعد أن
حفروا له حفيرة وستروها بالتراب، وانكشفوا أمامه فسقط فيها، فضرب
وأسر.(5)
وينبغي
التأمل في ما اشتهر في ذم محمد بن الأشعث لأنه "سلب" سيف الشهيد
ودرعه، فإن السلب لا يصدق بدون مسامحة إلا في حالة عدم التمكين من
النفس، وإن كان صريح بعض من أورد ذلك، أنه حصل بعد إعطاء الأمان
وقبوله.
قال المسعودي:
" تقدم إليه محمد بن الأشعث ".." وأعطاه الأمان، فأمكنهم من نفسه
".." وأتوا به ابن زياد وقد سلبه ابن الأشعث حين أعطاه الأمان سيفه
وسلاحه، وفي ذلك يقول بعض الشعراء في كلمة يهجو فيها ابن الأشعث:
".." وقتلت وافد آل بيت محمد
وسلبت أسيافاً له ودروعا ".(6)
ورغم
إمكانية رد بعض ما تقدم من مختلف النصوص، إلا أن مجموع الموارد
وبلحاظ من أوردها واحتمال أن يكون قد اطلع على ما لم يصل إلينا،
يمنع من الجزم بخلافه.
* هل اُعطيَ الأمـــان ؟
في الجواب على هذا السؤال نجد الحديث عن إعطاء الشهيد
مسلم الأمان من قبل ابن الأشعث دون علم ابن زياد بذلك، كما نجد أن
ابن زياد بعث إلى ابن الأشعث "أعطه الأمان فإنك لا تقدر عليه
إلا به ".(7)
ثم نجد ابن زياد يقول لابن الأشعث عندما أخبره أنه قد أعطاه
الأمان: "ما أنت وذاك كأنما بعثناك لتؤمِّنه".
فهل رضي
ابن زياد بإعطائه الأمان كمجرد خدعة للإيقاع به؟
أم أن ابن
الأشعث أعطى الأمان دون استشارة ابن زياد؟
ويبعد أن
يقوى صاحب الشخصية المهزوزة الضحلة كابن الأشعث على التفرد في أمر
من هذا النوع، خصوصاً وأن مثل مسألة الأمان يقتضي أن يكون قد طرح
للتداول قبل التوجه لتنفيذ المهمة.
والراجح
أن ابن الأشعث الذي كان من الذين يسهل عليهم جداً أن يقولوا ما لا
يفعلون، أعطى الشهيد الأمان عملاً برغبة ابن زياد لينهي المواجهة،
ولم يكن يضيره أبداً أن لا يجيز ابن زياد أمانه، فهو القائل بعد
ضرب ابن زياد لهانيء: " قد رضينا بما رآه الأمير، لنا كان أو
علينا، إنما الأمير مؤدب".(8)
ولا ينافي
ذلك أن ابن الأشعث - كما مر- قد تظاهر بالتدخل مع ابن زياد لصالح
الشهيد ولم يستجب له ابن زياد، فلكلٍ دوره الذي تقتضيه مصلحة
الشيطان والشخص والنظام.
وبناءً
على ما تقدم فإن الثابت الوحيد في مسألة الإعتقال والأمان، أن
الشهيد مسلماً لم يقبل ما عرضوا عليه من أمان، عندما كان قادراً
على القتال، الأمر الذي يجعلنا أمام التسلسل التالي في سياق
المواجهة :
1) هجومهم على الشهيد مسلم في دار طوعة.
2) صد الهجوم، وقد تكرر ذلك مرتين.
3) فلما رأوا ذلك أشرفوا عليه من فوق البيت
.
4) لما رأى كثرتهم قرر أن يواجههم في الشارع.
5) تكرر منهم إعطاؤه الأمان، وتكرر رفضه له.
6) بعد أن أثخن بالجراح، وأعياه نزف الدم، وكاد يعجز عن القتال
عرضوا عليه الأمان فقبله.
وينبغي
الإلفات إلى أن ما تقدم مبني على استبعاد الروايات الأخرى حول أنه
طعن من خلفه فسقط إلى الأرض وأسر، وإن لم يمكن الجزم بعدم صحتها،
فقد أوردها عدد من الأعلام الذين لا يمكن رفض ما يوردونه مع عدم
قطعية الدليل على خلافهم، وإن أمكن استبعاده وترجيح غيره عليه.
*في الطريق إلى القصـر
تجدر الإشارة إلى أن الوقائع التي سيأتي الآن أنها جرت
بين الشهيد ومن كان معه خلال أسره، إنما هي بحسب المصادر التي تبنت
قبول الشهيد الأمان، وقد عرفت أنه الأرجح.
كان
الشهيد مسلم رغم أنه يفكر بنفسه جيداً يحمل هماً هو عنده أكبر من
ذلك بكثير، مما جعله يبادر فور اعتقاله إلى الحديث مع ابن الأشعث،
علَّه يرسل إلى الإمام من يخبره بما جرى، وكيف خذله أهل الكوفة.
يدلنا على
ذلك بوضوح مادار بينه وبين عبدالله السلمي، وابن الأشعث، وهو كما
يلي:
1- بكاؤه
للحسين وآل الحسين:
"واجتمعوا حوله وانتزعوا سيفه، فكأنه عند ذلك أيس من نفسه ودمعت
عيناه، ثم قال : هذا أول الغدر، قال له محمد بن الأشعث: أرجو ألا
يكون عليك بأس، فقال : وما هو إلا الرجاء! أين أمانكم ؟ إنا لله
وإنا إليه راجعون! وبكى. فقال له عبيدالله بن العباس السلمي: إن
من يطلب مثل الذي تطلب، إذا نزل به مثل الذي نزل بك لم يبك. قال :
إني والله ما لنفسي بكيت، ولا لها من القتل أرثي، وإن كنت لم أحب
لها طرفة عين تلفاً، ولكن أبكي لأهلي المقبلين إلي، أبكي للحسين
(عليه السلام) وآل الحسين.(9)
و ينضح
هذا النص انسجاماً مع شخصية مسلم رضوان الله تعالى عليه.
إنه رغم
كل ما حل به، ما يزال طوداً شامخاً، قمة في التوازن والتماسك،
والصلابة، ودقة الملاحظة واليقظة، فقد التقط- رغم أنه خارج للتو من
معركة طاحنة- دلالة قول ابن الأشعث" أرجو.." فقال له: ماهو إلا
الرجاء!
ثم إن من
يواجه مثل ظرفه قد يتجلد، دون أن يكون في قلبه للجلد أدنى أثر،
فيتكلف ذلك خوف الشماتة، أما مسلم بن عقيل بن أبي طالب فله شأن
آخر، فهو لا يخفي حزنه لما حل به، فلم يرد لنفسه طرفة عين تلفاً
وها هو رهن الأسر، إلا أن ما يقلقه هو شأن آخر تهون معه النفس التي
أرادها وقاء للحسين وما يجسده من رسول الله صلى الله عليه وآله.
من هنا
كان بكاؤه، فهو بكاء القوي، الذي تفيض دموعه من خزين الحب، شوقاً
إلى المحبوب، أو خوفاً عليه، أو حرصاً على رضاه، وفرقاً من إغضابه.
وقد
اجتمعت كل هذه الخصال في دموع " الرائد " القائد الشهيد مسلم بن
عقيل.
نزل بمسلم
من غدر الكوفيين ما لو نزل بالجبال لهدّها، ومع ذلك، فهو لا يعطي
الأولوية للتفكير بنفسه رغم أنه يفكر بها، وإنما يعطي ذلك لما هو
أعز من نفسه، ويصرف كل همه إلى التفكيربالحسين، وآل الحسين!
ليس بكاؤه
إذاً إلا بكاء الفارس المغوار الذي حرمه أهل الكوفة من نصرة سيد
الشهداء، والتمهيد لقدومه، وها هو يخشي عليه نتائج غدرهم.
وعصيٌّ
على من تحجر منه القلب أو تصخر، أن يدرك حقيقة هذا البكاء، فالسكوت
أولى.
2-
مَنْ مُبلِغٌ عني الحسين؟
"ثم أقبل على محمد بن الأشعث فقال: يا عبد الله إني أراك والله
ستعجز عن أماني، فهل عندك خير؟ تستطيع أن تبعث من عندك رجلاً على
لساني أن يبلغ حسيناً؟ فإني لا أراه إلا قد خرج إليكم اليوم مقبلاً
أو هو خارج غداً وأهل بيته{ وإن ما ترى من جزعي لذلك} ويقول له: إن
ابن عقيل بعثني إليك وهو أسير في أيدي القوم، لا يرى أنه يمسي حتى
يقتل، وهو يقول: إرجع فداك أبي وأمي بأهل بيتك، ولا يغرك أهل
الكوفة، فإنهم أصحاب أبيك الذي كان يتمنى فراقهم بالموت أو القتل،
إن أهل الكوفة قد كذبوك { وكذبوني} وليس لمكذوب رأي.
فقال
ابن الأشعث: والله لأفعلن، ولأعلمن ابن زياد أني قد آمنتك.(10)
وسواء
أوصلت هذه الرسالة بالطرق العادية إلى سيد الشهداء - كما يأتي- أم
لم تصل فهي إحدى الوثائق الأساسية في تدوين أحداث الكوفة.
إنها تؤكد
مجدداً حقيقة مسلمة هي أن أهل البيت عليهم السلام كانوا يتجرعون
غصة ما عاناه أمير المؤمنين عليه السلام من أهل الكوفة، إلى الحد
الذي لا يحق لأحد في ذلك العصر أو في أي عصر أن يشك للحظة في أن
غدر الكوفيين الذي " وشجت عليه العروق" كان حاضراً دائماً
في كل مراحل التخطيط لما جرى في الكوفة، ولذلك لم يكن الهدف أكثر
مما تقدم من " الإفادة من الممكن" و "إتمام الحجة".(11)
كما أن
هذه الوثيقة تضيء على السبب الذي جعل الشهيد مسلماً يكتب من المضيق
ببطن الخبت يستعفي الإمام من التوجه إلى الكوفة إن رأى.
وقد حرص
الشهيد مسلم رضوان الله تعالى عليه على أمرين :
الأول : أن يسجل في هذه الوثيقة رأيه في أهل الكوفة، مضيفاً
عميق لوعته منهم إلى لوعة عمه أمير المؤمنين عليه السلام." ولا
يغرنك أهل الكوفة، فإنهم أصحاب أبيك الذي كان يتمنى فراقهم بالموت
أو القتل".
الثاني : أن يسجل اعتذاره من سيد الشهداء عليه السلام، على
ما كان قد كتب به إليه وإنما كتبه اعتماداً على ما رآه، ولم يكن
يخطر بباله أن أهل الكوفة - مهما تخاذلوا - سيصل بهم الأمر إلى هذا
الحد.
لذلك أراد
أن يوصل إلى الإمام : "إن أهل الكوفة قد كذبوني ، فكتبت إليك وليس
لمكذوب رأي".
ولك أن
تقدر عظيم بحار الأسى التي تلاطمت أمواجها في قلب هذا الشهيد
الجليل والتي لأجلها بكى.
بكتك دماً
يا ابن عم الحسين مدامع شيعتك السافحة.
* التعاطـف المزعـوم
هل أرسل ابن الأشعث من يبلغ الإمام الحسين رسالة الشهيد
مسلم؟
والجواب
بالإيجاب، ولكن هل كان ذلك دون علم ابن زياد؟!
ما يطمأن
إليه أن ابن الأشعث لم يكن ليقدم على إرسال رسول إلى الإمام الحسين
عليه السلام ، دون إخبار ابن زياد ، لأنه لم يكن له من مؤهلات
الإستقلال بالرأي أو الثبات عليه، ما يجعله يقدم على تواصل مع العدو
الأول للنظام الذي باع ابن الأشعث كل وجوده لخدمته، وقد تقدم أن
ابن زياد لم يكن يقيم له وزناً.
و في جواب
ابن الأشعث على طلب الشهيد ما يشي بأنه قرر في تلك اللحظة أن
يستشير ابن زياد في إرسال شخص من قبله إلى الإمام، فقد قال للشهيد:
" والله لأفعلن، ولأعلمن ابن زياد أني قد آمنتك". فإن ذلك
يشير إلى أنه قد جال في خاطره أن يعلم ابن زياد أيضا بغير ما قاله.
ولقد
اقتضت مصلحة النظام إبلاغ الإمام هذه الرسالة لعله لا يواصل السير
إلى العراق لأن شعار ابن زياد كان - كما يأتي في محاكمة الشهيد
مسلم- " وأما حسين فإنه إن لم يردنا لم نرده وإن أرادنا لم نكف
عنه ".
(12)
وعلى هذا
الأساس " دعا محمد بن الأشعث إياس بن العثل الطائى من بني مالك
بن عمرو بن ثمامة، وكان شاعراً، وكان لمحمد زَوَّاراً فقال له: إلق
حسيناً فأبلغه هذا الكتاب وكتب فيه الذى أمره ابن عقيل، وقال له: هذا
زادك وجهازك ومتعة لعيالك. فقال من أين لي براحلة، فان راحلتي قد
أنضيتها. قال هذه راحلة فاركبها برحلها، ثم خرج فاستقبله ب"زبالة"
لأربع ليالٍ فأخبره الخبر وبلغه الرسالة فقال له حسين: كل ما حُمّ
نازل وعند الله نحتسب أنفسنا وفساد أمتنا ".(13)
ومما يؤكد
عدم إيجابية موقف محمد بن الأشعث تجاه الشهيد مسلم جواب الإمام
الحسين عليه السلام لقيس بن الأشعث، في كربلاء عندما بدا من كلامه
مع سيد الشهداء أنه يريد أن يمنّـيه بالأمان فقال له الإمام عليه
السلام : "أنت أخو أخيك ، أتريد أن يطلبك بنو هاشم بأكثر من دم
مسلم بن عقيل"(14)
فلو كان هناك تعاطف من محمد بن الأشعث مع مسلم ولو بمقدار قليل
كإرساله الرسول مثلاً بطريقة لاترضي ابن زياد، لكان أمراً يسجل له،
ولما تكلم عنه الإمام الحسين عليه السلام، بهذه اللهجة الصريحة في
إدانته.
* "
الوجهاء " جلوس بالباب !
قبل الحديث عما جرى بين مسلم رضوان الله تعالى عليه ، وابن
زياد في قصر الإمارة ، تجدر الوقفة عند جلوس وجهاء الكوفة بباب قصر
الإمارة ينتظرون الإذن.
قال الشيخ
المفيد والطبري:
" وانتهى ابن عقيل إلى باب القصر وهو عطشان وعلى باب القصر ناس
جلوس ينتظرون الإذن منهم عمارة بن عقبة بن أبى معيط وعمرو بن حريث
ومسلم بن عمرو وكثير بن شهاب ".(15)
والتعبير
واضح الدلالة في أن هؤلاء الجالسين بالباب كانوا أكثر مما ذكر، فهو
يقول "منهم" وبعبارة الشيخ المفيد "فيهم" عمارة بن عقبة الخ ،
وسيأتي ما يدل على أن عمر بن سعد كان بينهم.
ولقد كان
ابن زياد في الليلة السابقة بأمسّ الحاجة لواحد من هؤلاء الوجهاء
ليُخذَّل به الناس عن مسلم وينقذ نفسه بالتالي من الفرار إلى الشام
أو القتل، وهم الآن جلوس بالباب ينتظرون الإذن! عمرو بن حريث في
الليلة السابقة عُين أميراً على الناس، وهو اليوم ينتظر الإذن على
ابن زياد، كثير بن شهاب الذي انتفخت أوداجه بالأمس مثبطاً الناس،
طامحاً بملء بصره إلى زعامة مذحج، ها هو الآن، بالباب ينتظر.
وفي ما هم
متسكعون بباب القصر، انظر كيف كان تعاملهم مع مسلم المعتقل،
والجريح المدمى.
نظر مسلم
"وإذا قُلة باردة { جَرَّةٌ فيها ماء} موضوعة على الباب،
فقال مسلم : أسقوني من هذا الماء، فقال له مسلم بن عمرو: أتراها ؟
ما أبردها! لا والله لا تذوق منها قطرة أبدا حتى تذوق الحميم في
نار جهنم .(16)
ومسلم بن
عمرو هذا هو الذي حمل كتاب "سرجون" من يزيد بتولية ابن زياد على
الكوفة أيضا، وهو بعد والد قتيبة بن مسلم، وجدّ "ابن قتيبة" صاحب
كتاب "الإمامة والسياسة" كما تقدمت الإشارة سابقاً.
" فقال
له ابن عقيل رضي الله عنه : ويلك من أنت ؟ قال : أنا من عرف الحق
إذ أنكرته، ونصح لإمامه إذ غششته، وأطاعه إذ خالفته، أنا مسلم بن
عمرو الباهلي، فقال له مسلم بن عقيل : لأمك الثُّكل، ما أجفاك
وأفظك وأقسى قلبك! أنت يا ابن باهلة أولى بالحميم والخلود في نار
جهنم مني. ثم جلس فتساند إلى حائط. وبعث عمرو بن حريث غلاماً له
فجاءه بقُلَّة عليها منديل وقدح فصب فيه ماء فقال له: اشرب، فأخذ
كلما شرب امتلأ القدح دماً من فيه فلا يقدر أن يشرب، ففعل ذلك مرة
ومرتين ، فلما ذهب في الثالثة ليشرب سقطت ثنيتاه(17)
في القدح، فقال : الحمد لله، لو كان لي من الرزق المقسوم شربته".(18)
ولئن كان
هذا الباهلي شامياً، فإن وجهاء الكوفة الحاضرين لم يعترضوا عليه،
حتى أن عمرو بن حريث - أو عمارة بن عقبة- الذي أرسل غلامه -
والعهدة على الناقل(19)
- فأتى
بماء، لم يسجل له أي استنكار لهذا اللؤم الباهلي العريق.
وقديماً
قال المولى أمير المؤمنين عليه السلام لبني باهلة وقد رفضوا الخروج
معه إلى صفين: " أُشهد الله أنكم تبغضوني وأبغضكم، فخذوا
عطاءكم".(20)
ولابد
للمجاهد من وقفة مع حقيقة العميل الذي يتفرعن على الناس، ويتصرف مع
سيده الطاغوت بمنتهى الذل، لتوقن شغاف قلب المجاهد بذلك ، فيدخله
في حسابه جيداً، فلا يشعر بهيبة لهؤلاء المتفرعنين، ولا برهبة
منهم، ويمضي في مواجهتهم كحدّ السيف وهو يبرأ منهم ويستكثر
تقريعهم.
* الحوار العاصف: ما هو لي بأميـر!
عندما نستعرض مواقف بني أمية من رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم، ومن الإسلام عموماً، نجد أن عتاتهم تصرّفوا على أساس أنهم لم
يؤمنوا بالله تعالى طرفة عين، وكانوا ينتظرون الفرصة المؤاتية لكي
ينقضّوا على الإسلام وينتقموا من رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم.
وقد تقدم
قول أمير المؤمنين عليه السلام فيهم: "والذى فلق الحبة وبرأ
النسمة ما أسلموا ولكن استسلموا، وأسرُّوا الكفر، فلما وجدوا
أعواناً رجعوا إلى عدواتهم منا.. ".(21)
وترجع كل
الخطوط العامة لسياسة الأمويين إلى مقولة أبي سفيان الشهيرة - التي
لم تكن فلتة - : يا بني أمية تلقفوها تلقف الكرة ، فوالذي يحلف
به أبو سفيان، ما من عذاب ولا حساب، ولا جنة ولا نار، ولا بعث ولا
قيامة".(22)
ويشكِّل
دخول مسلم بن عقيل رضوان الله عليه أسيراً إلى مجلس الطاغية ابن
زياد - الذي لم يكن أموياً وإنما ألحق أبوه زياد بأبي سفيان فأصبح
أموياً بالإلحاق - المفصل البارز في بداية تحقق انتقام بني أمية من
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
صحيح أن
بني أمية كانوا قد أطلقوا حملة انتقامهم، قبل رمي جنازة الإمام
الحسن عليه السلام، بالسهام بكثير، مروراً بالتنكيل بكل من يهوى
رسول الله كما أراد هو صلى الله عليه وآله من خلال أهل بيته عليهم
السلام، أمثال الشهداء القادة حجر بن عدي وعمرو بن الحمق وغيرهما
إلا أنها المرة الأولى التي يدخل فيها بتلك الحال هاشمي من أقرباء
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسيراً إلى مجلس شخص ليس من بني
أميّة وإنما هو علج من بني ثقيف ملحق ببني أميّة!
وفي ذلك
من التشفي، ما يفوق بكثير، ما لو كان دخول مسلم على أموي على ما في
هذا من خطير التشفي والكمد.
دخل مسلم
رضوان الله عليه إلى مجلس ابن زياد، دون أن يتمكن من شرب الماء
الذي كان قد طلبه، وسقطت بعض أسنانه فيه، وقد تقدم معنا أنه كان قد
أعياه نزف الدم، وإنما أذكّر بهذا لنستحضر كيف كان وضعه الجسدي
رضوان الله عليه إلا أنه مع ذلك كان غاية في الصلابة، كما سنرى.
وسأورد
حول ذلك عدداً وافراً من النصوص، نظراً لخصوصية اللحظة، وأهمية هذا
الحوار، وهي كما يلي:
1- قال السيد ابن طاوس:
" فلما أدخل على عبيد الله لم يسلم عليه فقال له الحرس(ي): سلم على
الأمير فقال له : أسكت ويحك والله ما هو لى بأمير.
فقال ابن زياد، لا عليك، سلمت أم لم تسلم فإنك مقتول.
فقال له مسلم: إن قتلتنى فلقد قتل من هو شرٌّ منك من هو خير منى،
وبعد فإنك لا تدع سوء القتلة، وقبح المثلة، وخبث السريرة، ولؤم الغلبة
لأحدٍ أولى بها منك.
فقال ابن زياد : يا عاقُّ يا شاقّ خرجت على إمامك وشققت عصا
المسلمين وألقحت الفتنة.
" فقال مسلم : كذبت يا ابن زياد! إنما شق عصا المسلمين معاوية
وإبنه يزيد وأما الفتنة فإنما ألقحها أنت وأبوك زياد بن عبيد عبد
بنى علاج من ثقيف، وأنا أرجو أن يرزقنى الله الشهادة على يدي شر
بريته.
" فقال ابن زياد : منَّتك نفسك أمراً حال الله دونه وجعله لأهله.
فقال له مسلم : ومن {أهله} يا ابن مرجانة؟ فقال أهله يزيد بن
معاوية. فقال مسلم : الحمد لله رضينا بالله حكماً بيننا وبينكم.
" فقال له ابن زياد : أتظن أن لك في الأمر شيئاً؟
"فقال له مسلم : والله ما هو الظن ولكنه اليقين.
" فقال ابن زياد : أخبرنى يا مسلم لماذا أتيت هذا البلد وأمرهم
ملتئم، فشتت أمرهم بينهم، وفرقت كلمتهم.
" فقال مسلم: ما لهذا أتيت، ولكنكم أظهرتم المنكر ودفنتم المعروف،
وتآمرتم على الناس بغير رضى منهم، وحملتموهم على غير ما أمركم الله
به، وعملتم فيهم بأعمال كسرى وقيصر، فأتيناهم لنأمر فيهم بالمعروف
وننهى عن المنكر، وندعوهم إلى حكم الكتاب والسنة وكنا أهل ذلك.
" فجعل ابن زياد يشتمه ويشتم علياً والحسن والحسين عليهم السلام.
" فقال له مسلم : أنت وأبوك أحق بالشتيمة، فاقض ما أنت قاضٍ يا عدو
الله.
" فأمر ابن زياد بكير بن حمران أن يصعد به إلى أعلى القصر فيقتله
فصعد به وهو يسبِّح الله تعالى ويستغفره ويصلي على النبي صلى الله
عليه وآله وسلم، فضرب عنقه فنزل مذعوراً، فقال له ابن زياد ما شأنك؟
فقال : أيها الأمير رأيت ساعة قتله رجلاً أسود سيء الوجه حذا مني(
أي بحَذائي)
عاضاً على إصبعه، أو قال على شفته، ففزعت منه فزعاً لم أفزعه قط .
فقال له ابن زياد لعلك دهشت ".(23)
ويلاحظ أن
السيد لم يذكر تعليل الشهيد لعدم سلامه بما يشبه الإستعطاف، كما
سيأتي، و بعيد جداً أن يصدر مثل ذلك من الشهيد، كما يلاحظ أن السيد
لم يذكر أبداً وصية الشهيد لابن سعد، ولا أشار إليها، وهي مستفيضة
في أكثر المصادر، وهو أمر ملفت، خاصة بملاحظة طريقة السيد في نقل
النص أو الوقائع لاسيما المرتبط منها بأهل البيت عليهم السلام، ولا
ينافي ذلك أنه ألف " اللهوف" في عنفوان شبابه كما ذُكر فإن الطالب
"الحوزوي" العادي يدرك ضرورة العناية بهذه الخصوصية،
فكيف بالسيد في فرادته رضوان الله تعالى عليه.
2- وقال الدينوري:
" فلما أدخل عليه، وقد اكتنفه الجلاوزة قالوا له: سلم على الأمير.
قال: إن كان الأمير يريد قتلي، فما أنتفع بسلامٍ عليه، وإن كان لم
يرد فسيكثر عليه سلامي.
قال ابن زياد : كأنك ترجو البقاء.
فقال له مسلم : فإن كنت مزمعاً على قتلي، فدعني أوص إلى بعض من
هاهنا من قومي.
قال له: أوص بما شئت.
فنظر إلى عمر بن سعد بن أبي وقاص، فقال له: أُخْلُ معي في طرف هذا
البيت حتى أوصي إليك، فليس في القوم أقرب إليّ ولا أولى بي منك.
فتنحى معه ناحية، فقال له: أتقبل وصيتي؟ قال : نعم .
قال مسلم: إن عليّ هاهنا ديناً، مقدار ألف درهم، فاقض عني، وإذا
أنا قتلت فاستوهب من ابن زياد جثتي لئلا يمثل بها، وابعث إلى
الحسين بن علي رسولاً قاصداً من قبلك، يعلمه حالي، وما صرت إليه من
غدر هؤلاء الذين يزعمون أنهم شيعته، وأخبره بما كان من نكثهم بعد
أن بايعني منهم ثمانية عشر ألف رجل، لينصرف إلى حرم الله، فيقيم
به، ولا يغتر بأهل الكوفة. وقد كان مسلم كتب إلى الحسين أن يقدم
ولا يلبث.
فقال له عمر بن سعد : لك عليَّ ذلك كله، وأنا به زعيم.
فانصرف إلى ابن زياد، فأخبره بكل ما أوصى به إليه مسلم. فقال له
ابن زياد : قد أسأت في إفشائك ما أسره إليك، وقد قيل: إنه لا يخونك
الأمين، وربما ائتمنت الخائن. وأمر ابن زياد بمسلم فرقي به إلى ظهر
القصر، فأشرف به على الناس، وهم على باب القصر مما يلي الرحبة، حتى
إذا رأوه ضربت عنقه هناك، فسقط رأسه إلى الرحبة، ثم أتبع الرأس
بالجسد ".(24)
ويلاحظ ما
يلي:
1- أنه يورد تعليلاً على لسان الشهيد لعدم السلام وهو قوله:
"إن كان الأمير يريد قتلي، فما أنتفع بسلام عليه، وإن كان لم
يرد فسيكثر عليه سلامي".
وهو نحو
استفسار واستعطاف، وسيأتي في بعض النصوص ما يزيد على ذلك.
2- كما
يلاحظ أن الدينوري يحدد الجهة التي قتل فيها الشهيد: " مما يلي
الرحبة " وهي إضافةٌ إلى ما يذكر في هذا المجال عادة.
3-
والملاحظة الثالثة أن طلب الشهيد أن يوصي إلى أحد كان قبل الحوار
بينه وبين الطاغية، وهو وإن كان ممكناً لكنه بعيد، فالأوفق أن يكون
بعده وعلى أبواب القتل، كما أورده ابن نما(25)
وابن أعثم(26)
و الخوارزمي(27)
نقلاً عنه. ويعزز ذلك أن أولئك " الوجهاء الجلوس بالباب" كانوا في
ذلك المجلس وربما كان استدعاؤهم لهذا الغرض، ويؤكد حضور غير عمر بن
سعد ما يأتي من تعبير" فنظر مسلم إلى جلساء عبيد الله" أو ما يقرب
منه.
4-
وأخيراً، أن الشهيد لم يطلب من ابن الأشعث، أن يفي بوعده بالأمان، ولا
يخفر ذمته.
3- وقال البلاذري:
"[ وأُخذ مسلم ] فأُتي به ابن زياد، وقد آمنه [ محمد ] ابن الأشعث
فلم ينفذ أمانه، فلما وقف مسلم بين يديه نظر إلى جلسائه فقال لعمر
بن سعد بن أبي وقاص: إن بيني وبينك قرابة أنت تعلمها، فقم معي حتى
أوصي إليك، فامتنع.
فقال ابن زياد : قم إلى ابن عمك. فقام.
فقال [ له مسلم ] : إن عليّ بالكوفة [ ديناً ] سبعمائة درهم [
أخذته ] مذ قدمتها فاقضها عني، وانظر جثتي فاطلبها من ابن زياد،
فوارها، وابعث إلى الحسين من يرده.
فأخبر عمر بن سعد ابنَ زياد بما قال له.
فقال : أما ما لك فهو لك تصنع فيه ما شئت، وأما حسين فإنه إن لم
يُرِدْنا لم نُرِدْه، وأما جثته فإنا لا نشفعك [ فيها ] لأنه قد
جهد أن يهلكنا، ثم قال : وما نصنع بجثته بعد قتلنا إياه.
أضاف
البلاذري:
وقال الهيثم بن عدي : ".." أُدخلَ مسلم بن عقيل رحمه الله تعالى
على ابن زياد، وقد ضُرب على فمه، فقال: يا ابن عقيل أتيت لتشتيت
الكلمة؟ فقال: ما لذلك أتيت، ولكن أهل المصر كتبوا أن أباك سفك
دماءهم وانتهك أعراضهم فجئنا لنأمر بالمعروف وننهى عن المنكر.
فقال: وما أنت وذاك. وجرى بينهما كلام فقتله.
ثم يورد
البلاذري عن أبي مخنف:
قال ابن زياد لابن عقيل : أردت أن تشتت أمر الناس بعد اتفاقه،
وتفرق ألفتهم بعد اجتماعهم وجرى بينهما كلام حتى قال له قتلني الله
إن لم أقتلك قتلة لم يقتلها أحد في الإسلام. فقال له مسلم : أما
إنك أحق من أحدث في الإسلام ما لم يكن فيه من سوء القتلة وقبح
المثلة وخبث السريرة ولؤم الغلبة.
ثم قال ابن زياد : إصعدوا به فوق القصر، واضربوا عنه فأتبعوا رأسه
جسده. فقال [ مسلم ] يا بن الأشعث فوالله لولا أمانك ما استسلمت.
فكان الذي تولى ذلك منه بكير بن حمران الأحمري أشرف به على موضع
الحذائين وهو يسبِّح ويدعو على من غره وخذله، فضرب عنقه ثم أتبع
رأسه جسده. ".(28)
ويلاحظ في
النص أنه يورد الوصية قبل كل شيء، وهو أكثر بعداً مما تقدم
استبعاده من أن يكون طلب الوصية قبل الحوار، ولعله تنبه لذلك فأورد
ما أورده عن الهيثم بن عدي.
4-
وقال المسعودي:
" ثم أُدخل على ابن زياد، فلما انقضى كلامه، ومسلم يُغلظ له في
الجواب، أمر به فأُصعد إلى أعلى القصر، ثم دعا الأحمري الذي ضربه
مسلم فقال: كن أنت الذي تضرب عنقه لتأخذ بثأرك من ضربته، فأصعدوه
إلى أعلى القصر، فضرب بكير الأحمري عنقه، فأهوى رأسه إلى الأرض، ثم
أتبعوا رأسه جسده".(29)
5- وقال
ابن شهراشوب:
" فأُتي به إلى ابن زياد فتجاوبا، وكان ابن زياد يسب حسيناً
وعلياً عليهما السلام، فقال مسلم: فاقض ما أنت قاضٍ يا عدو الله.
فقال
ابن زياد : إصعدوا به فوق القصر واضربوا عنقه، وكان مسلم يدعو الله
ويقول : أللهم احكم بيننا وبين قوم غرونا وخذلونا فقتله وهو على
موضع الحَذَّائين ".(30)
6- وقال
الشيخ المفيد والطبري:
" وأدخل مسلم على ابن زياد فلم يسلم عليه بالإمرة، فقال له
الحرسي: ألا تسلم على الأمير؟ فقال له: إن كان يريد قتلي فما سلامي
عليه وإن كان لا يريد قتلي فلعمري ليكثرنَّ سلامي عليه.
فقال
له ابن زياد لعمري لتقتلن.
قال
كذلك. قال نعم.
قال
فدعني أوص إلى بعض قومي. فنظر إلى جلساء عبيدالله، وفيهم عمر بن سعد،
فقال: يا عمر إن بينى وبينك قرابة ولي اليك حاجة، وقد يجب لي عليك
نجح حاجتي، وهو سر، فأبى أن يمكنه من ذكرها، فقال له عبيدالله: لا
تمتنع أن تنظر في حاجة ابن عمك، فقام معه، فجلس حيث ينظر إليه ابن
زياد فقال له: إن عليَّ بالكوفة ديناً استدنته منذ قدمت الكوفة
سبعمائة درهم، فاقضها عنى وانظر جثتي فاستوهبها من ابن زياد، فوارها
وابعث إلى حسين من يرده، فإنى قد كتبت إليه أعلمه أن الناس معه ولا
أراه إلا مقبلاً.
فقال
عمر لابن زياد: أتدرى ما قال لي؟ إنه ذكر كذا وكذا.
قال له
ابن زياد: إنه لا يخونك الأمين ولكن قد يؤتمن الخائن. أما مالك فهو
لك ولسنا نمنعك أن تصنع فيه ما أحببت وأما حسين فانه إن لم
يُرِدْنا لم نرده وإن أرادنا لم نكف عنه، وأما جثته فإنا لن نشفعك
فيها إنه ليس بأهل منا لذلك قد جاهدنا وخالفنا وجهد على هلاكنا.
وزعموا
أنه قال أما جثته فإنا لا نبالي إذا قتلناه ما صنع بها.
ثم إن
ابن زياد قال: إيه يا ابن عقيل أتيت الناس وأمرهم جميع وكلمتهم
واحدة، لتشتتهم وتفرق كلمتهم، وتحمل بعضهم على بعض.
قال:
كلا لست "لذلك" أتيت، ولكن أهل المصر زعموا أن أباك قتل خيارهم وسفك
دماءهم، وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر فأتيناهم لنأمر بالعدل وندعو
إلى حكم الكتاب.
قال
"ابن زياد" : وما أنت وذاك يا فاسق، أو لم نكن نعمل بذاك فيهم إذ
أنت بالمدينة تشرب الخمر.
قال:
أنا أشرب الخمر! والله إن الله ليعلم إنك غير صادق، وإنك قلت بغير
علم، وإنى لست كما ذكرت، وإن أحق بشرب الخمر مني وأولى بها من يلغ في
دماء المسلمين ولغاً، فيقتل النفس التى حرم الله قتلها، ويقتل النفس
بغير النفس، ويسفك الدم الحرام، ويقتل على الغضب، والعداوة، وسوء الظن،
وهو يلهو ويلعب كأن لم يصنع شيئاً.
فقال
له ابن زياد: يا فاسق، إن نفسك تمنيك ما حال الله دونه ولم يرك
أهله.
قال:
فمن أهله يا ابن زياد.
قال: أمير المؤمنين يزيد.
فقال: الحمد لله على
كل حال، رضينا بالله حَكَماً بيننا وبينكم.
قال:
كأنك تظن أن لكم في الأمر شيئاً.
قال:
والله ما هو بالظن ولكنه اليقين.
قال: قتلني الله إن لم أقتلك قتلةً
لم يقتلها أحد في الإسلام.
قال: أما إنك أحق من أحدث في الإسلام ما
لم يكن فيه، أما إنك لا تدع سوء القتلة، وقبح المثلة، وخبث السيرة،
ولؤم الغلبة ولا أحد من الناس أحق بها منك.
وأقبل ابن سمية يشتمه
ويشتم حسيناً وعلياً وعقيلاً، وأخذ مسلم لا يكلمه.
وزعم
أهل العلم أن عبيدالله أمر له بماء فسقي بخزفة، ثم قال له إنه لم
يمنعنا أن نسقيك فيها إلا كراهة أن تحرم بالشرب فيها، ثم نقتلك
ولذلك سقيناك في هذا.
ثم قال
إصعدوا به فوق القصر فاضربوا عنقه ثم أتبِعوا جسده رأسه.
فقال:
يا ابن الأشعث، أما والله لولا أنك آمنتني ما استسلمت، قم بسيفك دوني
فقد أُخفرت ذمتك، ثم قال: يا ابن زياد، أما والله لو كانت بينى وبينك
قرابة ما قتلتني.
ثم قال
ابن زياد: أين هذا الذى ضرب ابن عقيل رأسه بالسيف وعاتقه، فدعي فقال:
إصعد فكن أنت الذي تضرب عنقه، فصعد به وهو يكبر، ويستغفر، ويصلي على
ملائكة الله ورسله وهو يقول: أللهم احكم بيننا وبين قوم غرونا
وكذبونا وأذلونا.
وأشرف
به على موضع الجزارين اليوم فضربت عنقه وأتبع جسده رأسه.
أضاف
الطبري:
قال أبو مخنف: حدثنى الصقعب بن زهير عن عوف بن أبى جحيفة، قال
نزل الأحمري بكير بن حمران الذى قتل مسلماً، فقال له ابن زياد
قتلته؟ قال نعم.
قال:
فما كان يقول،وأنتم تصعدون به؟ قال: كان يكبَّر ويسبح ويستغفر، فلما
أدنيته لأقتله قال: أللهم احكم بيننا وبين قوم كذبونا وغرونا
وخذلونا وقتلونا فقلت له: أدن مني الحمد لله الذى أقادني منك،
فضربته ضربة لم تغن شيئاً فقال: أما ترى في خدش تخدشنيه وفاء من
دمك أيها العبد؟ فقال ابن زياد: وفخراً عند الموت! قال ثم ضربته
الثانية فقتلته".(31)
ويلاحظ
هنا ما يلي:
1- الإستبعاد الشديد لصدور تعليل الشهيد لعدم سلامه على ابن زياد
بقوله:" إن كان يريد قتلي فما سلامي عليه، وإن كان لا يريد قتلي
فلعمري ليكثرنَّ سلامي عليه".
2- حديث
الخزفة، فقد حاول الشهيد وهو بالباب أن يشرب فلم يستطع وسقطت
ثنيتاه مما يعني أن الشرب أصبح أكثر تعذراً أو هو متعذر كما كان.
والواقع
أن الموردين معاً لا ينسجمان لا مع الثابت من الجو العاصف الذي ساد
منذ دخول الشهيد إلى قصر الإمارة وحتى شهادته، ولا مع ما هو صريح
محاكمة الشهيد مسلم للطاغية، ولا مع سمو الروح التي سيطرت على
الموقف فلم يملك الطاغية إلا الإنبهار بها، كما يكشف عن ذلك حرصه
على معرفة ما كان يقوله الشهيد وتعقيبه بقوله: أو فخراً عند الموت!
3- أورد
الطبري روايتين حول ما قاله ابن زياد عن جثة الشهيد بعد القتل، ثم
ذكر في آخر النص ما يؤكد أن ابن زياد لم يعِد بعدم التمثيل بالجثة،
والملفت أن الشيخ المفيد اقتصر على الرواية التي تدل بظاهرها على
وعده بعدم التمثيل، والتي أوردها الطبري بصيغة" "و زعموا".
3- لم
يورد الشيخ المفيد ما ذكر هنا عن "الخزفة" ولا ما نقله الطبري عن
أبي مخنف وهو ختام النص، كما أنه لم يورد في كلام الشهيد مسلم في
أول النص لفظة "فلعمري" فليلاحظ.
7- وقال
ابن أعثم والخوارزمي:
"ثم أُتي به فأُدخل على ابن زياد فأُوقف ولم يسلم عليه، فقال له
الحرسي: سلم على الأمير. فقال مسلم: أُسكت لاأُم لك، مالك والكلام
ما هو لي بأمير فأُسلم عليه، وأخرى ما ينفعني سلامي وهو يريد قتلي،
فإن استبقاني فسيكثر(كذا).
فقال
ابن زياد: لا عليك سلمت أو لم تسلم، فإنك مقتول.
فقال
مسلم إن قتلتني فلقد قتل من هو شرٌّ منك من هو خير مني، ثم قال له:
إن القوم قد آمنوني، فقال محمد بن الأشعث: إني قد آمنته.
فقال
ابن زياد: وما أنت وذاك، كأني إنما أرسلتك لتؤمنه؟
ثم قال
لمسلم: ياشاق، يا عاق، خرجت على إمامك وشققت عصا المسلمين، وألقحت
الفتنة.
فقال:
كذبت يا ابن زياد إنما شقَّ عصا المسلمين معاوية وابنه يزيد، وإنما
ألقح الفتنة أنت وأبوك زياد بن عُبيد بن علاج من ثقيف، وأنا أرجو
أن يرزقني الله الشهادة على يدي شر بريته، فوالله ما خلعت وما
غيَّرت وإنما أنا في طاعة الحسين بن علي وابن فاطمة بنت رسول الله،
فهو أولى بالخلافة من معاوية وابنه وآل زياد.
فقال
له ابن زياد: يا فاسق، ألم تكن تشرب الخمر بالمدينة؟
فقال
مسلم: الله يعلم أني ما شربتها قط، وأحق مني بشرب الخمر من يقتل
النفس الحرام، ويقتل على الغضب والعداوة والظن، وهو في ذلك يلهو
ويلعب وكأنه لم يصنع شيئاً.
فقال
له ابن زياد: يافاسق مَنَّتك نفسك أمراً حال الله دونه، وجعله
لأهله.
فقال
مسلم: ومن أهله يا ابن مرجانة؟
فقال
له: يزيد بن معاوية.
فقال مسلم: الحمد لله رضينا بالله حَكَماً بيننا وبينكم.
فقال ابن زياد: أتظن أن لك من الأمر شيئاً؟
فقال: لا والله ما هو بالظن ولكنه اليقين.
فقال ابن زياد: قتلني الله إن لم أقتلك شرَّ قتلة.
فقال مسلم: أما إنك لا تدع سوء القتلة، وقبح المُثلة، وخبث
السريرة، ولؤم الفعلة، لأحد غيرك أولى منك، والله لو كان معي عشرة
ممن أثق بهم، وقدرت على شربة ماء لطال عليك أن تراني في هذا القصر،
ولكن إن كنت عزمت قتلي فأقم لي رجلاً من قريش، حتى أوصي إليه بما
أريد.
ثم نظر مسلم إلى عمر بن سعد بن أبي وقاص، فقال له: إن بيني وبينك
قرابة فاسمع مني. فامتنع.
فقال له ابن زياد: ما يمنعك من الإستماع لابن عمك؟
فقام عمر إليه، فقال له مسلم: أوصيك بتقوى الله فإن التقوى درك كل
خير، ولي إليك حاجة.
فقال عمر: قل ما أحببت.
فقال: حاجتي إليك أن تسترد فرسي وسلاحي من هؤلاء فتبيعه، وتقضي عني
سبعمائة درهم استدنتها في مصركم هذا، وأن تستوهب جثتي إن قتلني هذا
الفاسق، فتواريني التراب، وأن تكتب للحسين أن لا يقدم، فينزل به ما
نزل بي.
فقال عمر بن سعد: أيها الأمير، إنه يقول كذا وكذا، فقال ابن زياد:
يا ابن عقيل، أما ما ذكرت من دَيْنك، فإنما هو مالك تقضي به دَينك
ولسنا نمنع أن تصنع به ما أحببت، وأما جسدك فإنا إذا قتلناك
فالخيار لنا ولسنا نبالي ما صنع الله بجثتك، وأما الحسين فإنه إن
لم يُردنا لم نُرده، وإن أرادنا لم نكف عنه.
أضاف الخوارزمي:
وفي رواية أنه قال: وأما الحسين فلا ولا كرامة، ولكن أريد أن
تخبرني يا ابن عقيل، لماذا أتيت أهل هذا البلد، وأمرهم جميع،
وكلمتهم واحدة، فأردت أن تفرق عليهم أمرهم، وتحمل بعضهم على بعض؟
فقال له مسلم: ليس لذلك أتيت، ولكن أهل هذا المصر زعموا أن أباك
قتل خيارهم، وسفك دماءهم، وأن معاوية حكم فيهم بغير رضىً منهم، وأن
عاملهم يتجبر ويعمل أعمال كسرى وقيصر، فأتينا لنأمر بالعدل، وندعو
إلى الحكم بكتاب الله إذ كنا أهله، ولم تزل الخلافة لنا، وإن
قُهرنا عليها، رضيتم بذلك أم كرهتم، لأنكم أول من خرج على إمام
هدىً وشقَّ عصا المسلمين، ولا نعلم لنا ولكم مثلاً إلا قول الله
تعالى: وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
فجعل ابن زياد يشتمه، ويشتم علياً والحسن والحسين.
فقال مسلم: أنت وأبوك أحق بالشتم والسب، فاقض ما أنت قاضٍ يا عدو
الله، فنحن أهل بيت موكلٌ بنا البلاء.
فقال ابن زياد: إصعدوا به إلى أعلى القصر واضربوا عنقه، وأتبعوا
رأسه جسده.
فقال مسلم: أمَ والله يا ابن زياد، لو كنت من قريش، أو كان بيني
وبينك رحم لما قتلتني، ولكنك ابن أبيك.
فازداد ابن زياد غضباً، ودعا برجل من أهل الشام قد كان مسلم ضربه
على رأسه ضربةً منكرة، فقال له: خذ مسلماً إليك وأصعده إلى أعلى
القصر، واضرب أنت عنقه بيدك، ليكون ذلك أشفى لصدرك.
فأُصعد مسلم إلى أعلى القصر، وهو يسبِّح الله ويستغفره، ويقول:
أللهم احكم بيننا وبين قوم غرونا وخذلونا، حتى أُتي به إلى أعلى
القصر، فتقدم ذلك الشامي وضرب عنقه، ثم نزل الشامي وهو مذعور
مدهوش، فقال له ابن زياد: ما شأنك أقتلته؟
قال: نعم، إلا أنه عرض عارض، فأنا به مرعوب.
قال: وما الذي عرض؟
قال: رأيت ساعة قتلته رجلاً بحَذائي أسود شديد السواد كريه المنظر،
عاضاً على إصبعه أو قال: شفته، ففزعت منه فزعاً لم أفزع مثله قط.
فتبسم
ابن زياد وقال: دُهشت من شيء لم تعتده قبل ذلك ".(32)
الفهارس
(1) إبن قتيبة، الإمامة
والسياسة2/9-10 (ت: الشيري).
(2) الخوارزمي، مقتل
الحسين302.
(3) إبن شهراشوب،
المناقب3/244.
(4) السيد ابن طاوس، اللهوف
في قتلى الطفوف35.
(5) الطريحي(الشيخ فخر الدين)
المنتخب في جمع المراثي والخطب. المشتهر ب" الفخري"427 المجلس
التاسع من الجزء الثاني.(منشورات الرضي-قم. أفست طبعة النجف،
المطبعة الحيدرية).
(6) المسعودي، مروج
الذهب3/59.
(7) المجلسي، البحار44/254.
(8) الشيخ المفيد،
الإرشاد2/48-50. والطبري4/272-274 واللفظ للأول. وانظر: الدينوري،
الأخبار الطوال236-238.
(9) الشيخ المفيد،
الإرشاد2/59. والطبري4/280. واللفظ للشيخ
(10) الشيخ المفيد،
الإرشاد2/59-6-. والطبري4/280-281. واللفظ للأول، ماعدا ما بين
القوسين فهو للطبري..
(11) راجع ما ورد تحت هذين
العنوانين في الفصل الأول.
(12) الطبري4/282.
(13) الطبري4/281.
(14) الطبري4/323.
(15) الطبري4/281. والشيخ
المفيد، الإرشاد60 واللفظ للطبري.
(16) الشيخ المفيد،
الإرشاد260-61. والطبري4/281-282. واللفظ للشيخ.
(17) أي اثنتان من ثناياه.
والثنا يا: الأسنان لأنها واحدة من أعلى وثانية من أسفل.
(18) المصدران.
(19) الطبري4/282.
(20) نصر بن مزاحم المنقري،
وقعة صفين116. وقد روي عنه عليه السلام أنه قال يوماً:
أدعو...(كذا) وباهلة، وحياً آخر قد سماهم فليأخذوا عطياتهم، فو
الذي فلق الحبة وبرأ النسمة مالهم في الإسلام نصيب، وإني شاهد عند
الحوض وعند المقام المحمود أنهم أعدائي في الدنيا والآخرة الخ.
المحدث القمي، نفس المهموم 115. الهامش. وقد وردت تتمة الرواية
هكذا: ولئن ثبتت قدماي لأردن قبيلة إلى قبيلة، ولأبهرجن ستين قبيلة
ما لهم في الإسلام نصيب. إبراهيم بن محمد الثقفي، الغارات1/22. و
قد ذكر في موضع النقط "غُنَياًًّ". ولم يذكر اسم القبيلة الثالثة.
(21) المنقري، وقعة صفين215.
(22) أبو بكر الجوهري،
السفيفة وفدك87. والنص بتمامه: " فلما دخل عثمان رحله ( بعد أن
بويع بالخلافة)دخل إليه بنو امية حتى امتلأت بهم الدار ، ثم
أغلقوها عليهم ، فقال أبو سفيان بن حرب : أعندكم أحد من غيركم (
وكان أعمى) قالوا: لا، قال: يا بني أمية تلقفوها تلقف الكرة،
فوالذي يحلف به أبو سفيان، ما من عذاب ولا حساب، ولا جنة ولا نار ،
ولا بعث ولا قيامة. قال: فانتهره عثمان، وساءه بما قال، وأمر
باخراجه". وكأن جزاء المرتد مجرد الإخراج! وفي تاريخ الطبري
8/183-189: يا بني عبد مناف، تلقفوها تلقف الكرة ، فما هناك جنة
ولا نار.وبروايةالمسعودي3/343 : يا بني أمية، تلقفوها تلقف الكرة،
فوالذي يحلف به أبو سفيان ما زلت أرجوها لكم ولتصيرن إلى صبيانكم
وراثة.وبرواية الزمخشري، الفائق في غريب الحديث2/88: إن أبا سفيان
رضى الله عنه( كذا!!) قال لبني أمية: تزقفوها تزقف الكرة وروي:
تلقفوها يعنى الخلافة." وهذا كفر صراح يلحقه اللعنة من الله كما
لحقت الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك
بما عصوا وكانوا يعتدون". من رسالة " المعتضد" التي كان يريد أن
تقرأ على الناس ثم توقف عن ذلك.أنظر: الطبري8/185.وابن أبي الحديد
شرح النهج15/174.
(23) السيد ابن طاوس،
اللهوف35-36. بتصرف يسير. ولم يورد السيد وصية الشهيد لعمر بن سعد،
كما لم يوردها ابن شهراشوب في المناقب، وقد أوردها الشيخ ابن نما
في مثير الأحزان.
(24) الدينوري الأخبار
الطوال240-241.
(25) مثير الأحزان25-26.
(26) إبن أعثم، أبو محمد أحمد
بن أعثم الكوفي(الوقاة314هـ) الفتوح5/57. وقد ذكر شطراً من الحوار
بعد الوصية، ولاينافي أنها كانت على أبواب القتل.
(27) الخوارزمي، مقتل
الحسين305.
(28) البلاذري، أنساب
الأشراف82-83. بتصرف يسير.
(29) المسعودي، مروج
الذهب3/59.
(30) إبن شهراشوب،
المناقب3/244-245.
(31) الطبري4/282-284.والشيخ
المفيد، الإرشاد2/61-63.
(32) الخوارزمي، مقتل
الحسين304-306. بتصرف يسير. وابن أعثم( أبو محمد أحمد بن أعثم
الكوفي) الفتوح5/55-59. (ت: الشيري، ط: دار الأضواء- بيروت.ط: أولى
1411هـ 1991م). باختلاف في موارد عديدة. واللفظ هنا للخوارزمي
نقلاً عن ابن أعثم، وقد اعتمدت في النقل عنهما عبارة الخوارزمي
دائماً لعدم الركون إلى ألفاظ نسخة الفتوح المذكورة، المتوفرة لدي
لأن بعضها مترجم عن الفارسية. |