وصايا

وصايا

17/12/2012

مرابطة العارفين


أوّلُ مقاماتِها «المُشارطة»
مرابطةُ العقل على ثغور النَّفْس
ـــــ الفقيه الشيخ محمّد مهدي النّراقي قدّس سرّه ـــــ

يؤكِّدُ الفقهاء الرّبانيّون على أنّ توبيخَ النَّفس ومعاتبَتها بابٌ عظيمٌ من أبواب مرابطة العارفين في السّير والسّلوك إلى الله تعالى، وأنّ لهذه المرابطة مع النَّفس مقاماتٍ خمسة: هي المُشارطة، ثمّ المراقبة، ثمّ المحاسبة، ثمّ المعاتبة، ثمّ المعاقبة.
ما يلي، وقفة مع المقام الأوّل -المشارطة- مقتطفة من (جامع السّعادات) للمولى الفقيه الشيخ محمّد مهدي النّراقي قدّس سرّه، وكان الإمام الخميني قدّس سرّه يُولي مؤلفّات المولى النّراقي -لا سيّما هذا الكتاب الجليل- اهتماماً خاصّاً، ويوصي دائماً بقراءته، كما أنّ وليّ أمر المسلمين الإمام الخامنئي حفظه الله تحدّث عن المولى النّراقي ونجله المولى الشيخ أحمد، صاحب (مستند الشيعة)، معتبراً أنّ «منزلتَهما الرّفيعة سامية، وغير قابلة للإدراك والمعرفة».

إعلم أنّ العقل بمنزلةِ تاجرٍ في طريق الآخرة، ورأسُ ماله العمر، وقد استعان في تجارته هذه بالنَّفْس، فهي بمنزلة شريكِه أو غلامه الذي يتجّر في ماله، وربحُ هذه التّجارة تحصيلُ الأخلاق الفاضلة والأعمال الصّالحة الموصولة إلى نعيم الأبد وسعادة السّرمد، وخسرانُها المعاصي والسيّئات المؤدّية إلى العذاب المقيم في درَكات الجحيم.
أو نقول: رأسُ مال العبد في دينِه الفرائض، وربحُه النّوافل والفضائل، وخسرانُه المعاصي، وموسمُ هذه التّجارة مدّة العمر، وكما أنّ التّاجر يشارطَ شريكَه أوّلاً، ويراقبُه ثانياً، ويحاسبُه ثالثاً، وإنْ قصَّر في التّجارة -بالخيانة والخسران وتَضييع رأس المال- يعاتبُه ويعاقبُه ويأخذُ منه الغرامة، كذلك العقلُ يحتاج في مشاركة النّفس إلى أن يرتكبَ هذه الأعمال، ومجموعُ هذه الأعمال يُسمّى بـ «المحاسبة والمراقبة» تسميةَ الكلِّ باسم بعضِ أجزائه، وقد يُسمّى «مرابطة» أيضاً.

معنى ومفهوم «المشارطة»
فأوّل الأعمال في المرابطة «المشارطة»: وهي أن يشارط النَّفسَ، ويأخذَ منها العهدَ والميثاق في كلّ يومٍ وليلةٍ مرّةً ألّا ترتكبَ المعاصي، ولا يصدر عنها شيءٌ يوجبُ سخَطَ الله، وأن لا تقصِّر في شيءٍ من الطّاعات الواجبة، ولا تترك ما تيسَّر لها من الخَيرات والنّوافل. والأَولى أن يكون ذلك بعد الفراغ عن فريضة الصّبح وتعقيباتها، فيخاطب النّفسَ ويقول لها:
«يا نفَس! ما لي بضاعةٌ سوى العمر ".." وهذا يومٌ جديد، وقد أمهلَني اللهُ فيه بعظيمِ لُطفِه، ولو توفّاني لكنتُ أتمنّى أن يُرجعَني إلى الدّنيا يوماً واحداً لأعملَ صالحاً، فَاحسبي أنّك توفّيتِ ثمّ رُدِدتِ، فإيّاكِ أن تُضيّعي هذا اليوم، فإنّ كلَّ نَفَسٍ من أنفاس العمر جوهرةٌ نفسيةٌ لا عِوَضَ لها، يُمكن أن يشتري بها العبدُ كنزاً من الكنوز لا يتناهى نعيمُه أبدا الآباد».
وَلْيتذكِّر العبدُ حين المشارطة ما ورد في بعض الأخبار؛ من أنّ كلَّ عبدٍ خُلِقَ له بإزاء كلِّ يومٍ وليلةٍ من عمرِه أربعٌ وعشرون خزانة مصفوفة. فإذا مات تُفتَح له هذه الخزائن، ويشاهد كلَّ واحدةٍ منها ويدخلها، فإذا فُتِحَت له خزانةٌ خُلِقَت بإزاء السّاعة التي أطاعَ الله فيها، يراها مملوءةً نوراً من حسناتِه التي عَمِلَها في تلك السّاعة، فينالُه من الفرح والاستبشار بمشاهدة تلك الأنوار -التي هي وسائلُ عند الملِك الجبّار- ما لو وزِّعَ على أهل النّار لأَدهشَهم ذلك الفَرحُ عن الإحساس بأَلم النّار، وإذا فتِحت له خزانةٌ خلقِت بإزاء السّاعة التي عصى الله فيها، يراها سوداءَ مظلمة يفوحُ نتَنُها ويَغشاه ظلامُها، فينالُه من الهَول والفزَع ما لو قُسِّم على أهل الجنّة لَنَغَّصَ عليهم نعيمَها، وإذا فتِحت له خزانةٌ بإزاء السّاعة التي نام فيها أو غفلَ أو اشتغلَ بشيءٍ من مباحات الدّنيا لم يشاهد فيها ما يسرُّه ولا ما يَسوؤه، وهكذا تُعرَض عليه الخزائن بإزاء عددِ ساعات عمره، وعند ذلك يتحسّرُ العبدُ على إهمالِه وتقصيره، وينالُه من الغُبن ما لا يُمكن وصفُه.
وبعد هذا التذكُّر يخاطب نفسَه ويقول: «اجتهدي اليوم في أن تعمُري خزائنَك، ولا تَدعيها فارغةً من كنوزك التي هي أسبابُ ملكِك، ولا تركَني إلى الكَسَل والبطالة فيفوتك من درجات العليّين ما يدركُه غيرُك، فتدركك الحسرةُ والغُبن يوم القيامة وإنْ دخلتِ الجنّة، إذ أَلمُ الغُبن والحَسرة وانحطاطِ الدّرجة -مع وجود ما فوقَها من الدّرجات غير المتناهية التي نالها أبناءُ نوعك- ممّا لا يطاق».

الوصيّة في الجَوارح
ثمّ يستأنف لها الوصيّةَ في أعضائه السّبعة: أعني العين، والأُذن، واللِّسان، والفَرْج، والبَطن، واليد، والرِّجل، ويسلمها إليها، لأنّها رعايا خادمةٌ لها في التّجارة، ولا تتمُّ أعمالُ هذه التّجارة إلّا بها، فيُوصيها بحفظ هذه الأعضاء عن المعاصي التي تصدرُ عنها، وبإعمال كلٍّ منها في ما خُلِق لأجله، ثمّ يوصيها بالاشتغال بوظائف الطّاعات التي تتكرّر عليه في اليوم واللّيلة، وبالنّوافل والخيرات التي تقدرُ عليها، وهذه شروطٌ يُفتَقرُ إليها كلَّ يوم، لكنْ متى اعتادت النَّفسُ -بتكرار المشارطة والمراقبة- بالعمل بها والوفاء بحقِّها، استغنى العبدُ عن المشارطة فيها، وإنْ اعتادت بالعمل في بعضِها لم تكن حاجةٌ إلى المشارطة فيه، وبقيتِ الحاجةُ إليها في البَواقي.

التّدبُّر في العواقب
هذا، وكلُّ مَن يشتغلُ بشيءٍ من أعمال الدّنيا: من ولايةٍ أو تجارةٍ أو تدريس، أو أمثال ذلك، لا يخلو كلُّ يومٍ منه من مهمٍّ جديد، وواقعةٍ حادثةٍ لها حكمٌ جديد، وللهِ تعالى عليه فيها حقّ، فعليه أن يجدِّدَ الاشتراط على نفسِه بالاستقامة والانقياد للحقّ في مجاريها، وينبغي أن يوصلَها بالتدبُّر في عاقبة كلِّ أمرٍ يرتكبُه في هذا اليوم واللّيلة. وهذه الوصيّة عمدةُ الوصايا ورأسُها، فقد رُوي أنّ رجلاً أتى رسولَ الله صلّى الله عليه وآله وقال: يا رسولَ الله، أَوْصِني. فقال له صلّى الله عليه وآله: «فهَل أنت مُستَوصٍ إنْ أنا أوصيتُك؟» حتّى قال له ذلك ثلاثاً، وفي كلِّها يقول الرَّجل: نعم يا رسولَ الله! فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله: «فإنّي أوصيكَ إذا أنتَ هَمَمْتَ بأَمرٍ فتَدَبَّر عاقبتَه، فإنْ يكُ رُشداً فَأَمْضِه، وإنْ يَكُ غَيَّاً فَانْتَهِ».
ويظهرُ من هذا الخبر أنّ التّأمُّلَ في عاقبة كلِّ أمرٍ أعظمُ ما يحصلُ به النّجاة، فينبغي أن يؤكِّدَ العهدَ والميثاق في ذلك على النَّفس، ويحذِّرَها من الإهمال، ويَعِظَها كما يُوعَظُ العبدُ المتمرِّدُ الآبِق، فإنّ النَّفسَ بالطّبع متمرّدةٌ عن الطّاعات، مستعصيةٌ عن العبوديّة، ولكنّ الوعظَ والتّأديبَ يؤثِّرُ فيها، ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ الذاريات:55، فهذا وما يجري مجراه هو المشارطة، وهو أوّلُ مقامات المرابطة. (بتصرّف بسيط)

اخبار مرتبطة

  أيها العزيز

أيها العزيز

  إصدارات

إصدارات

17/12/2012

دوريات

نفحات