الموقع ما يزال قيد التجربة
يستوقف الباحث في شؤون نهضة الإمام الحسين عليه السلام، أنّ الحديث عن أصحابه رضوان الله تعالى عليهم، ما يزال يستدعي المزيد من الجهود المتواصلة للتعريف بهم، وتقديم سِيَرهم بما يتيح القيام بواجب الولاية لهذه الشخصيات الفريدة، التي وفّقها الله تعالى للشهادة بين يدَي مَن قال فيه المصطفى الحبيب صلّى الله عليه وآله: «...وأنا مِن حُسين».
اقرأ في الملف
استهلال
هذا الملف
كربلاء.. ليلة القدر الثانية
فرسان المِصر
أهل البصائر
بمطلق الاختيار.. وفاءً لرسول الله صلّى الله عليه وآله
..وثبّت لي عندك قدم صدقٍ مع الحسين وأصحاب الحسين
استهلال
توجّه إلى الشهداء وقل..
السّلامُ عليكُم يا أولياءَ اللهِ وأحبّاءَهُ،
السّلام عليكُم يا أصفياءَ اللهِ وأَوِدّاءَه،
السّلامُ عليكم يا أنصارَ دِينِ اللهِ،
وأنصارَ نَبيِّه، وأنصارَ أميرِ المؤمنينَ،
وأنصارَ فاطِمةَ سيّدةِ نساءِ العالَمينَ،
السّلامُ عليكُم يا أنصارَ أبي مُحمّدٍ الحَسنِ الوَليِّ النّاصِح،
السلامُ عليكم يا أنصارَ أبي عبدِ اللهِ الحسينِ الشّهيد المظلومِ،
صلواتُ اللهِ عليهِم أجمعين .
بِأبي أنتُم وأمّي طِبتُم وَطابَتِ الأرضُ الّتي فِيها دُفِنتُم، وفُزتُم واللهِ فَوزاً عظيماً،
يا لَيتَني كنتُ معكُم فَأفوزَ معكُم في الجِنانِ مَع الشُّهداءِ والصّالحينَ،
وحَسُنَ أولئِكَ رَفيقاً،
والسّلامُ عليكُم ورحمةُ الله وبركاتُه .
(السيّد ابن طاوس، إقبال الأعمال: 2/65)
هذا الملف
ألم يكن جهاد أنصار الإمام الحسين عليه السلام محمّديّاً؟ وهل كان إقدامهم على الشهادة بين يدَي سيّد الشهداء إلّا بعض الوفاء لرسول الله صلّى الله عليه وآله؟
وبالتالي: فهل الصحابيّ الذي رأى رسول الله صلّى الله عليه وآله، ثم وقف مع يزيد ضدّ رسول الله صلّى الله عليه وآله المتجلّي بالحسين عليه السلام، أوفى منهم وأبرّ؟!
معاذ الله أن تعمى البصيرة فتعجز عن التعامل مع حقيقة الأمور، محجوبةً بظاهر لا يُقيم الله تعالى له وزناً.
ولا يشكّ موحّدٌ في عظيم منزلة الأبرار من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، وليس السياق لطمس ذرّة من عظيم منزلتهم، بل هو لوضع الحديث عن أصحاب الإمام الحسين، روحِ رسول الله، في موقعه الطبيعي.
وقف الصحابة الأبرار مع المصطفى صلّى الله عليه وآله، في الضرّاء والسرّاء، ووقف أصحاب الحسين عليه السلام، مع رسول الله صلّى الله عليه وآله -عبر موقفهم مع ثاني سبطَيه- في ضرّاء لا تجارى.
كان لأكثر الصحابة إقدام ونكوص، و﴿..زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ..﴾ الأحزاب:10، ﴿..وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا﴾ الأحزاب:11، ﴿..وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ..﴾ التوبة:25، إلى غير ذلك ممّا سجله القرآن الكريم، أو أثبتته السيرة، فإذا فيه الحديث عمّن ذهب في الفرار عريضاً!
ولم يكن للصحابة المحمّديّين الحسينيّين أدنى نكوص ولا زُلزلوا، فضلاً عن أن يكون الزلزال شديداً! ولم يسجَّل عن أحدهم أنه حدّث نفسه بفرار، فضلاً عن أن يذهب فيه عريضاً!
هكذا يمكننا أن نقارب فهم الوسام المحمّديّ الذي قلّده الإمام الحسين عليه السلام لأصحابه حين قال: «اللهمّ إنّي لا أعرف أهل بيت أبرّ، ولا أزكى، ولا أطهر من أهل بيتي، ولا أصحاباً هم خير من أصحابي».
ولعلّ في طليعة المعاني التي أراد سيّد الشهداء عليه السلام، إيصالها إلى الأمّة عبر هذا الوسام، أنّ أهل بيته ملحَقون بأهل البيت الذين أوصى بهم التنزيل والرسول، وأصحابه مُلحقون بالأبرار من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله، الذين اتّفق المسلمون على أن سموّ منزلتهم يأتي بعد أهل البيت عليهم السلام.
يؤكّد ما تقدّم عظيم حقّ أصحاب سيّد الشهداء على المسلمين جميعاً، وهو الحقّ الذي تصبّ روافد عديدة في تشكّل موجه الكربلائي المتلاطم، وفي ما يلي وقفة مع أبرز هذه الروافد مقتطفة من الكتاب المخطوط (في محراب كربلاء – الأصحاب) لسماحة الشيخ حسين كوراني.
يجسّد السياق الكربلائي موقع كربلاء من حركة الرسالات السماوية أبرز المحطات الفاصلة في مسيرة الأنبياء، بل في مسيرة سيّدهم صلّى الله عليه وآله، وليس وصول يزيد إلى موقع التحكّم بمصائر المسلمين إلّا استمراراً متقدّماً جدّاً لإجلاب الكفر القرشيّ الأمويّ بخيله ورَجِلِه في بدر وأحُد والأحزاب وغيرها، من الغزوات التي كان الهدف منها بصريح القرآن الكريم ﴿..لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ..﴾ الصف:8.
ولئن كانت بين حنين وفتح مكّة وما بعده، جولات للكفر وصولات، إلا أنّ جولة معاوية ويزيد كانت نتاج كلّ ما سبق، وبداية إعلان القضاء على الإسلام، ظناً منهما باكتمال طمس معالم التنزيل.
ولئن جسّدت الجهود النبويّة ما بين البعثة والوفاة، مرحلة صدّ كلّ الهجمات التي كانت تهدف إلى إطفاء نور الله تعالى، فقد جسّدت كربلاء -وهي المحمّدية بامتياز تخطيطاً ورعاية وتنفيذاً- الإعجاز المحمّديّ الإلهيّ، ولكن هذه المرة لا في اجتثاث أذرع القوّة لأخطار التحريف، كما كانت مهمّة أمير المؤمنين عليه السلام في مرحلة خلافته المباشرة، ولا في إتاحة الفرصة للأمّة لاكتشاف زيف هؤلاء الأمويّين المتباكين على الإسلام، وكشف زيف شيخهم وشيطانهم العاتي معاوية، كما كانت مهمّة السبط الأول الإمام الحسن عليه السلام، بل في اجتثاث القدرة على التحريف، وإعلان دفن كلّ المحاولات لطمس معالم الإسلام المحمّديّ وإلى الأبد، لتحقيق تحصين الأمّة من كل مخاطر المستقبل التي لا يقاس بها شيء من كلّ المخاطر الصغيرة -رغم خطورتها- التي حفل بها تاريخ البلاط «الإسلامي!»، وما يزال.
كربلاء هي ليلة القدر الثانية التي حفظ بها الله تعالى القرآن الكريم، الذي نزل على رسول الله صلّى الله عليه وآله في ليلة القدر، بل كربلاء هي القدر المحمّديّ الذي كان له موعدان متميّزان: فجر البعثة، ويوم العاشر من محرّم.
هذا بعض ما أراده المصطفى الحبيب صلّى الله عليه وآله للأمّة أن تعيه قلوبها بعد العقول، حين دعا إلى التعامل مع سبطَيه باعتبار كلّ منهما محمّد عصره، وخصّ سبطه الثاني بحديث: «حسين منّي وأنا مِن حسين»!
تقتضي فرادة السياق الكربلائي، أن يكون لكلّ نبيّ مع كربلاء حديث ذو شجون، وهو ما تؤكّده الروايات. ومن البديهيّ أن ترتفع وتيرة اهتمام الأنبياء بكربلاء -الأنبياء جميعاً- كلّما اقتربت اللحظة الكربلائية، فكيف تجلّت كربلاء في سيرة المصطفى الحبيب صلّى الله عليه وآله والحديث الشريف؟
غنيٌّ عن البيان أن كربلاء كانت مفصلاً بارزاً في السيرة وفي الخطاب النبويّين، إلّا أنّ ما تمسّ الحاجة إلى استلهام دروسه هو اهتمام الرسول الأعظم بأصحاب الإمام الحسين عليه السلام، وهو محور بالغ الأثر في فهم أبعاد كربلاء.
عن أبي جعفر (الإمام الباقر) عليه السلام، قال:
«قال الحسين بن عليّ عليهما السلام لأصحابه قبل أن يُقتَل: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، قال: يا بنيّ، إنك ستُساق إلى العراق، وهي أرضٌ قد التقى بها النبيّون، وأوصياء النبيّين، وهي أرض تدعى (عمورا)، وإنك تستشهَد بها ويستشهَد معك جماعة من أصحابك لا يجدون ألم مسّ الحديد، وتلا: ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾. تكون الحرب عليك وعليهم برداً وسلاماً. فأبشِروا: فوَاللهِ لئن قتلونا، فإنّا نرِدُ على نبيِّنا..».
وأورد السيّد البحراني عن ابن شهرآشوب قوله:
«وعُنِّف ابن عباس على تركه الحسين عليه السلام، فقال: إنّ أصحاب الحسين عليه السلام، لم ينقصوا رجلاً ولم يزيدوا رجلاً؛ نعرفهم بأسمائهم من قبل شهودهم».
أضاف السيّد: «وقال محمّد بن الحنفية: وإنّ أصحابه عندنا لمكتوبون بأسمائهم وأسماء آبائهم».
لم يكتفِ الرسول صلّى الله عليه وآله بالحديث عمّا يجري في كربلاء، ولا بإحضار تربتها وترك بعضها وديعةً ليُعرف من خلالها موعد شهادة سيّد الشهداء عليه السلام، ولا اكتفى صلّى الله عليه وآله بالإشارة إلى بعض الملامح الأساسية الهامّة في كربلاء، من قبيل تكنيته للإمام الحسين عليه السلام باسم أصغر أبنائه، حيث قال صلّى الله عليه وآله يوم ولادته: «عزيزٌ عليَّ أبا عبد الله»، بل إنّه صلّى الله عليه وآله ترك بركاته النبويّة حتى على التفاصيل. من ذلك أنّه صلّى الله عليه وآله، حثّ جمعاً بينهم أحد أصحاب الحسين، على نصرته عليه السلام:
«.. قال البخاري: أنس بن الحارث قُتل مع الحسين بن عليّ. سمع النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم... (سمعتُ رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم يقول: إنّ ابني هذا -يعني الحسين- يُقتَل بأرضٍ يقال لها كربلاء، فمَن شهِدَ ذلك منكم فلينصره)... فخرج أنس بن الحارث إلى كربلاء فقُتل بها مع الحسين...».
تؤكد مصادر الفريقين، أن الإمام عليّاً عليه السلام تصدّى كذلك للتمهيد لكربلاء، والروايات في هذا الباب متعدّدة. ومنها قوله عليه السلام: «وخير الخَلق وسيّدهم بعد الحسن ابني؛ أخوه الحسين المظلوم بعد أخيه، المقتول في أرض كرب وبلا: ألا وإنّ أصحابه من سادات الشهداء يوم القيامة».
وفي خبر ورود عليّ إلى كربلا، قال عليه السلام: «مناخ ركاب ومصارع شهداء، لا يسبقهم مَن كان قبلهم، ولا يلحقهم مَن أتى بعدهم».
وعن الإمام الصادق عليه السلام: «مرّ أمير المؤمنين عليه السلام بكربلاء في أناس من أصحابه، فلما مرّ بها اغرورقت عيناه بالبكاء، ثمّ قال: هذا مناخ ركابهم وهذا مُلقى رحالهم، وهنا تهرق دماؤهم، طوبى لكِ من تربة عليكِ تهرق دماء الأحبّة».
بل تؤكّد بعض النصوص أنّ من الصحابة مَن تصدّى للحثّ على نصرة سيّد الشهداء عليه السلام، قبل كربلاء بزمن طويل:
أورد الطبري عن الشهيد زهير بن القين عندما أراد اللحاق بسيّد الشهداء عليه السلام، قوله لأصحابه:
«مَن أحبّ منكم أن يتبعني وإلّا فإنه آخر العهد، إني سأحدّثكم حديثاً: غزونا (بَلَنْجَر) ففتح الله علينا وأصبنا غنائم. فقال لنا سلمان الباهليّ: (أفرحتم بما فتح الله عليكم وأصبتم من المغانم؟ فقلنا نعم. فقال لنا: إذا أدركتم شباب آل محمّد، فكونوا أشدّ فرحاً بقتالكم معهم بما أصبتم من الغنائم). فأمّا أنا فإنّي أستودعكم الله... ثم والله ما زال في أوّل القوم حتّى قُتل».
ويشير ما تقدّم إلى أنّ من الخطوط المستقبلية العامة التي ركّز عليها رسول الله صلّى الله عليه وآله، وأراد من الصحابة أن يواصلوا المسار فيه، خطّ التمهيد لكربلاء.
كما روي عن سلمان المحمّدي (الفارسي) رضوان الله تعالى عليه تأكيده على ما يجري في كربلاء عموماً، فعن المسيَّب بن نَجَبَة الفزاري أنّه قال: «لمّا أتانا سلمان الفارسي قادماً، تلقيّناه في من تلقّاه، فسار حتّى انتهى إلى كربلا، فقال: ما تسَمُّون هذه؟ قالوا: كربلا، فقال: هذه مصارع إخواني، هذا موضع رحالهم، وهذا مناخ ركابهم، وهذا مهراق دمائهم، يُقتل بها خير الأوّلين، ويُقتل بها خير الآخرين...».
من النصوص الفريدة والبالغة الدلالة على عظيم منزلة أصحاب الإمام الحسين عليه السلام، النصّ الذي ورد في أكثر من مصدر رئيس من مصادر أحداث كربلاء، وهو ما قاله فيهم رمز الخذلان والتآمر الكوفيّين عمرو بن الحجاج الزّبيديّ، قائد ميمنة عمر بن سعد في كربلاء، فلقد راعه ما رآه من بطولاتهم، وعرف أنّهم إنْ أُتيح لهم أن يواصلوا المبارزة فستكون النتيجة القضاء على كلّ من ينازلهم، ولذلك رفع صوته بالتحذير من مبارزتهم.
* قال الخوارزمي:
«فقال عمرو بن الحجاج -وكان على الميمنة: ويلكم، يا حُمَقاء، مهلاً! أتدرون مَن تقاتلون؟ إنّما تقاتلون فرسان المصر، وأهل البصائر، وقوماً مُستميتين، لا يبرُزَنَّ منكم أحد إلّا قتلوه على قلّتهم، والله لو لم ترموهم إلّا بالحجارة لقتلتموهم.
فقال ابن سعد: صدقت. الرأي ما رأيتَ، فأرسلَ في العسكر يعزم عليهم أن لا يبارز رجل منكم، فلو خرجتم وحداناً لأتوا عليكم مبارزة».
* وقال في (تجارب الأمم):
«فلم يزل يبارز الواحد من أصحاب الحسين، فيقتل عدّة من أصحاب عمر بن سعد، فقام عمرو بن الحجّاج رافعاً صوته: يا حَمْقى، أتدرون مَن تقاتلون؟ (تقاتلون) فرسان المصر، وقوماً مستميتين، والله لا يبرز لهم منكم أحدٌ إلا قُتل، لا تبرزوا لهم، فإنّهم قليل، وقلَّ ما يبقون، وقد جَهِدهم العطش. فقال عمر بن سعد: صدقتَ. وأرسَل في الناس فعزم عليهم أن: لا يبارز منكم رجل رجلاً منهم.
فأخذت الخيل تحمل، وأصحاب الحسين تثبت، وإنّما هم اثنان وثلاثون فارساً.
فقال عمر: ليتقدّم الرماة إلى هذه العدّة اليسيرة، فليرشقوهم بالنَّبل.
فتقدّموا، فلم يُلبثوهم أن عقروا خيولهم، فصاروا كلّهم رجّالة، وقاتلوا قتالاً لم يُرَ أعظم منه، ولا أشدّ، إلّا أنهم كانوا إذا صرع الواحد منهم، أو الاثنان، تبيَّن ذلك عليهم، وإذا قَتلوا أضعاف عدّتهم من أولئك لم يتبيَّن عليهم.
ووصل الناس إلى الحسين، وقاتل بين يدَيه كلُّ من استَهدف للنّبل، فرمي يميناً وشمالاً، حتى سقطوا، وجعل أصحابه يستقتلون بين يديه، ويسلّمون على الحسين، ويودّعونه، ثم يقاتلون حتى يُقتلوا».
ويكشف التعبير عن أصحاب الإمام الحسين عليه السلام، بـ«فرسان المصر»، عن موقعهم الاجتماعيّ المتميّز، فهم من سادة المجتمع ووجوهه البارزة، إذ المصر الذي هم فرسانه هو الكوفة التي كانت بمنزلة العاصمة الفعليّة للعالم الإسلاميّ، وكانت سِمَتها الأبرز التي تحدّد الموقع الاجتماعيّ، هي الجهاد والفتح، والتي كان الفرز الفرديّ والقبليّ يتمّ على أساسها.
وبديهي أن نتنبه إلى الربط في هذا المِصر آنذاك بين تلازم السابقة الجهادية، غالباً، مع سابقة الإسلام، بما تعنيه من صحبة رسول الله صلّى الله عليه وآله، أو مرتبة التابعين التي تلي الصحابة مباشرة، أو السير في نفس مدارج الصراط المحمّديّ ورَعاً، وفقهاً، وعبادة.
يوصلنا ذلك إلى استنتاج أنّ مصطلح «فرسان المصر» في ذلك المجتمع المجاهد، الذي لم يكن يفصله عن نزول الوحي إلّا ما يقرب من خمسين عاماً، كان يعني ما يدلّ عليه تعبير: أبرز وجوه المِصر وأركانه، وأنّهم اكتسبوا هذا الموقع بحكم خصائص، منها: جميل بلائهم في لَهَوات الحروب، حيث تتجلّى فروسية الفارس، ومنها طول المراس وشدّته، حيث لا يصبح المقاتل فارس المصر بمعزل عن تراكم الرصيد الجهادي، جولةً إثر جولة.
يقودنا ما تقدم تلقائياً، إلى تسجيل ملاحظة برسم الباحثين العسكريّين، حول عمق الحاجة إلى الدراسة المعمّقة لطبيعة المعركة في كربلاء، ومسارها، وهي رهن الإحاطة بالسابقة الجهادية النوعية لفرسان المِصر، ورهن التخصّص العسكري، والتدقيق في نصوص المبارزة والمواجهة.
إننا في الحديث عن أصحاب سيّد الشهداء عليه السلام، أمام قادة عسكريّين كبار، وفيهم من يمتدّ رصيده الجهادي إلى بدر، كما تجد في ترجمة الشهيد زهير بن سليم، أو مَن يحتمل في حقّه ذلك كالصحابيّ الشهيد أنس بن الحارث الكاهليّ، وغيره.
والأصل الأوليّ بالنسبة لمَن شهد بدراً الكبرى، أن يشهد ما بعدها مع رسول الله صلّى الله عليه وآله، وأن يشارك في بعض حروب الفتح، ليكون بعد ذلك -بدلالة حضوره في كربلاء- في طليعة المشاركين في حروب الإسلام ضد الانقلاب على الأعقاب الذي نجمت قرون ناكثيه وقاسطيه والمارقين، ضد خلافة أمير المؤمنين عليه السلام.
ولئن لم يكن أصحاب سيّد الشهداء عليه السلام جميعاً من الصحابة، فإنّهم بالتأكيد -بصورة مباشرة، أو غير مباشرة- خلاصة التجارب الجهادية كلها من بدر إلى كربلاء، ما يجعلهم بحسب المصطلح المعاصر كبار جنرالات العالم الإسلامي، مع فارق جوهري بين طبيعة المصطلح اللادينية اليوم في الغالب، وبين عمق تمازجه مع السابقة الإيمانية والمناقبية آنذاك.
* مشهد من عظيم جهاد فرسان المصر
«قيل لرجل شهد يوم الطف مع عمر بن سعد: ويحَك! أقتلتم ذريةَ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؟
فقال: عضضتَ بالجندل، إنك لو شهدتَ ما شهدنا لفعلتَ ما فعلنا، ثارتْ علينا عصابة، أيديها في مقابض سيوفها، كالأسود الضارية، تحطم الفرسان يميناً وشمالاً، وتُلقي أنفسها على الموت، لا تقبل الأمان، ولا ترغب في المال، ولا يحول حائل بينها و بين الورود على حياض المنيّة، أو الاستيلاء على الملك، فلو كففنا عنها رويداً لأتتْ على نفوس العسكر بحذافيرها، فما كنّا فاعلين لا أُمَّ لك؟».
ويضيء هذا النص على أنّ ما تقدّم من كلام عمر بن سعد برواية الخوارزمي «فلو خرجتم وحداناً لأتوا عليكم مبارزة» ليس من باب المبالغة التي دأب عليها كثير من الرواة، والتي من شأنها أن تضعف اندفاعة الباحث للتفاعل مع ما يتّسم بهذا الطابع، أو يلوح منه ذلك، فلقد كانت ثمّة خشية حقيقيّة من أن يتمكّن هؤلاء الرواسي من تحقيق ما لا يُستطاع عادة، وهو صريح قول القائل: «فلو كففنا عنها رويداً لأتت على نفوس العسكر بحذافيرها».
وقد أورد الطبري أبياتاً لقاتل الشهيد برير بن خضير، يتّصل بسياق الحديث منها، قوله:
ولم ترَ عينى مثلَهمْ في زمانِهــــم |
ولا قبلَهم في النـاسِ إذْ أنا يافـعُ |
أشدَّ قِراعاً بالسّيوف لدَى الوغَـــى |
ألا كلّ مَن يحمي الذِّمارَ مُقـارعُ |
وقد صَبروا للطّعنِ والضّربِ حُسَّراً |
وقـد نازلـوا لو أنّ ذلك نافـــعُ |
رغم أنّ في النفس شيئاً من أن يصدر هذا الوصف من أعمى البصيرة، الموغِل في العداوة والضّعة، ولكن الله تعالى قد يجري نشر فضيلة وليّه على لسان عدوّه، ثم إنّ ابن الحجّاج، وإن كان قد وشجتْ على الغدر عروقه، إلا أنّه كان حتّى ما قبل شهر من الزمن، من ثوابت مجلس الشهيد هانئ بن عروة، وكان لمثل هذا المصطلح في ذلك المجلس من قوّة الحضور بما يكفي أن يتلقّفه ولو ببّغاء، ثم إنّ هذا التعبير، وتعبير: «فقد اخضرّ الجَناب، وأينعتِ الثّمار، وطمّت الجمام» من وادٍ واحد، فلماذا نثبت ذاك، وننفي هذا؟
والبصيرة هي رؤية العقل والقلب للأمور كما هي، وعلى حقيقتها.
ويقوي صدور هذا التعبير من ابن الحجّاج، أنّ تعبير «البصائر» قد استعمل بنفس معناه في النصوص الجاهلية، وقد عزّز القرآن الكريم هذا المعنى إلى حدّ جعل «أهل البصائر» مصطلحاً قرآنياً بارزاً كان متداولاً في صدر الإسلام، بل وطيلة القرن الأول الهجريّ قطعاً، وعلى نطاق واسع، وكان يستعمله الصالح والطالح نتيجة الجوّ الثقافيّ العام، وسعة التداول والانتشار.
ومن الواضح أنّ من لوازم البصيرة، الثبات على الموقف مهما كان الثمن، فالبصيرة واليقين متلازمان، وهنا يكمن الربط بين التحذير الكوفيّ من أصحاب سيّد الشهداء باعتبار أنّهم أهل البصائر.
ولا بدّ أن نستوضح أنّ من دلالات هذا المصطلح في الوسط الذي يعيش مفاهيم القرآن الكريم أو تستجيب حركته الثقافيّة التلقائيّة لهُداه، أنّ مصاديقه هم القيمة العليا في المجتمع، والصفوة التي تنحني أمامها كلّ الهامات.
في ضوء ذلك يمكننا أن نقارب أحد أبرز الملامح الحقيقيّة لطبيعة المواجهة في كربلاء، وكيف كان معسكر الإمام تجسيد رسول الله والبررة من أصحابه، وكيف كان معسكر الكفر ركاماً بلا روح، وغثاءً بلا صفوة.
وكما يقود الشيطان خطى الفرد العارف بالحقّ في دروب التمرّد عليه، والطغيان، والتنكّر لمعرفته، عبوديةً للهوى والنزوات، فإنّه يقود خطى الجمع كذلك، مع فارقٍ نوعيٍّ في الشراسة والإسفاف ينشأ من استقواء كلّ فرد بغيره، فعبادة الهوى وعبادة الناس من حندسٍ واحد، لتكون النتيجة أنّ المقابل الطبيعي لأهل البصائر، هم جُند إبليس، الذين يستجيبون «لهتاف الشيطان الغويّ».
من أفضل النصوص تصويراً لما جسّده المعسكران، ما أورده الطبري في وقائع الليلة العاشرة، حيث قال:
«قال أبو مخنف: ...فلمّا أمسى حسين وأصحابه، قاموا اللّيل كلّه يصلّون، ويستغفرون، ويدعون، ويتضرّعون... فتمرّ بنا خيلٌ لهم تحرسنا، وإنّ حسيناً ليقرأ: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ..﴾ (آل عمران:178-179)
فسمعها رجلٌ من تلك الخيل التى كانت تحرسنا، فقال: نحن وربّ الكعبة الطيّبون، ميّزنا منكم.
قال [الراوي]: فعرفته، فقلت لبرير بن خضير: تدري من هذا؟
قال: لا. قلت: هذا أبو حرب السبيعي، عبد الله بن شهر.
وكان مضحاكاً بطّالاً، وكان شريفاً [أي وجيهاً] شجاعاً فاتكاً، وكان (سعيد بن قيس) ربما حبسه في جناية.
فقال له برير بن خضير: يا فاسق، أنت يجعلك الله في الطيّبين.
فقال له: من أنت؟ قال: أنا بُرَيْر بن خضير.
قال: إنا لله، عزَّ عليَّ، هلكتَ والله، هلكت واللهِ يا بُرير.
قال: يا أبا حرب، هل لك أن تتوب إلى الله من ذنوبك العِظام؟ فوالله إنّا لنحن الطيّبون، ولكنكم لأنتم الخبيثون.
قال: وأنا على ذلك من الشاهدين.
قلت [أي الراوي]: ويحك أفلا ينفعك معرفتك؟
قال: جعلت فداك فمن ينادم يزيد بن عذرة العنزي؟-من عنز بن وائل- ها هو ذا معي.
قال: قبّح الله رأيك على كلّ حال، أنت سفيه. ثم انصرف عنّا».
أهل البصائر إذاً، هم السابقون في ميادين اليقين الذي لا يشكّل يقين الموقف وثباته كالراسيات إلّا بعض تجليّاته الظاهرية، وأبعاده الترابية، التي يعجز الطين المسكون بحمأه المسنون عن إدراكه.
أهل البصائر بعدُ تجلّي الحّق الذي يصرّ الباطل وأهله على تنكّبه رغم الإقرار بأنّه الحقّ، تماماً كما رأيت هذا المضحاك البطّال ينحني إجلالاً للشهيد بُرير، مذعناً بأنه ومَن معه الخبيثون، وأنّ بريراً ومن معه الطيبون، ليؤكد بذلك أنّ الهوة بين النظرية والتطبيق، هي بعينها بين برير وسائر أصحاب الحسين عليه السلام، وبين أمثاله وكلّ اليزيديّين.
ويسجّل الشهيد حبيب بن مظاهر للأجيال، شهادته في أصحاب الحسين عليه السلام، ليضيء على مصدر البصيرة عند أصحاب الحسين عليه السلام أهلِ البصائر، مبيّناً أنه العبادة والتهجّد والذكر الكثير، وقد جاءت شهادته رضوان الله تعالى عليه، حين تحدّث مع «عزرة بن قيس» ومَن معه من طليعة الجيش المهاجم، عشية التاسع من محرم.
قال الطبري:
«فقال له حبيب بن مظاهر: أما واللهِ لبئس القومُ عند الله غداً، قومٌ يقدمون عليه قد قتلوا ذريّة نبيّه عليه السلام، وعترته، وأهل بيته صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، وعُبّادَ أهل هذا المِصر، المتهجّدين بالأسحار، والذاكرين الله كثيراً.
فقال له عزرة بن قيس: إنك لتزكّي نفسكَ ما استطعت.
فقال له زهير [بن القين وكان حاضراً]: يا عزرة، إنّ الله قد زكّاها، وهداها، فاتّقِ الله يا عزرة، فإنّي لك من الناصحين. أُنشِدكَ الله، يا عزرة، أن تكون ممّن يُعين الضُّلّال على قتل النفوس الزكية».
ويمكن التعامل مع نصّ الشهيد حبيب باعتباره مؤيّداً بامتياز لصدق وصف «أهل البصائر» على الأبدال الكربلائيّين، أصحاب الحسين عليه السلام.
قال الكشّي: «وكان حبيب من السبعين الرجال الذين نصروا الحسين عليه السلام، ولقوا جبال الحديد، واستقبلوا الرماح بصدورهم... والسيوف بوجوههم، وهم يعرَض عليهم الأمان والأموال فيأبون، ويقولون: (لا عذرَ لنا عند رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، إنْ قُتل الحسين ومنّا عينٌ تَطرف) حتى قُتِلوا حوله».
ومن الروافد التي تلتقي كلها لتظهّر أبعاد الحقّ العظيم لهؤلاء المحمّديّين النوعيّين على الأمّة الإسلامية، -بعد السياق الكربلائي، وأنهم مدّخرون لكربلاء، وأنهم فرسان المِصر، وأهل البصائر-أنّ أصحاب سيّد الشهداء عليه السلام، أقدموا على الشهادة وفاءً لرسول الله صلّى الله عليه وآله، في حفظ وصيّته بعترته، بملء اختيارهم، فلقد أذِن لهم الإمام الحسين عليه السلام، بأن يتفرّقوا، ولكنهم أصرّوا رغم ذلك على مواجهة القتل، دون أدنى تردّد بل بمنتهى اللهفة والسعادة.
أورد الطبري أنّ الإمام الحسين عليه السلام، قال لأصحابه:
«ألا وإنّي أظنّ يومنا من هؤلاء الأعداء غداً، ألا وإنّي قد رأيت لكم فانطلقوا جميعاً في حِلّ، ليس عليكم منّي ذِمام، هذا ليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً».
وفي (أمالي) الشيخ الصدوق:
«وقد نزل بي ما قد ترون، وأنتم في حلِّ من بيعتي، ليست لي في أعناقكم بيعة، ولا لي عليكم ذمّة، وهذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً، وتفرّقوا في سواده، فإنّ القوم إنما يطلبونني، ولو ظفروا بي لذُهلوا عن طلب غيري».
لقد اختار أصحاب الحسين عليه السلام الموقف الصعب في الزمن الصعب، وهو ما جعلهم يستلينون ما استوعره المترَفون، فيبذلون مهجهم وفاء لرسول الله صلّى الله عليه وآله، التزاماً واعياً بحقيقة توحيد الله تعالى.
وأبى الإمام الحسين عليه السلام، إلّا أن يكشف للأجيال أنّه كان مصرّاً على الشهادة حتى لو بقي من اللحظة الأولى وحيداً، وأن يكشف عليه السلام -أيضاً- ببالغ لطفه وغامر حنانه المحمّديّين الإلهيّين، أنّ معدن هؤلاء الكربلائيّين من نفس الطينة التي خلق الله تعالى منها سادة الواصلين إلى المصطفى الحبيب وآله الأطهار صلّى الله عليه وعليهم، كسلمان والمقداد وعمّار وأبي ذرّ، رضوان الله عليهم أجمعين.
ومن الواضح أنّ فرق العظمة كبير بين أن يُقدم أهل البصائر وعبّاد المصر وفرسانه على الشهادة بملء اختيارهم، وبين أن يكون تكليفهم الشرعي قد حتّم عليهم ذلك لوجودهم مع سيّد الشهداء في تلك الظروف المصيريّة.
ومن تسطيح الأمور أن نتصوّر أننا ندرك بعيد غور هذا الإقدام، فضلاً عن بعيد غور طبيعة البناء النفسي لتلك (النفوس الزكيّة).
وربما أقنعَنا بما تقدّم أن نسمع شيئاً من ملاطفاتهم على أبواب العبور الخالد إلى دار الخلود، كما يروى عن الشهيد برير رضوان الله تعالى عليه، أو نصغي إلى إعجاز حال بعض خصائص سيّد الشهداء كلّما اقتربت ساعة الشهادة، لندرك أنّنا بين يدي مصاديق الحقيقة المحمّدية (منّا أهل البيت) الذين وصفهم في ما روي عنه صلّى الله عليه وآله بأنّهم ( من سادات الشهداء يوم القيامة) ووصفهم أمير المؤمنين عليه السلام بأنّهم (لا يسبقهم من كان قبلهم، ولا يلحقهم من أتى بعدهم) فغدوا حَواريّي بيوتٍ أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، وخصائصَ الذين جعلهم الله تعالى سرَ بيته الحرام، وكعبته الباطنة، وحجّته على خلقه، والأدلّاء إليه، وصراطه المستقيم.
ولقد أدّى أصحاب سيّد الشهداء عليه السلام المهمّة الجسيمة التي تنوء بحملها الجبال، بل تشفق من حملها فضلاً عن أدائها، لتبدأ مسؤولية الأجيال المحمّدية الأصيلة من بعدهم من محرابهم، وعلى الأعتاب، وهي مسؤولية ذات أبعاد ثلاثة:
1- أن تجيد الأجيال الإصغاء إليهم.
2- وتُحسن الاقتداء بهم كمظهر لحُسن التأسّي بمن جعله الله تعالى الأسوة الحسنة، وبآله الأطهار الذين هم من الحقيقة المحمّدية كالضوء من الضوء.
3- ويتوقف ما تقدّم على عقد القلب على حبّهم وولايتهم، وذلك وحده المدخل -كما يأتي بيانه- إلى جودة الإصغاء، وحسن الاقتداء.
هذا الحقّ العظيم لأصحاب الحسين عليه السلام على كلّ مسلم، بل وعلى كلّ الناس بأجيالهم، تتنازع تضييعه عوامل شتى تتراوح بين الجهل المطبق بهم من غير المؤمنين، وبين الجهل بأكثرهم من المؤمنين، وإن كان للجميع في قلب كلّ مؤمن من الموقع ما يجعله ببركة تعليم أهل البيت عليهم السلام، يسلّم عليهم كلّما سلّم على أبي عبد الله، ويذكرهم في الغالب عند ذكره عليه صلوات الرحمن.
وطبيعي أن تكون الأولوية في مجالس كربلاء ومجالات العناية بوقائعها لما يرتبط بسيّد الشهداء، والأوائل من أهل بيته عليهم السلام، ولكن ذلك لا يفسّر تغييب الأصحاب عن دائرة الاهتمام.
وهل يكفي أن يجري الوقوف أحياناً عند سيرة بعضهم، فيما لا يرد ذكر هذا البعض غالباً إلّا في سياق سرد الأحداث؟
كانت النتيجة أنّ أكثر شهداء كربلاء مجهولون، وكأنّه يراد للعلاقة بهم أن تبقى ضبابية، تتحرك في نطاق العموميات.
ولا يلغي هذا الخلل عدم وفرة المعلومات عن الأصحاب، بل يكشف بدوره أنّ التقصير تجاههم مزمن وليس طارئاً.
(ولولا بعض الدراسات القليلة والجادة، لظلّ هذا البعد بكراً لم يُمَسّ، علماً بأن هذه الدراسات لم تتكفّل استقصاء سيرتهم جميعاً، ولا كلّ ما توفّر مما يرتبط بمن شملته منهم.)
ولا بدّ هنا من تسجيل ملاحظة هامّة، هي أنّ من فوائد مكننة المعلومات التاريخيّة والإسلامية عموماً، إتاحة فرصة فريدة للبحث الأوسع حول أصحاب الحسين عليه السلام.
ولئن كانت الثغرات ما تزال كبيرة رغم أهمية الإنجازات، إلّا أّن ذلك يكشف عما يحمله الغد للباحث في هذا المجال وغيره.
وينتهي بنا المطاف تلقائيّاً إلى تحديد بداية التولّي الذي هو صِدق الانتماء إلى رسول الله، وبدايته لكلّ مسلم، بالهجرة المحمّدية إلى الحسين عليه السلام، للوصول بهَدْي رسول الله إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله، بما يجسّده هذا الوصول من طاعة الله تعالى.
ويكون البدء بامتياز ببناء العلاقة بأصحاب سيّد الشهداء، ليمكن التأسيس الحقيقي بذلك لبذل المهجة، الذي لا مجال للدخول في الحرم المحمّديّ إلا به.
قال الحسين عليه السلام: «مَن كان باذلاً فينا مهجته، وموطِّناً على لقاء الله نفسه فليرحل (معنا)، فإنّي راحلٌ مصْبحاً إن شاء الله».
ويشير إلى ذلك بوضوح ما ورد في زيارة عاشوراء المرويّة عن الصادقَين عليهما السلام:
«وثبّت لي عندك قدم صدقٍ مع الحسين وأصحاب الحسين، الذين بذلوا مُهَجَهم دون الحسين عليه السلام».
وما ينبغي التركيز عليه في هذا المجال، هو أنّ العلاقة بأصحاب الحسين عليه السلام، ترتبط بصميم تهذيب النفس ارتباطاً جذرياً، يستحيل معه الفصل بينهما استحالة الفصل بين تهذيب النفس وحبّ رسول الله صلّى الله عليه وآله، ذلك أنّ هذه العلاقة بالأصحاب في جوهرها ليست إلّا الحب الموصِل إلى مَن هو مِن رسول الله، ورسول الله صلّى الله عليه وآله منه. «حسين منّي وأنا من حسين».
وبناءً عليه، فإنّ خسارتنا فادحة جداً، حين يقتصر فهمنا للعلاقة بأصحاب سيّد الشهداء عليه السلام على استلهام دروس الجهاد، وحبّ لقاء الله تعالى بفيض دم الشهادة، فإنّ ذلك -على عظيم بلائه- ليس إلا ثمرة الشجرة المباركة التي تؤتي أُكُلها كلّ حينٍ بإذن ربها، الشجرة المحمّديّة: القرب العظيم: ﴿..وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ..﴾ الأنفال:17. و«الخُلق العظيم». و«الفعل العظيم». ﴿..لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ..﴾ آل عمران:81. ﴿..رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ الأنبياء:107.
لقد وجد يعقوب ريح يوسف لمّا فصلت العِير، ولمّا جيء بقميصه ارتدّ بصيراً، أفلا يجد المحمّديّ الصادق ريح المصطفى الحبيب في أصحاب الحسين عليه السلام؟!
وكما هو الفرق بين أهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وآله، وبين الأبرار من الصحابة، كذلك هو الفرق بين أصحاب سيّد الشهداء وأهل بيته، كما تقدّم.
إنْ أدرك القلب فيهم هذه المحمّدية البيضاء بمراتبها، أمكنه أن يبصر بهم، فيهتدي الطريق إلى مكارم الأخلاق المحمّديّة.
لا تتلخّص العلاقة بأصحاب الحسين عليه السلام -إذاً- باستلهام الدروس والعِبر، فهي كلماتٌ عامّة يمكن انطباقها على كلّ مَن يلفت موقفه القلب، فيجد نفسه مشدوداً إلى جميل فعله، بل يشكّل هذا الاستلهام بداية العلاقة بالأصحاب، ليتنقل القلب في هدى العقل بعد ذلك في مدارج ولايتهم، باعتبار أنّهم من سادة الموالين لسيّد الرسل وآله الأطهار صلّى الله عليه وعليهم.
* ويتّضح لنا ذلك بما لا مزيد عليه حين نقف عند الأسس التالية:
1) الإيمان رهن الحبّ: ليس الإيمان بالله تعالى إلا صدق حبّه عزّ وجلّ، ولا يكون الحب لله تعالى صادقاً إلا بحبّ رسول الله، من هنا فإن الإيمان رهن الحبَ لرسول الله صلّى الله عليه وآله، لا يجوز لغير المحبّ ادّعاؤه، وهو صريح القرآن الكريم: ﴿..أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ..﴾ التوبة:24.
وقد قال صلّى الله عليه وآله: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من نفسه».
ويدور الإيمان بعد ذلك ومعه مدار حبّ أهل البيت عليهم السلام، كما هو صريح الأمر بالمودّة في القربى، والمرويّ عن رسول الله صلّى الله عليه وآله، ومنه: «...وتكون عترتي أحبَّ إليه من عترته، ويكون أهلي أحبَّ إليه من أهله...».
2) حبّ مُحبّهم: والسبب فيه أنّ صدق حبّ المصطفى وآله، صلّى الله عليه وآله، يدور مدار حبّ مَن يحبّهم ومعاداة مَن يعاديهم.
3) الولاية لسادة المحبّين الموالين: من أوضح تجلّيات حبّ الله تعالى، حبُّ رسول الله وأهل بيته صلّى الله عليه وعليهم، باعتبار أنّهم أقرب الخلق إليه وسادة المحبّين له تقدّست آلاؤه، ومن الواضح أنّ حبّه عزّ وجلّ لا يكتمل في قلب إنسان إلّا بولاية الله تعالى، التي تعني الانقطاع إليه عمّا سواه، فالولاية هي ثمرة الحب وعلامتها الاتّباع، ولكلٍّ مولاه، الذي يكشف عنه سلوكه الناظم لمفردات الاتّباع.
وكما لا يكتمل حبّه سبحانه إلّا بالولاية، فكذلك هو الحال في كلّ حبّ يتفرّع عليه، فلا يكتمل حبّ رسول الله وآله صلّى الله عليه وعليهم، إلّا بولايتهم، كذلك لا يكتمل حبّ الموالين لهم إلّا بولاية هؤلاء الموالين، ولا فرق بين السابق منهم في ذرى الحبّ واللاحق له في ما دونها من الرتب، إلّا بمرتبة الولاء.
نعم، ثمّة فرق بين السابقين إلى قمم الحبّ المحمّديّ، ومَن عداهم، هو فارق التشخّص، وإمكانية التعيّين، أي أنّه يمكن أن يقال عنهم: إنّهم سادة الموالين لرسول الله وأهل بيته، صلّى الله عليه وآله.
وقد ورد الحثّ على ولاية سادة الموالين هؤلاء، في سياق الحثّ على ولاية المصطفى الحبيب وعترته، والبراءة من أعدائهم.
روي عن الإمام الصادق عليه السلام، أنّه قال:
«حبّ أولياء الله واجب، والولاية لهم واجبة، والبراءة من أعدائهم واجبة، ومن الذين ظلموا آل محمّد صلّى الله عليهم وهتكوا حجابه، وأخذوا من فاطمة عليها السلام (فدك)، ومنعوها ميراثها، وغصبوها وزوجها حقوقهما، وهمّوا بإحراق بيتها، وأسّسوا الظلم، وغيّروا سنّة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم. والبراءةُ من الناكثين والقاسطين والمارقين واجبة، والبراءةُ من الأنصاب والأزلام أئمّة الضلال وقادة الجَور كلّهم أوّلهم وآخرهم واجبة، والبراءةُ من أشقى الأولين والآخرين شقيق عاقر ناقة ثمود قاتل أمير المؤمنين عليه السلام واجبة، والبراءةُ من جميع قتلَة أهل البيت عليهم السلام واجبة. والولاية للمؤمنين الذين لم يغيّروا ولم يبدّلوا بعد نبيهم صلّى الله عليه وآله وسلّم واجبة، مثل سلمان الفارسيّ، وأبي ذر الغفاريّ، والمقداد بن الأسود الكنديّ، وعمّار بن ياسر، و جابر بن عبد الله الأنصاريّ، وحذيفة بن اليمان، وأبي الهيثم بن التيهان، وسهل بن حنيف، وأبي أيوب الأنصاريّ، وعبد الله بن الصامت، وعبادة بن الصامت، وخزيمة بن ثابت ذي الشهادتين، وأبي سعيد الخدريّ، ومَن نحا نحوهم وفعل مثل فعلهم، والولايةُ لأتباعهم والمقتدين بهم وبهداهم واجبة».
ولا شكّ أنّ أصحاب الحسين عليه السلام، في طليعة مَن نحا نحو البررة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله، ورضوان الله تعالى عليهم، فتكون ولايتُهم ولايتَهم، والبراءةُ من أعدائهم، البراءةَ من أعدائهم.
4) أين حواريّو الحسين؟ والعنصر الرابع من عناصر ترقّي القلب في خّط العقل في مدارج ولاية أصحاب الحسين عليه السلام، هو أنّهم حواريّو سيّد الشهداء، كما كان الحواريّون أنصار النبيّ عيسى عليه السلام.
روي عن الإمام الكاظم موسى بن جعفر عليهما السلام:
«إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: أين حواريُّو محمّد بن عبد الله رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، الذين لم ينقضوا العهد ومضوا عليه؟ فيقوم سلمان والمقداد وأبو ذرّ.
قال: ثم ينادي: أين حواريّو عليّ بن أبي طالب وصيّ محمّد بن عبد الله رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؟
فيقوم عمرو بن الحمق الخزاعيّ، ومحمّد بن أبي بكر، وميثم بن يحيى التمّار مولى بني أسد، وأوَيْس القرني.
قال: ثم ينادي المنادي أين حواريّو الحسن بن علي وابن فاطمة بنت محمّدٍ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ فيقوم سفيان بن أبي ليلى الهمدانيّ، وحذيفة بن أُسَيْد الغفّاريّ.
قال: ثم ينادي أين حواريّو الحسين بن عليّ؟ فيقوم كلّ مَن استُشهد معه ولم يتخلّف عنه...».
فهُم حواريّو الحسين عليه السلام وأنصاره إلى الله، مع فارق أن هؤلاء الحواريّين قدّموا أرواحهم وتشظّي الأجساد فداءً لرسول الله صلّى الله عليه وآله، عبر فداء الحسين عليه السلام، وكان كلّ ذلك منهم على وَجَلٍ من أن يكونوا قصّروا في أداء حقّ المصطفى الحبيب صلّى الله عليه وآله.
عن أبي عبد الله عليه السلام، قال:
«إنّ حواريّي عيسى عليه السلام كانوا شيعته، وإن شيعتنا حواريّونا، وما كان حواريّ عيسى بأطوع له من حواريّنا لنا، وإنّما قال عيسى عليه السلام للحواريّين: ﴿..مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ..﴾ فلا وَاللهِ ما نصروه من اليهود، ولا قاتلوهم دونه، وشيعتُنا، واللهِ، لم يزالوا منذ قبض اللهُ عزّ ذِكره رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ينصروننا ويقاتلون دوننا ويُحرَقون ويُعذَّبون ويُشَرَّدُون في البلدان، جزاهم الله عنّا خيراً. وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام: والله لو ضربتُ خيشوم محبّينا بالسيف ما أبغضونا، وواللهِ لو أدنيتُ إلى مبغضينا وحثوت لهم من المال ما أحبّونا».
وإذا كان مَن يصدق في نصرتهم، حواريَّيهم عليهم السلام، ولو لم يُستشهد كما يدلّ عليه قول الصادق عليه السلام: «ويشرّدون في البلدان»، فما هو حال من كان من أهل البصائر تزول الجبال ولا يزول، ويقدم على الشهادة فرحاً بالفوز المبين، مشفقاً من عدم الوفاء لرسول الله صلّى الله عليه وآله، ولسان الحال: أوفيتُ يا ابن رسول الله؟!
لا بدّ، إذاً، في التعامل مع أصحاب الحسين من أن يعي العقل والقلب أنّهم حواريّو سيّد الشهداء، وأنصاره إلى الله، في ما لم يقدِم الحواريون على مثله، وبديهي أن يقود ذلك البصيرة إلى آفاق عظمة حسينية في الأصحاب مترامية الأطراف.
لو كان نزول القرآن الكريم بعد كربلاء، كنا نقرأ فيه ما يخلّد مواقفهم رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.
5) بين الرواة والأصحاب: حين نحطّ الرحال على أعتاب الرواة الذين لم يبدّلوا من صحابة رسول الله صلّى الله عليه وآله، وحواريّي كلّ من أهل بيته المعصومين، نتعامل بيسر مع قمم في العلم واليقين، وهذا طبيعي جداً، إلا أنّ ما ليس طبيعياً أبداً أن نتعامل مع أصحاب الحسين عليه السلام، من خلال البعد الجهادي وحده، أو بإضافة البعد العبادي أحياناً وربما بشكل عابر، ولا نتنبّه إطلاقاً إلى أنّ شهادة الشهيد ثمرة علم يمتاز عن كلّ ألوان العلم التي تنفصل عن العمل، فهو نتاج مخاض شديد في بناء النفس، وكدحٍ إلى الله، وكبَدٍ دائبين دائمين، تبلورت خلالهما معرفة لا انفصام فيها فيؤدّي إلى انفصام الشخصية، ولا فجوات تعتريها فيستلبها هول الفجوة بين النظرية والتطبيق.
ولئن استبدّت بالعظيم الكربلائي الحرّ الرياحي عرواء كالأَفكَل، فإنَما كان ذلك كاشفاً عن وقت إيناع الثمرة، وعن إمكانية طيّ المراحل فيه، لأنّ تعاهد البذرة فالغرسة ثم الشجرة بالرعاية، كان بحيث لا يليق بمثل صاحبه إلا أن تُتاح له فرصة الوصول إلى الحسين عليه السلام، ليكون في عداد خير الأصحاب.
ومع كلّ ومضة من تلك الرعدة العرواء، يُخَيَّل إليك انهيار ردم من السدّ الذي كان يفصل بين النظرية والتطبيق، ليملأ تلك الهوّة التي كانت تشطر العقل عن القلب، وتتسبّب بهذا الفصام الذي جعل القلب الكوفيّ مع الحسين، والسيف عليه.
ومَن لم يجتَزْ تلك المسافة بطيّ المراحل في ساحة المعركة، فقد اجتازها على مشارفها كالشهيد زهير، أو في الطريق الحسينيّ الطويل من بارقة حبّ الشهادة وصولاً إلى ساعة الصفر.
ليس الشهيد صِفْرَ اليدين من المعرفة، كما قد يحلو للتنظير الجاهل أن يتقوَّل.
وليست مشكلة غير الجاهل أن يحلّ المعضلة التي أوقعه الجهل في طخيائها، فأوثق نفسه بشِباك الحيرة في تفسير الفعل الاستراتيجي للشهيد.
صفر اليدين من المعرفة هو أعمى العقل وأعشى القلب، الذي يظنّ أنّ الفكر والثقافة والعلم والمعرفة قدرة سبك وجودة بيان ومخزن معلومات.
لو كان الأمر كذلك لكانت رفوف الكتب هي الأعلم، ولكان الحاسوب الآليّ سيّد العلماء.
المثقّف هو العامل بما يصقل النفس ويُمكِّن حدّها من الجري وقرارها من الفري، والعالم هو الذي ينفّذ أكثر ممّا يلقّن، وربّ عالم بذَّ العلماء أجمعين، وهو لا يكاد يبين حديثاً.
قال الصادق عليه السلام: «تجد الرجل لا يخطئ بلامٍ ولا واو، خطيباً مِصْقَعاً ولَقلبُه أشدّ ظلمة من الليل المظلم، وتجد الرجل لا يستطيع يعبّر عما في قلبه بلسانه، وقلبُه يُزهِر كما يُزهِر المصباح».
وهل يزهر هذا القلب إلاّ لاجتنابه ما كبر مقتاً عند الله تعالى؟
وقال عليه السلام: «لا يقبل الله عملاً إلّا بمعرفة، ولا معرفة إلّا بعمل، فَمن عرف دلّته المعرفة على العمل، ومَن لم يعمل فلا معرفة له. ألا إنّ الإيمان بعضُه من بعض».
هذا التماهي بين العلم والعمل هو بالتحديد نقطة الامتياز في كلّ من الرواة الحواريّين، والشهداء الحواريّين مع سبق للشهداء ساحته الميدان والوسام الشهادة.
لا يهدف ما تقدّم إلى التقليل من سموّ منزلة الرواة الأبدال، ولكنه يهدف بوضوح إلى توكيد نوعية العلم الذي كان الشهداء في كربلاء حملته والرواة، لتصغي كل الأجيال في مدرستهم إلى فريدة التماهي بين العلم والعمل.
ولئن كان المُخبِتون من الرواة الأبدال «أمناء الله على حلاله وحرامه، لولا هؤلاء انقطعت آثار النبوّة واندرست»، فما هي مرتبة الأصحاب الذين صدَقوا ما عاهدوا الله عليه كالرواة النجباء، وزادوا عليهم أنّهم قضوا في سبيل ذلك في وقت عزّ فيه النصير، ولو لم تكن إلّا رواية فيض الوريد الممتزج بدم الحسين وأهل البيت عليهم السلام، لكفى.
من الدّقة في مقاربة سيرة أصحاب الحسين عليه السلام، التنبّه إلى أنّ العلماء بالمعنى المبتدَع الذي لا نعرف عادة غيره، مَعْلمٌ كربلائيّ في سيرتهم شديد الوضوح، ولكنّ الغفلة عنه أيضاً شديدة.
وسيتّضح من تراجمهم ما يكشف أنّنا في محرابهم بين يدي وفرة من قمم الصحابة والرواة الشهداء.
6) بين الزوار والباكين، والأصحاب: يفتخر المحمّدي حين يحمله الوفاء لرسول الله صلّى الله عليه وآله، بأجنحة الحبّ إلى حرم الحسين عليه السلام.
كما هو الحنين إلى الشهادة مُنية العمر، كذلك هي زيارة الحسين لدى المحمّديّين، فهو عليه السلام جوهر المحمّديّة البيضاء، وسفينة النجاة من بحر الهوى إلى شاطئ السلامة والإسلام والأمن والإيمان.
حقاً ما هو عظيم الثواب لزوّار الحسين؟
بديهيٌّ أن تكون لكلّ نوع من الزوّار مرتبة من الوعي والإخلاص، أو المعرفة الحقيقية، وأن يكون لتلك المرتبة ما يناسبها من الثواب، إلّا أنّ الأدنى في هذا الثواب بالغ الخصوصية.
لغة الروايات في هذا الباب -كما تعلم- صريحة في أنّ للزائر ثوابَ من حجّ واعتمر، وغزا، أو أنّ له المغفرة، أو مَن زار الحسين فله الجنّة، أو ما يشبه هذه العناوين ويتدرّج فيها.
والسؤال هنا: إذا كان زوّار الحسين عليه السلام يبلغون مدارج كلّ هذه العظمة، فكيف هي عظمة مرتبة أصحاب الحسين الذين بذلوا مهجهم دونه عليه السلام؟
ينبغي الالتفات دائماً إلى أهمّية الانتقال من ثواب الزوّار، إلى المقارنة بينه وبين ما لا يمكن لعقولنا أن تدركه من سموّ منزلة خير الأصحاب رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.
كما ينبغي أن تتمّ هذه النّقلة عندما نسمع أو نقرأ عن ثواب البكاء على الحسين، لتجري أيضاً المقارنة بين ثواب البكاء على سيد الشهداء، وبين ثواب من قدّم دمه وروحه فداء لما يجسّده الحسين من محمّديّةٍ هي فرادة العبوديّة والتوحيد، وهي الهدف الذي مضى في دربه كلّ النبيّين.
7) بين شهداء المقاومة وشهداء كربلاء: ما تقدّم قد يطرح تساؤلاً عن الفرق بين شهداء كربلاء بين يدي إمام زمانهم، وبين كلّ الشهداء في سبيل الله تعالى في الدّرب المحمّديّ الحسينيّ.
ولا بدّ من تثبيت أنّ الفرق بينهم هو الفرق بين مَن كانت كربلاء به كربلاء، وبين مَن وجد أمامه القدوة في الجهاد وحبّ الشهادة، والتضحية والفداء، فحرص على الاقتداء.
يجسّد الحسين عليه السلام في كربلاء الرسالة والرسول، ويجسّد الأصحاب التزام الإيمان والدفاع عنه بأغلى ما يستطاع، وبهذين التجسيدين معاً أتيح للمسلمين النموذج الكربلائي، والنهج المحمّديّ الذي ينبغي أن يسلكوه.
وفي حين كان الإصرار الأمويّ ينصبّ على اغتيال الإمام الحسين، وعدم تمكينه من خوض مواجهة مع النظام، كان الإمام عليه السلام مصراً على المواجهة، لأنّها الخيار الوحيد الذي ترك له لإيصال النداء المحمّديّ إلى الأجيال حول التحريف والتزييف الأمويّين.
وبهؤلاء الأصحاب العظماء تحقّق للإمام الحسين ما أراد، فكانت كربلاء، واكتملت للأجيال القدوة الأمثل في طاعة رسول الله صلّى الله عليه وآله، وحُسن اتّباعه في الوقوف مع الحسين عليه السلام.
لا مجال إذاً للمقارنة بين شهداء كربلاء، وكلّ الشهداء في نفس الدرب في عصر الغيبة الكبرى، إلّا من باب التأمّل في حسن الاقتداء.
إلّا أنّ ما يجدر الوقوف عنده، هو المقارنة بين ما ندركه أو نحسّ به من عظمة الشهداء الذين اقتدوا بشهداء كربلاء، وبين عظمة خير الأصحاب.
0
أيـــــــــــــــــــــــــن الرَّجبيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــون؟ يستحب في شهر رجب قراءة سورة التوحيد عشرة آلا مرة..
يدعوكم المركز الإسلامي- حسينية الصديقة الكبرى عليها السلام للمشاركة في مجالس ليالي شهر رمضان لعام 1433 هجرية. تبدأ المجالس الساعة التاسعة والنصف مساء ولمدة ساعة ونصف. وفي ليالي الإحياء يستمر المجلس إلى قريب الفجر. نلتمس دعوات المؤمنين.