خُلِقنا للسّعادة الدّائمة
اللّطف الإلهي في تحصيلها
_____العالم الربّاني الشيخ حسين البحراني قدّس سرّه______
لا ريب أنَّ هذه الأعمار القصيرة والمدّة القليلة لو استُغرِقَت بالعبادة بحيث لم يُعصَ الله تعالى فيها طرفة عين، فهي مع ذلك قاصرة وناقصة بالبداهة والضّرورة عن الأهلّيّة للمقابلة ومقام المعاوضة والمجازاة.
موعظة من كتاب (الطّريق إلى الله) للعالم الشيخ حسين البحراني قدّس سرّه، في علّة الكرم الإلهي بمضاعفة جزاء الأعمال في الدُّنيا لملاءمة النِّعَم في الآخرة. |
إعلم أنَّ الإنسان خُلِق للحياة الدّائمة والعيش السّرمدي، وعمر الآخرة لا نهاية له، وقد جعل الله تعالى هذه الدّنيا مزرعةً للآخرة، ورتّب الجزاء في الآخرة على الأعمال في هذه الدُّنيا، فكان تأهُّل العباد لتلك السّعادة الأبديّة بهذه الأعمال الدّنيويّة.
ولا ريب أنَّ هذه الأعمار القصيرة والمدّة القليلة لو استُغرِقَت بالعبادة بحيث لم يُعصَ الله تعالى فيها طرفة عين، ولم يُصرَف مقدار نَفَسٍ من الأنفاس إلّا في طاعة الله، فهي مع ذلك قاصرة وناقصة بالبداهة والضّرورة عن الأهلّيّة للمقابلة ومقام المعاوضة والمجازاة.
فلا بدّ، بمقتضى الرّأفة الإلهيّة والرّحمة الرّبّانيّة، أن يَفتح لهم أبواباً من أبواب كرمه يؤهِّلهم بها لمقام الجزاء بما لا انقضاء له ولا فناء، إذ كلُّ نِعَمِه ابتداء، وكلُّ إحسانه تفضُّل.
ممّا أَنعم به على عباده
فأوّل ما تفضَّل به عليهم بجوده وكرمه أن جعل أعمالهم غير منقطعة بانقطاع آجالهم، ولا منتهية بانتهاء مُدَدِهم، بحيث جعلها يمكن أن تكون منطبقة على عمر الدّنيا، ومستغرقة لأيّام العمل ووجود العاملين، وذلك بأن جعل من أحكام دينه أنَّ مَن سنَّ سُنّة هدًى فله أجرها وأجر مَن عمل بها إلى يوم القيامة، كما أنَّ مَن سنَّ سُنّة ضلالة فعليه وِزْرها وَوِزْر مَن عمل بها إلى يوم القيامة.
كذلك جَعَل من أحكامه أنَّ الوالدين شركاء مع أولادهما في ما يعملون من أعمال الخير بمقتضى التّسبُّب والعلّيّة للوجود، وهذه سلسلة غير منقطعة.
وكذلك جعل ثواب بعض الأعمال أن يخلق منها ملائكة يعبدون الله إلى يوم القيامة، ويكون ثواب عبادتهم لصاحب العمل.
وفتح لهم باب التّنزيل، فنزَّل العمل ليلة واحدة بمنزلة العمل في ألف شهر، بل أخبر الله سبحانه فقال: ﴿ليلة القدر خيرٌ من ألف شهر﴾ القدر:3.
وجعل تفكُّر ساعة بمنزلة عبادة ستّين سنة، على ما في بعض الرّوايات.
وجعل قضاء حاجة المؤمن يعدل عمل تسعة آلاف سنة صائماً نهارها قائماً ليلها.
وجعل صيام ثلاثة أيّام من كلّ شهر قائمةً مقام صيام الدّهر.
كلُّ ذلك تعطُّفاً منه على عباده المؤمنين وتفضُّلاً، ليؤهِّلهم لأن يصلوا إلى استغراق عمر الدّنيا بالطّاعة، حتّى يكون لهم شوق التّأهُّل بهذه المرتبة النّفيسة بجوده وكرمه.
ثمَّ ذلك قليل في جنب ما يريد أن يؤهّلهم عن استغراق الأمد والسّرمد بالعبادة والطّاعة له عزَّ وجلَّ؛ فجعل نيّات المؤمنين أن لو خُلِّدوا في الدّنيا لداموا على طاعتهم لله عزَّ وجلَّ فأثابهم على ذلك ثواب الدّائمين على طاعته، وجعل جزاءهم على هذه النّيّات الخلود في الجنّة.
كما أنَّ الكفّار بسوء نيّاتهم لو داموا لداموا على معصيته، جعل جزاءهم الخلود في عقابه.
*****
فيا أيُّها الأخ المسترشد، إعلم أنَّ أعمالك مبنيّةً على الدّوام لا على الإنقطاع، وإن كنت تراها منقطعة، ففي بعض الأخبار: أنَّ السّعيد مَن ماتت سيِّئاته بموته؛ يعني من سعادته أن لا يُعمَل بها بعده، وإلّا إذا اقتداءً به، كان عليه وزرها إلى يوم القيامة. فالمعصية والعياذ بالله مقتضاها التّسلسل، إلّا أن يتعطَّف الله بمحوِها وإزهاقها.
فاحذر كلَّ الحذر من المعاصي فقد تؤثِّر في الأعقاب وفي أعقاب الأعقاب، وارغَب في الطّاعات فإنَّ ما كان لله ينمو، ومن نموِّه أن يؤثِّر بعده إلى آخر الدّهر، وفي الأعقاب وأعقاب الأعقاب إلى يوم القيامة، فتيقَّظ ولا تكُن من الغافلين.