فكر ونظر

فكر ونظر

منذ 4 أيام

صلح ساباط


«صُلحُ ساباط»
شهادةُ كربلاء «حَسنيّة»، قبل أن تكون «حسينيّة»
ـــــ السيّد عبد الحسين شرف الدّين قدّس سرّه ـــــ

في أجواء شهادة السّبطِ الأكبر، الإمام الحسن المجتبى صلوات الله عليه، تقدّم «شعائر» مقتطفاً من مقدّمة المقدَّس آية الله السيّد عبد الحسين شرف الدّين رضوان الله عليه، على كتاب (صلح الحسن عليه السلام) للشيخ راضي آل ياسين.

".." لقد وقفَ الإمامان الحسن والحسين عليهما السلام من دهاء معاوية ومكرِه إزاءَ خطرٍ فظيع، يهدِّدُ الإسلامَ باسمِ الإسلام، ويطغى على نور الحقّ باسم الحقّ، فكانا في دفعِ هذا الخطر، أمام أمرَين لا ثالثَ لهما: إمّا المقاومة، وإمّا المسالمة.
وقد رأيا أنّ المقاومة في دَور الحسن تؤدّي لا محالة إلى فناء هذا الصفّ المدافعِ عن الدّين وأهله، والهادي إلى الله عزّ وجلّ، وإلى صراطِه المستقيم. إذ لو غامر الحسنُ عليه السلام يومئذٍ بنفسه وبالهاشميّين وأوليائهم، فواجه بهم القوّةَ التي لا قِبَلَ لهم بها، مصمّماً على التّضحية تصميمَ أخيه يوم الطفّ، لانكشفت المعركةُ عن قتلهم جميعاً، ولانتصرت «الأمويّة» بذلك نصراً تعجزُ عنه إمكانيّاتها، ولا تنحسرُ عن مثله أحلامُها وأمنياتُها. إذ يخلو بعدَهم لها الميدان، تُمعنُ في تِيهها كلَّ إمعان، وبهذا يكون الحسن عليه السلام -وحاشاه- قد وقعَ في ما فرّ منه على أقبح الوجوه، ولا يكون لتضحيتِه أثرٌ لدى الرّأي العام إلّا التّنديد والتّفنيد.
ومن هنا رأى الحسن عليه السلام أن يترك معاويةَ لطغيانه، ويمتحنَه بما يصبو إليه من المُلك، لكن أخذ عليه في عقد الصّلح، أنْ لا يعدو الكتابَ والسنّة في شيءٍ من سيرته وسيرة أعوانه ومقوّية سلطانه، وأن لا يطلب أحداً من الشيعة بذنبٍ أذنبَه مع الأمويّة، وأن يكون لهم من الكرامة وسائر الحقوق ما لغيرهم من المسلمين، وأن، وأن، وأن. إلى غير ذلك من الشّروط التي كان الحسن عليه السلام عالماً بأنّ معاوية لا يفي له بشيءٍ منها، وأنّه سيقوم بنقائضها.
هذا ما أعدّه عليه السلام لرفع الغطاء عن الوجه «الأمويّ» المموّه، ولصهر الطّلاء عن مظاهر معاوية الزائفة، ليبرزَ حينئذٍ هو وسائر أبطال «الأمويّة» كما هم جاهليّين، لم تخفق صدورُهم بروح الإسلام لحظة، ثأريّين لم تُنسهم مواهبُ الإسلام ومراحمُه شيئاً من أحقاد بدرٍ وأُحدٍ والأحزاب.
وبالجملة فإنّ هذه الخطة ثورةٌ عاصفةٌ في سِلمٍ لم يكن منه بُدّ، أملاه ظرفُ الحسن عليه السلام، إذ التبسَ فيه الحقُّ بالباطل، وتسنّى للطّغيان فيه سيطرةٌ مسلّحة ضارية.
ما كان الحسن عليه السلام ببادئ هذه الخطّة ولا بخاتمها، بل أخذَها في ما أخذَه من إرثه، وتركَها مع ما تركَه من ميراثه. فهو كغيره من أئمّة هذا البيت، يسترشدُ الرّسالة في إقدامه وفي إحجامه. امتُحن بهذه الخطّة فرضخَ لها صابراً محتسِباً، وخرجَ منها ظافراً طاهراً، لم تُنجّسه الجاهليّةُ بأنجاسها، ولم تُلبِسه من مُدلَهمّات ثيابها.
أخذ هذه الخطّة من صلح «الحديبيّة» في ما أُثر من سياسة جدّه صلّى الله عليه وآله، وله فيه أسوةٌ حَسنة، إذ أنكر عليه بعضُ الخاصّة من أصحابه، كما أنكرَ على الحسن «صلح ساباط» بعضُ الخاصّة من أوليائه، فلم يهِن بذلك عزمُه، ولا ضاقَ به ذرعُه.
وقد ترك هذه الخطّة نموذجاً صاغ به الأئمّةُ التّسعة -بعد سيّدَي شباب أهل الجنّة- سياستَهم الحكيمة، في توجيهِها الهادئ الرّصين، كلّما اعصوصبَ الشرّ. فهي إذاً جزءٌ من سياستِهم الهاشميّة الدّائرة أبداً على نُصرة الحقّ، لا على الانتصار للذّات في ما تأخذُ أو تدَع.
تهيّأ للحسن عليه السلام بهذا الصّلح أن يغرسَ في طريق معاوية كميناً من نفسه يثورُ عليه من حيث لا يشعرُ فيُرديه، وتسنّى له به أن يلغمَ نصرَ الأمويّة ببارود الأمويّة نفسها. فيجعل نصرَها جفاءً، وريحاً هباءً.
لم يطل الوقت حتّى انفجرت أولى القنابل المغروسة في شروط الصّلح، انفجرت من نفس معاوية يومَ نشوته بنصره، إذ انضمّ جيشُ العراق إلى لوائه في النّخيلة. فقال -وقد قام خطيباً فيهم-: «يا أهل العراق، إنّي والله لم أقاتلكم لِتصلّوا ولا لتصوموا، ولا لتزكّوا، ولا لتحجّوا، وإنّما قاتلتُكم لأَتأَمّر عليكم، وقد أعطاني اللهُ ذلك وأنتم كارهون! ألا وإنّ كلَّ شيء أعطيتُه للحسن بن عليّ جعلتُه تحتَ قدميَّ هاتين»!
فلما تمّت له البيعة خطبَ فذكر عليّاً عليه السلام فنال منه، ونال من الحسن عليه السلام، فقام الحسين عليه السلام ليردّ عليه، فقال له الحسن عليه السلام: «على رَسلِك يا أخي». ثمّ قام عليه السلام فقال: «أيّها الذّاكرُ عليّاً! أنا الحسنُ وأبي عليّ، وأنت معاوية وأبوك صخر، وأمّي فاطمة وأمُّك هند، وجدّي رسول الله وجدُّك عتبة، وجدّتي خديجة وجدّتك فتيلة، فلعنَ اللهُ أخملَنا ذكراً، وألأَمنا حسبَاً، وشرّنا قديماً، وأقدَمنا كُفراً ونفاقاً». فقالت طوائفُ من أهل المسجد: «آمين».
ثمّ تتابعت سياسةُ معاوية، تتفجّر بكلّ ما يخالفُ الكتابَ والسنّة من كلّ منكرٍ في الإسلام، قَتلاً للأبرار، وهَتكاً للاعراض، وسَلباً للأموال، وسَجناً للأحرار، وتشريداً للمُصلحين، وتأييداً للمُفسدين الذين جعلَهم وزراءَ دولتِه، كابنِ العاص، وابنِ شعبة، وابن سعيد، وابن أرطأة، وابن جندب، وابن السّمط، وابن الحكم، وابن مرجانة، وابن عقبة، وابن سميّة الذي نفاه عن أبيه الشّرعي عُبيد، وألحقَه بالمسافح أبيه، أبي سفيان، ليجعلَه بذلك أخاه، يسلّطُه على الشّيعة في العراق، يسومُهم سوءَ العذاب،
يُذبّح أبناءَهم، ويستحيي نساءَهم، ويفرّقهم عباديد تحت كلِّ كوكب، ويحرق بيوتَهم، ويصطفي أموالَهم، لا يألو جهداً في ظلمِهم بكلِّ طريق.
ختمَ معاويةُ منكراتِه هذه بحمل خليعِه المهتوك على رقاب المسلمين، يعيثُ في دينِهم ودنياهم، فكان من خليعه ما كان يومَ الطفّ، ويومَ الحرّة، ويومَ مكّة إذ نصبَ عليها العرادات والمجانيق! هذه خاتمةُ أعمال معاوية، وإنّها لَتلائمُ كلَّ الملاءمة فاتحةَ أعماله القاتمة.
وبين الفاتحة والخاتمة تتضاغطُ شدائد، وتدورُ خطوب، وتزدحمُ مِحَن، ما أدري كيف اتّسعت لها مسافةُ ذلك الزَّمن، وكيف اتّسع لها صدرُ ذلك المجتمع؟ وهي -في الحقّ- لو وُزّعت على دهرٍ لضاقَ بها، وناءَ بحملِها، ولو وزّعت على عالَمٍ لكان جديراً أن يحولَ جحيماً لا يُطاق.
ومهما يكن من أمر، فالمهمُّ أنّ الحوادثَ جاءت تفسِّر خطّةَ الحسن عليه السلام وتجلوها. وكان أهمّ ما يرمي اليه سلامُ الله عليه، أن يرفع اللّثامَ عن هؤلاء الطّغاة، ليحولَ بينَهم وبين ما يبيّتون لرسالة جدّه من الكَيد. وقد تمّ له كلُّ ما أراد، حتّى برحَ الخفاء، وآذن أمرُ الأمويّة بالجلاء، والحمد لله ربّ العالمين.
وبهذا استتبَّ لصنوِه سيّد الشهداء عليه السلام أن يثور ثورته التي أوضح اللهُ بها الكتاب، وجعلَه فيها عبرةً لأولي الألباب.
وقد كانا عليهما السلام وجهين لرسالةٍ واحدة، كلُّ وجهٍ منهما في موضعه منها، وفي زمانه من مراحلها، يكافئ الآخر في النّهوض بأعبائها ويوازنُه بالتّضحية في سبيلها.
فالحسنُ لم يبخل بنفسه، ولم يكن الحسينُ أسخى منه بها في سبيل الله، وإنّما صانَ نفسَه يجنّدُها في جهادٍ صامت، فلمّا حان الوقت كانت شهادة كربلاء شهادة حسنيّة، قبل أن تكون حسينيّة. وكان «يوم ساباط» أعرق بمعاني التّضحية من يوم الطّفّ لدى أولي الألباب ممّن تعمّق. ".."
كانت «شهادةُ الطّفّ» حسنيّةً أوّلاً، وحسينيّةً ثانياً، لأنّ الحسن عليه السلام أنضجَ نتائجَها، ومهّدَ أسبابَها.
كان نصرُ الحسن الدّامي موقوفاً على جلو الحقيقة التي جلاها -لأخيه الحسين- بصبرِه وحكمتِه، وبجلوها انتصرَ الحسينُ عليه السلام نصرَه العزيز، وفتحَ اللهُ له فتحَه المُبين.
وكانا عليهما السلام كأنّهما متّفقان على تصميم الخطّة: أن يكون للحسن عليه السلام منها دورُ الصّابر الحكيم، وللحسين عليه السلام دورُ الثّائر الكريم، لتتألّفَ من الدَّورَين خطّةٌ كاملةٌ ذاتُ غرَضٍ واحد.

اخبار مرتبطة

  أيها العزيز

أيها العزيز

  إصدارات

إصدارات

منذ 4 أيام

دوريات

نفحات