تاريخُ الكِهانة
موالاةُ الشّياطين
ـــــ الشهيد السيّد محمّد صادق الصدر رحمه الله ـــــ
قالَ في (لسان العرب): «كَهَنَ كِهانةً، مثل كَتَبَ يكتُب كِتابةً، إِذا تكَهَّنَ، وكَهُن كَهانةً إِذا صار كاهِناً. وَرَجُلٌ كاهِنٌ من قومِ كَهَنةٍ وكُهَّان، وحِرْفتُه الكِهانةُ».
في كتابه (ما وراء الفقه)، وفي سياق الكلام على «المكاسب المحرّمة»، تطرّقَ الشهيد آية الله السيّد محمّد صادق الصدر قدّس سرّه بشيءٍ من التّفصيل إلى معنى ومفهوم «الكهانة»، وإلى نشأتِها وتاريخها لا سيّما عند عرب الجاهليّة، وإلى موقف الإسلام. |
يبدو من مراجعةِ التّوراة المتداوَلة أنّ موسى عليه السلام هو أوّلُ مَن أسّسَ الكهانة. ولم تكن يومئذٍ شيئاً غير صالح، بل كانت تُشبه معنى «رَجل الدِّين» أو «سادن» المسجد أو الحرَم.
وذلك أنّه بعد العبور والذّهاب إلى فلسطين، أرضِ كنعان، جعلَ النّبيُّ موسى عليه السلام لهم هناك خيمةً كبيرةً للتعبُّد العامّ، أو ما يوازي «المسجد» في المفهوم الإسلاميّ. وسمّاها حسب قول التّوراة: «خيمة الاجتماع». والظّاهر أنّها هي التي وردَ اسمُها في «دعاء السِّمات»: قبّة الزّمان. [الرُّمّان]
وكانت هذه الخَيمة تحتاجُ إلى عنايةٍ لا يتوفّر للنّبيِّ موسى عليه السلام القيام بها. فأوكلَها إلى أخيه هارون عليه السلام. فأصبحَ منذ ذلك الحين «سادناً» لخيمة الاجتماع، وحسبَ المعروف في التّاريخ أنّها ثاني بيتٍ بُنِيَ للعبادة بعدَ تجديدِ الكعبة المشرّفة من قِبَلِ إبراهيم الخَليل عليه السلام.
ومنذ ذلك الحين سُمِّيَ سادنُ خيمةِ الاجتماع كاهناً، وكان أوّل كاهنٍ في التّاريخ هو النّبيُّ هارون عليه السلام، وهو رجلٌ صالحٌ بكلِّ تأكيد، فهو نبيٌّ ورسولٌ بنَصِّ القرآن الكريم، غير أنّه كان يشتغلُ تحتَ تعاليمِ أخيه، وليس مخوّلاً بشريعةٍ مستقلّة.
وتقول التّوراة إنّ هارون توفِّي في حياة موسى بن عمران سلام الله عليهما، قبلَ التِّيه، فجعلَ مكانَه في السّدانة ابنَه «إليعازر»، وهو ابنُه الأكبر أو الوحيد. ثمّ تُوفِّي موسى عليه السلام، وآلَ الأمرُ إلى تَسلسُلِ هذه السّدانة والكهانة في ذريّة هارون عليه السلام.
بدايةُ انحرافِ الكَهَنة
ولا يبدو من التّوراة أنّ موسى عليه السلام أعطى تعليماً عامّاً من هذا القبيل لتَسلسُلِ السّدانة، وإنّما فقط باعتبارِ إيكالِها إلى ابنِ هارون عليه السلام، وقد كان رجلاً صالحاً أيضاً. فإيكالُها إلى الذّريّة غير الصّالحة مؤكَّدُ الفساد.
إلّا أنّ الأرباحَ التي كانت تأتي إلى الكاهن حَدا بالذُّريّة إلى تبنّيها، وإلى تعدُّد الكَهَنة أيضاً. فلماذا يكون لخيمةِ الاجتماع كاهنٌ واحد؟ فَلْيَكن هناك كَهَنةٌ متعدّدون. كلُّهم لهم صِفةُ «رجال الدِّين»، وكلُّهم مسيطرون دينيّاً على المجتمع، وكلُّهم تَرِدُهم الأموالُ الطّائلة، وكلُّهم يدَّعون في الدِّين مقاماتٍ عالية، إلى آخره. وهكذا وُجِدَتْ بعد موسى عليه السلام في اليهود طبقةٌ متكاملة، هي طبقةُ الكُهّان.
وفي هذا الصّدد بالذّات، فإنّ الكاهنَ والرّاهبَ بمعنًى واحد. ولذا سمّاهم القرآنُ الكريم أحباراً ورُهباناً، وانتقدَهم بشدّة لسوءِ تصرُّفِهم، [حيث اتّخذوا] ﴿..أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله..﴾ التوبة:31. وَوَردَ في تفسيرِها أنّهم أطاعوهم في معصيةِ الله سبحانَه.
والذي يبدو أنّ من جملةِ المقاماتِ التي كان يدّعيها هؤلاء الكُهّان أو الرُّهبان، اتّصالَهم بالملائكةِ والجنِّ، وأَخْذَ الأخبارِ عنهم، وإعطاءَها إلى النّاس عندَ عَرْضِ مشكلة، أو قضاء حاجة. ومن هنا تفشّت الكهانةُ بهذا المعنى الجديد، وهو استلامُ الأخبار من الجنِّ والشّياطين، وإعطاؤها للنّاس.
الكهانةُ عندَ عرب الجاهليّة
ولم يعرف العربُ قبلَ الإسلام غير هذا النّوع من الكهانة، ولم يفهموا من الكاهنِ غيرَ ذلك. إلى حدّ أنّ ابن منظور في (لسان العرب)، لم يذكر له أيَّ معنًى آخر.
وكان هؤلاء الكَهَنة يدّعون أن الجنّ والشّياطين يصعدون إلى السّماء، فيستمعون إلى كلام الملائكة الذي قد يكونُ فيه بعضُ ما ينفعُ النّاس، أو التّنبّؤ بحوادثِ المستقبل، ثمّ يُخبرون بها الكهّان، ومن ثمّ يخبرُ [هؤلاء] بها غيرَهم.
والذي يظهرُ من القرآن الكريم أنّ هذا الاستماعَ صحيح. ولذا ينصُّ على منعِهم عنه بعد الإسلام: ﴿لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإِ الأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ، دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ، إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ﴾ الجن:8-10.
ولكنّ صحّةَ تحقُّق الاستماع لا يعني صحّةَ الأخبار التي تصلُ إلى النّاس، وذلك لعدّة أمور، منها: احتمالُ عدمِ فَهْم الجنِّ والشّياطين لكلامِ الملائكة بشكلٍ متكامل. ومنها: احتمالُ الدّسِّ والكَذِبِ من قِبَلِ الجنِّ والشّياطين أنفسِهم، ومنها احتمالُ الدّسِّ والكَذِبِ من قِبَلِ الكَهَنة أنفسِهم.
ومن هنا أصبحت هذه الأخبارُ مزيجاً مُزعِجاً من الصِّدقِ والكَذِب، بل إنّ الكَذِبَ عليها أوفرُ وأغلب. ومن هنا جاء النّهيُ في الأدلّة المعتبَرة فقهيّاً عن مراجعة الكُهّان، وأنّ «مَن صدَّقَ مُنجِّماً أو كاهناً فقد كفرَ بما أُنْزِلَ على محمّدٍ صلّى الله عليه وآله»، يعني -بالنّسبة إلى الكاهن- : ما أُنزِلَ على محمّد صلّى الله عليه وآله من حَجْبِ الجنّ والشّياطين عن الاستماع إلى المَلأ الأعلى، ومن ثمّ لا يُمكن أن يكونَ كلامُهم صحيحاً.
وَلْنَسمع الآن بعضَ ما قاله ابنُ منظور عن الكَهَنة، قال: «الكاهِن: الّذي يَتعاطي الخبرَ عن الكائناتِ في مستقبلَ الزّمان، ويدَّعي معرفةَ الأَسرار، وقد كان في العرب كَهَنةٌ كشِقٍّ وسَطيح وغيرهما، فمنهم مَن كان يَزْعُم أَنّ له تابعاً من الجنّ ورَئِيّاً يُلقي إِليه الأَخبار، ومنهم مَن كان يزعمُ أَنّه يعرفُ الأُمور بمُقدِّماتِ أَسبابٍ يستدلُّ بها على مواقعِها من كلامِ مَن يسأَلُه، أَو فعلِه، أَو حالِه، وهذا يخُصُّونه باسمِ العَرَّاف، كالّذي يدَّعي معرفةَ الشيء المسروق، ومكانَ الضّالةِ ونحوهما.
قال الأزهريّ: وكانت الكهانةُ في العربِ قبل مَبعث سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وآله، فلمّا بُعِثَ نَبِيّاً وحُرِسَت السّماءُ بالشُّهُب ومُنِعت الجنُّ والشّياطينُ من استراق السّمع وإِلقائه إِلى الكَهَنةِ، بطلَ علمُ الكَهانة، وأَزهقَ اللهُ أَباطيلَ الكُهَّانِ بالفُرْقانِ الذي فَرَقَ اللهُ عزّ وجلّ به بين الحقّ والباطل، وأَطلعَ اللهُ سبحانه نبيَّه صلّى الله عليه وآله بالوَحْيِ على ما شاءَ من علم الغُيوب التي عَجَزت الكَهنةُ عن الإِحاطة به».
وقال -في ما قال- : «وإِنّما ضرب المثل بالكُهَّان لأَنّهم كانوا يُرَوِّجون أَقاويلَهم الباطلة بأَسجاعٍ تروقُ السّامعين، ويسْتَمِيلونَ بها القلوب، ويَستصغون إِليها الأَسْماع».
أقول: وعلى أيّ حال، فكِلا نوعَي الكهانة عند اليهود وعند مشركي العرب مذمومٌ في الإسلام. إلّا أنّ ظاهرَ لفظِ الكاهن، هو الكهانة عند العرب، لأنّها استُعملت في مجتمعِهم، فلا بدّ من فهمِها بخصوصِها عند الإطلاق، ما لم تُقيَّد بشيءٍ آخر، أو بقرينةٍ معيّنة.
شرحٌ متكامل
ويحسنُ أن نروي هنا ما عن الطّبرسيّ في (الاحتجاج)، في روايةٍ تشرحُ الموضوعَ من جهاتِه المهمّة شرحاً متكاملاً. حيث إنّه من جملة الأسئلة التي سألَ الزّنديقُ عنها أبا عبد الله الصّادق عليه السلام.
قال الزّنديق: فَمن أين أصلُ الكهانة، ومن أين يخبرُ النّاسَ بما يحدث؟
قال عليه السلام: «إنّ الكهانةَ كانت في الجاهليّة في كلِّ حينِ فَترةٍ من الرُّسُل. كان الكاهنُ بمنزلةِ الحاكمِ يحتكمون إليه في ما يشتبهُ عليهم من الأمور بينَهم، فيخبرُهم بأشياءَ تحدُث. وذلك في وجوهٍ شتّى: فراسة العين، وذكاء القلب، وَوَسوسة النّفْس، وفِطنةُ الرّوح مع قذفٍ في قلبِه. لأنّ ما يحدثُ في الأرضِ من الحوادثِ الظّاهرة فذلك يعلمُ الشّيطان، ويؤدّيه إلى الكاهن، ويخبرُه بما يحدثُ في المنازلِ والأطراف.
وأمّا أخبارُ السّماء فإنّ الشياطين كانت تقعدُ مقاعدَ استراقِ السّمعِ إذ ذاك، وهي لا تُحْجَب ولا تُرْجَم بالنّجوم. وإنّما مُنعت من استراقِ السّمعِ لئلّا يقعَ في الأرضِ سببٌ يُشاكلُ الوحيَ من خبر السّماء. فيُلبَسُ على أهل الأرض ما جاءَهم -عن الله تعالى- لإثباتِ الحجّة ونَفْي الشّبهة.
وكان الشيطانُ يسترقُ الكلمةَ الواحدةَ من خبرِ السّماء بما يُحدِثُ الله في خلقِه، فيختطفُها، ثمّ يهبطُ بها إلى الأرض فيقذفُها إلى الكاهن، فإذا قد زادَ كلماتٍ من عنده، فيَخلطُ الحقَّ بالباطل. فما أصابَ الكاهنُ من خبرٍ يُخبر به (أو: ممّا كان يُخبر به) هو ما أدّاه إليه شيطانٌ ممّا سمعَه، وما أخطأَ فيه فهو من باطلِ ما زادَ فيه.
فمنذ مُنِعت الشّياطين عن استراق السّمع انقطعتِ الكهانة. واليوم إنّما تؤدّي الشّياطينُ إلى كُهّانها أخبارَ النّاسِ بما يتحدّثون وبما يُحْدِثونَه. والشّياطينُ تؤدّي إلى الشّياطين ما يحدثُ في البُعد من الحوادثِ من سارقٍ سرَق، ومن قاتلٍ قتَل، ومن غائبٍ غاب. وهم أيضاً بمنزلة النّاس صَدوقٌ وكَذوب..». الخبر.
O فمن أهمِّ ما نفهمُ من هذه الرّواية عدّة نقاط:
أوّلاً: أنّ حَجْبَ الشّياطين عن الاستماع إنّما هو لمصلحة عدمِ اختلاطِ خبرِ النّبوّة بأخبار الكُهّان.
ثانياً: أنّ أخبار الكُهّان لا يجبُ أن تكون كلُّها صادقة، فإنّ الشياطين أنفسَهم يكذبون على كُهّانهم في كثيرٍ من الأحيان. فالكاهنُ لا يستطيعُ أن يكونَ صادقاً، حتّى لو حاولَ ذلك.
ثالثاً: أنّه بعدَ مَنْعِ الشّياطين عن استراقِ السّمع، بَقِيَ للكُهّان أخبارُ الأرض، وإنّما مُنعت أخبارُ السّماء. إذاً، فما يحدثُ في الأرض يُمكن التعرُّف عليه إجمالاً. وهذا ما يحدثُ إلى حدّ الآن عند عددٍ غير قليلٍ من الأشخاص.
بقي سؤالٌ واحدٌ لا أجدُ مَن ذكرَه: وهو أنّه ما هي مصلحة الشّيطان من استراقِ السَّمع، وما هي مصلحتُه في أداء الخبرِ إلى الكاهن؟
أما مصلحتُه لاستراقِ السَّمعِ فواضحة:
أوّلاً: هو نحوٌ من التّكامل بالنّسبة إلى الشّياطين، وهو «فضولٌ» أيضاً، أعني حبَّ الاستطلاع من قِبَلهم.
ثانياً: أنّ الشيطان كان -في يومٍ ما- مع الملائكة يعبدُ الله عزَّ وجلّ، حتّى طُرد من بينِهم بعدَ خِلقة آدم عليه السلام في قصّةٍ معروفة. والمهمُّ أنّه بَقِيَ يحترمُ ذلك المكان، ويشتاقُ إليه وإلى الاستماعِ إلى أحاديثِ سُكّانِه، وهم الملائكة.
وأمّا مصلحتُه بالإلقاءِ إلى الكاهن، فقد تتلخّصُ في ما يلي:
أوّلاً: لعلّ في هذا الإلقاء شكلاً من أشكالِ الإغواء والشّرّ في ما بينَ النّاس. فيُلقي الشّيطانُ إليهم لكي يقعَ الشّرُّ بينَهم. وهذا لا ينافي كَوْنَ الخبرِ حقّاً، لأنّ سماعَ النّاس النّاقصين للخبرِ المتكامل، قد لا يكونُ فيه مصلحة، وقد يترتّبُ عليه بعضُ المضاعفات. هذا فضلاً عن الكَذِبِ الذي يُضيفه الشّيطان نفسُه على الخبر.
ثانياً: إنّ الشّيطان وإنْ كان عدوّاً لبني آدم بنصّ القرآن الكريم، إلّا أنّ بعضَ الأفراد أو عدداً منهم قد اكتسبوا صداقتَه فعلاً، بمقدار ما أطاعوه وعَصوا الله سبحانَه في إطاعتِه. ومن هنا يُمكن أن تتوثّقَ عُرى الصّداقة والعلاقة بينهما، بحيث يوحون إلى أوليائهم ﴿..زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً..﴾ الأنعام:112. ولا يرى الشّيطانُ بأساً -في حدودِ فَهمِه- من أن يتّصلَ بصديقِه ووليِّه، ويخبرُه وينفعُه بالمقدار الذي يستطيع، ولعلَّه سيكونُ واسطتَه في إغواءِ النّاس، وإخراجِهم عن دينِهم وإنسانيّتِهم.