وِرْدُ الطريق: "عميت عين لا تراك عليها رقيباً وخسرت صفقة عبدٍ لم تجعل له من حبك نصيباً ومهوى الفؤاد: " ماذا وجد من فقدك، وما الذي فقد من وجدك، لقد خاب من رضي دونك بدلاً"! قال العارف بلسان المولى: كل الخلق يطلبون مني، والعارف يطلبني. وهل يمكن لأحد أن لايطلب منه سبحانه؟ إلا أن قصر الهمة على مادون طلبه - جلت قدرته- قصور!
السلام عليكم أيها الإخوة المجاهدون ورحمة الله وبركاته.
حديث الجبهة والجهاد الأكبر، ذوشجون، فالمناخ الأمثل للجهاد الأكبر هو الجبهة.
نزل القرآن الكريم في أجواء الحروب التي فُرضت على الإسلام آنذاك، ولم يكن يريدها، بحكم أن الحركة المتصاعدة لاتميل إلى المواجهة إلا إذا لم تجد غيرها سبيلاً.
في الطريق إلى الجبهة، وفيها، وفي الرجوع منها، وفي الإعداد لمواجهة أخرى يعِدّ لها الكفار، وبكلمة: في ظروف الجبهة، تم تأسيس قواعد المجتمع الإسلامي على تقوى من الله ورضوان، ببركة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ما يحتاجه الإنسان من جهد للوصول إلى نتيجة معينة في الجهاد الأكبر، يمكن اختصاره من خلال الجبهة بشكل قياسي.
إذا كنا نحتاج إلى التخلص من مرض خُلقي معين خارج الجبهة إلى سنة، فإن هذا الأمر قد يتحقق في أجواء الخطر بلحظة.
تتشظى قذيفة بالقرب منه، فيشعر بحجم الدنيا وقرب الآخرة.
يتعاظم تأثير هذه القذيفة إلى حد أنها تصغّر الدنيا كلها وتقرّب الآخرة!
تطوي بساط طول الأمل، كطي السجل، وإذا بالفرد بلحظة يلمس أنه ها هو ذاهب إلى الآخرة،.إلى لقاء الله عز وجل، فيسأل نفسه: ماذا أعددت ؟ لماذا سوّفت؟ لماذا، لماذا؟
آفة النفس الركون إلى الدنيا العرض الزائل، والإعراض عن الآخرة الجوهر الأبدي، فإذا العمود الفقري لكل الموازين خليط حمإ مسنون مشوه بالجهل المركب، مموهٍ بالشهوات، ووهم العظمة السراب.
يؤسس ذلك لبناء للنفس على شفا جرف هار، سرعان ماينهار، فيصغرالأمر الكبير، ويكبرالصغير، ويستبد العممى، ويستحوذ الصمم، والأفئدة هباء.
في مواطن الخطر يفرض الواقع نفسه، فلا مجال للمناورة. القرار أو الفرار. وكلاهما من وادي جهاد النفس: إيجاباً وسلباً. يأخذ القرار بالعقل والقلب إلى المشاهدة. ويأخذ الفرار بهما إلى الإقرار بالضحالة والتفاهة، وربما المعاندة.
ولاينفك القرارعن حديث النفس بالفرار، لكنه لايصل إلى المعاندة.
أما أولئك الذين لايحدث (أحدهم) نفسه عن قرنه بفرار"
[i]فلهم شأن آخر مختلف عني وعنك -في الغالب- جذرياً.
هذا الجو هو المناخ الطبيعي لبناء النفس البشرية التي لاتعاني أزمة معرفية، بل تعاني أزمة أخلاقية قوامها العمل بما تعلم. والمعبر عنها بلسان الوحي: وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم.
ومن فادح الخطأ أن يظن المجاهد أن الوقت الذي يستطيع أن يبني نفسه فيه في الجبهة، هو وقت الفراغ!
إن الشدائد التي يخوض المجاهد غمراتها، والدماء تغلي، وهو في أتون غليان مراجل الفرز والصهر، بين مشتبك الأسنة والشظايا، وصليل السيوف وأزيز الرصاص، ورعد المنجنيق، والمدافع، هي الوقت الأمثل لاختزان أعظم رصيد لبناء النفس.
ليس المقصود إطلاقاً الإنصراف إلى التفكير ببناء النفس! وهل إلى ذلك من سبيل؟
المقصود بالتحديد أن خصائص هذه الغمرات التي تعيشها النفس بكل ذرة من كيانها، تقوِّم مااعوج من عمود النفس الفقري، لتعيده إلى فطرته التي فطر الله الناس عليها.
مشكلة النفس التسويف، والرَّوَغَان، وهما منشأ الأزمة الأخلاقية التي عرفت.
وعندما يجدُّ الجِد فلا مجال للتسويف، فضلاً عن ثمرته العلقم: الروغان.
يزول إعراض وجه النفس عن وجه الحقيقة، بل يزول أدنى طي كشحٍ له عنها.
هاهو وجهاً لوجه أمام سكرات كسكرات الموت: وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ماكنت عنه تحيد. ق 19
وهل الحُيود أو الحيدان غير الروغان؟
وعمّ هو؟ إنه مراوغة تحول دون الإنسجام مع حتمية الآخرة، وعندما تأتي سكرة الموت أو سكرة الوغى، يجد نفسه أمام هذه الحتمية التي لم ينشأ خلل في النفس إلا بمقدار الإعراض عنها.
ومحال أن يتساوى حال سكرات الموت مع ماقبلها!
يتحقق في أتون الحرب إذاً طي الزمن، وطي مراحل جهاد النفس التي تنضج الشخصية وتصلب عود مواجهة الحقيقة بلا زيف!
على هذا الأساس: من كان على بناء نفسه حريصاً، فما عليه إلا أن يغتنم فرصةً تلوح له ليتوجه إلى الجبهة، إلى مواقع الجهاد الأصغر، ليدخل من الباب الخاص بأولياء الله إلى حقيقة الجهاد الأكبر، فثمة كنز لا يمكنه الحصول عليه في مكان آخر.
ما هو الهدف من الجهاد الأكبر؟
أن يصل الإنسان إلى رضا الله عز وجل، وإلى حبه سبحانه، تمهيداً للوصول إليه تعالى.
شتان بين من يطلب من الله وبين من يطلب الله عز وجل
الأول: يريد أكلاً، مالاً، بيتاً، ثياباً، أو فقل توجهاً وخشوعاً، ووحسن العاقبة.
والثاني: لايستغني عن طلب ذلك، ولكنه أكبر من أن يثنيه عن طلب الله سبحانه طلب.
وِرْدُ الطريق: "عميت عين لا تراك عليها رقيباً وخسرت صفقة عبدٍ لم تجعل له من حبك نصيباً ".
[ii]ومهوى الفؤاد: " ماذا وجد من فقدك، وما الذي فقد من وجدك، لقد خاب من رضي دونك بدلاً"!
[iii]قال العارف بلسان المولى: كل الخلق يطلبون مني، والعارف يطلبني.
وهل يمكن لأحد أن لايطلب منه سبحانه؟ إلا أن قصر الهمة على مادون طلبه - جلت قدرته- قصور!
علو الهمة، وإدراك غاية هذا الطريق يحتّمان أن تقيمنا الخصاصة بباب طلبه سبحانه وتعالى.
هدف الجهاد الأكبر إذاً هذا الطلب لاغير!
والسؤال: أوليس حب الله وحب الدنيا لا يجتمعان.
أن يصبح الإنسان عند الله " عند ربهم" أن يصبح عنده عز وجل" في مقعد صدق عند مليك مقتدر" يتوقف على درجة من القرب " وتدنيني من قربك" تتلازم مع الإعراض عن الأغيار، والدنيا مجمعها، وهي هي ساحة الوصول!
فكيف يمكن الوصول إلا إذا أصبح القلب حرم الله " لا تسكن في حرم الله غير الله"!
تهيء الجبهة بجهادها الأصغر المناخ الأفضل لذلك والأمثل. فهي بعيدة عن حب الدنيا، بعد السلامة عن الخطر، ليس فيها من إغراءات الدنيا، أو بهارجها والزخارف عين ولا أثر. لذلك كان الواصلون فيها وبها "خاصة أولياء الله".
هل نحظى منهم بلمسة حنان، بدعاء، لنكون معهم، ومنهم؟
ما ذلك على الله بعزيز.
والحمد لله رب العالمين.
***
الحلقة الثانية: المجاهد وخطر الغرور ( لم يعثر عليها).
--------------------------------------------------------------------------------
[i]الإمام السجاد عليه السلام، الصحيفة السجادية، دعاؤه لأهل الثغور. بدون كلمة أحدهم.
[ii]من الملحق بدعاء عرفة. بحار الأنوار95/226
[iii]المصدر.