ثقافةُ النّصِّ المعصوم
• بقلم: الشّيخ حسين كوراني
في مستهلِّ الأشهُر الثّلاثة رجب وشعبان وشهر رمضان، يكتسبُ الحديثُ عن النّصّ المعصوم خصوصيّةً عمليّةً بارزة، مردّها كوْنُ هذه الأشهر الدّورةَ العلميّة والعمليّة الأبرز على مدار السّنة وبالتّالي العمر كلّه. إنّها ليلةُ قدر التّربية الثّقافيّة والتّأمّل المنهجيّ المتجدّدةُ كلّ عام. ليست ليلةُ القدر الّتي هي خيرٌ من ألف شهر إلّا لبّ هذه الدّورة المركزيّة.
اللّافت في روايات هذه الأشهُر -الدّورة- هو التّوكيدُ على «اليقين الثّقافيّ» بالرّسالة والرّسول. بالحقيقة الّتي يحملُها النّصُّ القرآنيّ والثّابتُ من حديث المعصوم.
يستثيرُ ما تقدّم خزينَ الفطرة الإنسانيّة القائمَة على اليقين بالحقيقة، الّذي يقيسُ الاحتمال والشّكّ والظّنّ بمعيار قُربه من اليقين أو بُعدِه عنه.
تتماهى الإنسانيّةُ مع الحقيقة. العقل يكتشفُ الحقيقةَ ويَستجليها، والقلبُ حَرَمُها. الحقيقةُ هي اليقين. يتماهيان. ﴿قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾ يونس:35-36.
***
حين أطلقَ المعصومُ معادلة: تلبيس الحقّ بالباطل = رحلة البشريّة المعذّبة، كان -المعصوم- يؤصِّلُ معادلة: استخراج الحقّ من خاصرةِ الباطل = نَقْبَ الباطل أو بَقْره.
قال عليٌّ عليه السلام: «إِنَّمَا بَدْءُ وُقُوعِ الْفِتَنِ أَهْوَاءٌ تُتَّبَعُ وأَحْكَامٌ تُبْتَدَعُ - يُخَالَفُ فِيهَا كِتَابُ الله - ويَتَوَلَّى عَلَيْهَا رِجَالٌ رِجَالًا عَلَى غَيْرِ دِينِ الله - فَلَوْ أَنَّ الْبَاطِلَ خَلَصَ مِنْ مِزَاجِ الْحَقِّ - لَمْ يَخْفَ عَلَى الْمُرْتَادِينَ - ولَوْ أَنَّ الْحَقَّ خَلَصَ مِنْ لَبْسِ الْبَاطِلِ - انْقَطَعَتْ عَنْه أَلْسُنُ الْمُعَانِدِينَ - ولَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ ومِنْ هَذَا ضِغْثٌ فَيُمْزَجَانِ - فَهُنَالِكَ يَسْتَوْلِي الشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِه - ويَنْجُو الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ الله الْحُسْنى».
وقال عليه السلام: «وأيْمُ اللهِ، لأبْقُرَنَّ البَاطِلَ حتّى أُخْرِجَ الحَقّ مِنْ خَاصِرته».
النَّصُّ المعصومُ سفينةُ نجاةِ البشريّة في رحلة البحث عن الحقيقة. النّصُّ المعصومُ منجمُ الحَقيقة واليَقين.
***
﴿..فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ البقرة:38-39.
لم يَتْرُكِ الحقُّ عذراً لمعتَذر: ﴿.. قَدْ بَيَّنَّا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ البقرة: 118.
ولا تَرَكَ ذريعةً يتوسّلُ بها مَن رَضِيَ لنفسِه لوثةَ الشّكِّ وتخريصَ الظّنّ وأخلدَ إليهما تباهياً وتمويهاً: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ﴾. الروم: 60.
عندما تَجِد بَرْدَ اليقين في مستقرِّ الفؤاد، فأنت من: ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ لقمان: 4.
﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ النمل:3.
قادةُ رحلة اليقين هم الطّلائعُ المُوقنة، ساداتُ الموقنين: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ السجدة:24.
ينقسمُ البشرُ إلى قسمَين: المُوقنين والمُتظاهرين باليقين ولمّا يبلغوه.
قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا باللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ البقرة:3-8.
***
بَدءُ مدارج اليقين بعصمةِ النّصّ القرآنيّ أن لا يُصادر المفسِّرُ عصمةَ القرآن فَيَدّعيها، ويُجلِسُ القرآن كالتّلميذ بين يدَيه، يُسبغُ عليه من حداثتِه، و«يبرّئه» ممّا لا ينسجمُ مع «روح العصر»!
وأُولى مدارج اليقين بعصمةِ الثّابت عن المعصوم، اليقينُ بالمعصوم ومرجعيّتِه المركزيّة في التّلقّي من القرآن، وفقهِ القلب والحياتَين الممرِّ والمستقرّ.
لا سبيلَ إلى ذلك للباحثين عن الحقيقة خارجَ النّصِّ المعصوم -وما أُبرِّئُ نفسي-، تحتَ براقعِ الحداثةِ الوَهم، والعقلانيّة الرّاطنة، والمعاصَرة المُلتَبسة بين الآلة والأزرار الإلكترونيّة، وبين «الآفاق والأنفُس». الّذين لم يروا من الإنسان إلّا جسدَه، ولم يؤمنوا بالعقل لأنّهم لم يَروه! فلم يبحثوا عن الحقيقة لأنَهم لم يُعملوا عقولَهم: ﴿ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ الروم:28-29.
أن يسمحَ المفسّرُ لنفسِه أن يكونَ «أستاذ الله»!! ﴿..أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ..﴾؟! الحُجُرات:16، أصلُ ثقافة «الإنسان الخالق» المادّيّةِ السّائدةِ وفَصْلُها. مَنْ ضرَبته لوثةُ «التّغريب» فقد تتلمذَ على «أستاذ الله»!!! فكيفَ سيقبلُ قولَ رسولِ الله أو وليِّه سبحانَه وتعالى.
من أبرز خصائص المَشهد الثّقافيّ الإسلامويّ في مفتَتح الألفيّة الثالثة، البحثُ عن القدوة الفكريّة والثّقافيّة والعلميّة والعمليّة خارجَ النّصِّ المعصوم.
• أخطرُ تَمظهُراتِ هذا الطّيف من المشهد هو اليقينُ بأنّ ذلك لا يناقضُ مرجعيّةَ النّصِّ المعصوم، الّذي حبسَه هؤلاء في الماضي حين أطلقوا عليه اسمَ «التّراث»!
• أخطرُ منه التّصريحُ بتطويع هذا «التّراث!» لثقافةِ الغرائز وصرير الآلة، وجَشَعِ المردود الرّبحيّ.
• وأخطر منه مَلأُ النّصّ الدّينيّ بحَشرَجَاتِ الآلةِ والحيوانِ والجَشَع، وتقديم ذلك في عمليّة التّثقيف الدّينيّ كما يجري الآن على نطاقٍ واسع باسمِ «الإرشاد الأُسَرِيّ»!! -ولا أُسرةَ في الغرب- وكذلك باسمِ «علم النّفس» و«المناهج التّربويّة» وغيرها..
ثقافةُ النّصِّ المعصوم ثقافةُ اليقين. اليقينُ بعصمةِ هذا النّصِّ شرطٌ حصريٌّ للوصول إلى ما يحملُه من حقائق ويَقينيّات.