الإحسان وسلامةُ الاجتماع
الإنفاق المعنويّ أساسُ كلِّ إحسان
ـــــ العلّامة السّيّد محمّد حسين الطّباطبائيّ ـــــ
هذا النّصّ نموذجٌ من أبحاث تفسير القرآنِ بالقرآن، وفقَ منهج العلّامة السّيّد محمّد حسين الطّباطبائيّ رحمه الله، في كتابه النّوعيّ «الميزان في تفسير القرآن»، حيث يُبيّنُ مرادَ الآيات من خلال السّياق الذي وردتْ فيه، ومثيلاتِها في ثنايا الكتاب المجيد. |
﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ﴾ آل عمران:130-138.
هذه الآيات التِّسع -خاصّة- فيها ترغيبٌ وتحذيرٌ؛ فهي تُرَغِّبُ المؤمنين للمسارعة إلى الخير، من خلال:
1- الإنفاق في سبيل الله في السَّرَّاء والضَّرَّاء.
2- كَظْم الغَيْظ.
3- العفو عن النَّاس.
وهذه الثّلاثة، يَجمَعُها بثُّ الإحسانِ والخيرِ في المجتمع، والصَّبر على الأذى والسُّوء، والصَّفحُ عن الإساءة، فهذه هي الطَّريقة الوحيدة الّتي تُستحفَظُ بها حياة المجتمع ويُشَدُّ بها عَظْمُه، فيَقوم على ساقٍ.
ومن لوازم هذا الإنفاق والإحسان تَرْكُ الرِّبا، ولذلك بَدَأ به، وهو كَالتَّوْطِئة للدَّعوة إلى الإحسان والإنفاق؛ فمعلومٌ أنَّ الإنفاق -بِجميعِ طُرُقِه- مِن أعظم ما تَعتمدُ عليه بُنْيَةُ المجتمع الإنسانيّ، وهو الَّذي يَنفخُ روحَ الوحدة فيه، فَتَتَّحِد به قواهُ المُتفرِّقة، فتُنالُ بذلك سعادتُه في الحياة، ويَقْوَى به على دفعِ كلِّ آفَّةٍ مُهلكةٍ أو مؤذيةٍ تَتهدّده.
ومعلومٌ أيضاً أنَّ الرِّبا مِن أعظم ما يُضادُّ الإنفاق في خاصَّته هذه. فهذا ما يُرَغِّبُهم اللهُ تعالى فيه، ثمَّ يُرَغِّبُهم في أنْ لا يَنقطعوا عن ربِّهم بِقَواطعِ الذُّنوب والمعاصي، فإنْ أَتوا بما لا يَرضاهُ لهم ربُّهم تداركُوه بالتَّوبة والرُّجوع إليه ثانياً وثالثاً، من غير أن يَكسلوا أو يَتَوانَوْا.
وبهذَين الأمرَين يَستقيمُ سَيْرُهم في صِراطِ الحياة السَّعيدة فلا يَضلُّون ولا يقفون فيَهلكوا. وهذا البيان، كما ترى، أحسنُ طريقٍ يُهدَى به الإنسانُ إلى تكميلِ نفسه بعد ظهورِ النَّقص، وأَجودُ سبيلٍ في علاج الرَّذائل النّفسانيّة الّتي ربّما دبَّت في النُّفوس المحلَّاة بالفضائل، فأَوْرَثَت السّفالَ والسّقوطَ، وهدَّدت بالهَلَكَةِ والرَّدى.
التّعليمُ الإلهيّ
من دَأْبِ القرآنِ الكريم في تعليمِهِ الإلهيّ، قرانُ العلمِ بالعمل، إذ لمْ يَزَلْ يجعل في مدَّةِ نزوله -وهي ثلاث وعشرون سنة- لِكُلِّيّات تعاليمِه موادّ أوَّليّة، حتّى إذا عُمل بشيءٍ منها أخذَ صورة العمل الواقع مادَّةً لتعليمِهم ثانياً، فألقاها إليهم بعد إصلاح الفاسدِ من أجزائه، وتركيبه بالصَّحيح الباقي، وذمِّ الفاسِد، والثَّناء على الصَّحيح المستقيم، والوعد الجميل والشُّكر الجزيل لِفاعِلِه.
فكتابُ اللهِ العزيز كتابُ علمٍ وعملٍ، لا كتابُ فرضٍ وتقديرٍ، ولا كتابُ تعْمِيَةٍ وتقليدٍ. ومَثَله مَثَل المعلِّم يُلقي إلى تلامذته الكلِّيَّات العلميّة في أَوْجَزِ بيانٍ وأقصرِ لفظٍ، ويأمُرُهم بالعمل بها، ثمَّ يَأخذ ما عملوه ثانياً، ويُحلِّلُه إلى أوائل أجزائه من صحيحٍ وفاسدٍ، فيُبَيِّن لهم مواردَ النَّقصِ والقُصورِ مُشَفَّعَةً بالعِظَةِ والوَعيدِ، ويَمدحُ موارِدَ الاستقامةِ والصِّحَّة ويُقارنُها بالوَعدِ والشُّكرِ، ويَأمُرهم بالعملِ ثانياً، وهذا فِعالُهُ حتَّى يكمُلوا في فنِّهم ويَسعدوا في جِدِّهم.
وهذا الَّذي ذكرناه، من الحقائق القرآنيّة اللَّائحة للمُتدبِّر الدَّقيق، فتَراهُ سبحانَهُ -مثلاً- يُنزل كلِّيّات الجهاد في آياته بادئ الأمر: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ..﴾ البقرة:216، ويَأمرُ المؤمنين به فيها، ثمَّ يأخذ قصَّة بَدْرٍ ثانياً ويَأمرهُم بما يُبَيِّن لهم فيها، ثمَّ قصَّةَ أُحُد، ثمَّ قصَّةً أخرى وهكذا. وتراهُ سبحانَه يقصُّ قَصَص السَّابقين من الأنبياء وأُمَمِهم، ثمَّ يجعلُها بعد إصلاحِها وبيانِ وجهِ الحقِّ فيها، عبرةً للَّاحقين ودستوراً لِعملِهم.
مع الآيات
* قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا..﴾ آل عمران:130: المُرادُ بالأكل هَهنا مطلَق التّصرّف في الأموال.
* قوله تعالى: ﴿..أضْعَافًا مُضَاعَفَةً..﴾ آل عمران:130: يُشيرُ إلى الوَصْفِ الغالبِ في الرِّبا، فإنَّه بِحَسَبِ الطَّبع يَتضاعفُ فيَصير المالُ أضعافاً مضاعفةً بإنفادِ مالِ الغيرِ وضمِّه إلى رأسِ المالِ الرَّبويّ.
* قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ آل عمران:131: إشارةٌ إلى كُفْرِ آكِلِ الرِّبا.
* قوله تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ..﴾ آل عمران:133: المُسارعةُ هي الاشتداد في السُّرعةِ، وهي مَمْدوحةٌ في الخيراتِ ومذمومةٌ في الشُّرور. وقد قُرِنَتِ -في القرآن الكريم- المغفرة بالجنَّة في غالبِ الموارِدِ، وليس ذلك إلَّا لأنَّ الجنَّةَ دارُ طهارةٍ لا تدخلُها قذاراتُ المعاصي والذُّنوبِ وأدرانُها، ولا مَن تَقَذَّرَ بها إلَّا بعد المغفرة والإزالة.
والمغفرةُ والجنَّةُ المذكورتان في هذه الآية تُحاذِيان ما في الآيتَين التَّاليتَين؛ أمَّا المغفرةُ فتُحاذي ما في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً..﴾ آل عمران:135، وأمَّا الجنَّة فتُحاذي ما في قولِه: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ..﴾ آل عمران:134.
* قولُه تعالى: ﴿..وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ..﴾ آل عمران:133: فالمُرادُ بالعَرْضِ السِّعة، وهو استعمالٌ شائعٌ، وكأنَّ التَّعبيرَ كنايةٌ عن بلوغِها في السِّعة غايتَها، أو ما لا يَحدُّه الوَهْمُ البشريّ.
* قوله تعالى: ﴿..أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ آل عمران:133: كالتَّوطِئة لِذِكر ما يذكرُه بعدُ من أوصاف المُتَّقين؛ فإنَّ الغَرَضَ هو بيانُ الأوصاف الَّتي تَرتبطُ بِحالِ المؤمنين في المَقام، أعني عند نزولِ هذه الآيات وقد نَزَلت بعد غَزْوَةِ أُحُد، وقد جرى عليهم ومنهم ما جرى من الضَّعف والوَهْنِ والمخالفةِ، وهم مع ذلك مُشرفون على غَزَواتٍ أُخَر مثلِها، وحوادث تُشابهُها، وبهم حاجة إلى الاتِّحاد والاتِّفاق والتَّلاؤم.
* قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ..﴾ آل عمران:134: إلى آخر الآية: السَّرَّاء والضَّرَّاء ما يسرُّ الإنسان وما يَسوؤه، أو اليُسر والعُسر. والكَظْمُ في الأصل هو شدُّ رأسِ القِرْبَة بعد مَلْئِها، فاستُعيرَ للإنسان إذا امْتَلأَ حُزناً أو غَضَباً، والغيظُ هَيَجانُ الطَّبْعِ للانتقامِ بمشاهدةِ كَثرة ما لا يَرتَضيه، بِخِلافِ الغَضب فهو إرادةُ الانتقامِ أو المُجازاة، ولذلك يُقال: غَضِبَ اللهُ ولا يُقال اغْتَاظ.
* قولُه تعالى: ﴿..وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ آل عمران:134: إشارة إلى أنَّ ما ذَكَرَه من الأوصافِ مُعرِّفٌ لهم، وإنَّما هو معرِّفٌ للمُحسنين في جنبِ النَّاس بالإحسانِ إليهم، وأمَّا في جنبِ الله فمُعرِّفهم ما في قوله تعالى: ﴿..وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ * إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ الأحقاف:12-13.
بل هذا الإحسانُ المذكور في هذه الآيات هو المَحْتِد [الأصل] للمذكور في قوله: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ..﴾ آل عمران:134، فإنَّ الإنفاقَ ونحوَهُ إذا لم يَكُن لِوجه الله لم يَكُن له منزلةٌ عند الله سبحانَه.
ويدلّ على ما ذكرناه قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ العنكبوت:69، فإنَّ هذا الجهاد هو بَذْلُ الجهد، ولا يكون إلَّا في ما يُخالف هوى النّفس ومُقتَضى الطَّبع، ولا يكون إلَّا إذا كان عندَهم إيمانٌ بأمورٍ يقتضي الجَرْيُ على مُقتضاها والثَّباتُ عليها مقاومةً بإزاء ما يحبُّه طبعُ الإنسانِ وتَشتهيه نفسُه. ولازمُه بِحَسب القَوْل والاعتقاد أن يكونوا قائلين: (ربُّنا الله) وهم مستقيمون عليه، وبِحَسب العمل أن يُقيموا هذا القَوْل بالجهاد في عبادة الله في ما بينهم وبينَ الله، وبالإنفاقِ وحُسنِ العشرةِ في ما بينهم وبين النّاس. فتحصّل ممَّا ذكرنا: أنَّ الإحسان إتيانُ الأعمال على وجهِ الحُسْن من جهة الاستقامة، والثَّبات على الإيمانِ بالله سبحانه.