من الأمورِ الّتي أصبَحت مألوفة لنا، أنْ نَجِدَ كثيرين من النَّاس حين يُواجهون الأزمات، ويَجدونَ أنفسَهم وجهاً لوجهٍ مع الأحداثِ الكبيرة والخطيرة، نَجِدُهم يُظهرون اهتماماً متزايداً بقضيّة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف وبِعَلائم الظُّهور، ويَبحثون عن المزيد ممَّا يَمنَحُهم بصيصَ أَمَل، ويُلقي لهم بعض الضَّوء على ما سيَحدث في المستقبل القريب أو البعيد. |
يحاولُ عددٌ من الكُتَّاب والمؤلِّفين الاستجابة للرَّغبة الظَّاهرة عند النّاس في معرفة علائم حركة ظهور الإمام المهديّ صلوات الله عليه، ويَبذلون جهوداً كبيرةً لِترسيمِ مستقبلِ الأحداث وفْقَ ما يتيسَّر لهم فهمُهُ من النُّصوص الحاضرة لديهم. تلك النُّصوص الَّتي جاء أكثرُها غامضاً وغائماً، اختَلَطَ غَثُّها بِسَمِينِها، وصَحيحُها بِسَقيمِها، وتَعرَّض كثيرٌ منها للتَّحريف، وزِيدَ فيه أو نُقِّصَ منه، هذا عدا عن الكثير ممَّا اختَلَقَتْهُ يدُ الأطماعِ والأهواءِ.
إنَّنا وإن كنَّا نؤيّدُ لجوءَ النَّاسِ إلى الدِّين وإلى النُّصوص الدِّينيّة، وشعورهم بأنَّه هو الَّذي يَملكُ الإجابات الصَّحيحة على كثيرٍ من تساؤلاتِهم، ولديه الحُلول الجذريَّة لِمَا يُعانون من مشكلاتٍ وبلايا، إلَّا أنَّ تعامُلَهم في خُصوص الإخبارات الغَيبيّة، وبالأخصّ مع قضيّة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشرف، قد جاء لِيُنذرَ بانحرافٍ خطيرٍ في المجالِ العقائديّ، فضلاً عن المجالِ العلميّ، وذلك حينما اقْتَصَر على زاويةٍ واحدةٍ منه، وهي تلك الّتي تَشغلُ بالَ النَّاس، وتَستأثِرُ باهتماماتِ الكَثرةِ الكاثِرةِ منهُم، أَلَا وهي علاماتُ ظهورِه عليه السلام وما رافَقَ ذلك من إخباراتٍ غيبيَّةٍ بِما سَيَحدثُ في آخر الزَّمان، أو في طُولِ الزَّمان المُمتدِّ من عصرِهم صلوات الله وسلامه عليهم إلى حين ظُهورِ الإمام الحُجَّة عجل الله فرجه. وقد اسْتَبْطَنَ ذلك إهمالَ سائرِ مُفرداتِ ومجالاتِ التَّعامل مع هذه القضيّة حتَّى أصبَحَت في عالَمِ النِّسيان، لا تكادُ تَخطر لأحدٍ منهم على بالٍ، ولا تمرُّ له في خاطِرٍ، رغم أنَّها هي الأهمّ والأكثر مَساساً بحياتِهم وبوُجودِهِم، وعلى رأسِها التَّعاملُ معه عليه السلام كقائدٍ للمَسيرة، ومُهَيْمِنٍ على السُّلوك والموقف، ومُوَجِّهٍ لها.
وهكذا، لم يَعُد الإمامُ المهديّ عليه السلام بالنِّسبة إلى الكثيرين منَّا هو ذلك الإمامُ الحاضرُ والنَّاظِرُ، الّذي يعيشُ من أجلِ قضيَّةٍ، ويَعملُ ويُضحِّي، ويدعونا إلى العملِ والجهادِ والتَّضحية من أجلِها وفي سبيلِها. كما أنَّنا لم نَعُد نحمل هُمومَه كما يَحملُ هو هُمومَنا، ولا نَشعر معه كما يَشعر هو معنا، ولا نَرْقبُ حركَتنا معه كما يَرقبُ هو حركتَنا، ولا نتوقَّع منه، ولا نُريد أن يَتوقَّع منَّا أيَّ عملٍ إيجابيٍّ تجاه القضيّة الكبرى الّتي يعيشها، ويُجاهدُ ويُعاني في سبيلِها، وهي قضيّة الإسلام والإنسان التي تمسُّ وجودَنا ومستقبلَنا ومصيرَنا في الصَّميم.
الانحراف يَتَضاعف
حتّى في ما يختصَّ بذلك الجانب الخاصّ، ويَرتبطُ بتلكَ الزَّاوية المحدودة التي آثرناها على كلِّ ما هو سواها، وهي الإخبارات المستقبليّة وعلامات الظُّهور، فإنَّ تعامُلَنا معها قد جاء بصورةٍ خاطئةٍ بدرجةٍ كبيرةٍ، وذلك حينما نَجِدُ أنفسَنا في موقعِ المُستَسْلِم الخاضِع لأمورٍ نعتقدُها حتميَّةً ولا مناصَّ منها، فهي القضاءُ المُبْرَم، والقَدَرُ اللَّازم. الأمر الّذي مِن شأنِه أنْ يُرسِّخ فينا الشُّعور بالإحباط والانهزام، والعجز، ما دمْنا نَجِدُ أنفسنا في مواجهة أمرٍ خارجٍ عن اختيارِنا، لا نَملكُ دفعَه، ولا التَّأثيرَ فيه.
ومن جهةٍ ثانية: فإنَّ ذلك يَبعث فينا الشُّعور بالرِّضى، وببراءةِ الذِّمَّة حيث لم نعد نتحمَّل أيّة مسؤوليّة، ولا يُطلب منّا، أو فَقُلْ ليس من الصَّحيح أنْ يُطلبَ منَّا تَسجيلُ أيّ موقفٍ تجاه الأحداث، والمستجدَّات مهما كانت.
إذاً، فلا مكان بعد هذا للشُّعور بالذَّنب، ولا بالتَّقصير، إذا تركنا الفسادَ يَستَشْري، والظُّلمَ يَسودُ ويُهَيْمِن. بل يكون التَّصدِّي لذلك حتّى في أدنى دَرَجاتِه، وأَسلم عَواقِبه هو الذَّنب وهو الجريمة، حيث إنَّه يمثِّل اعتراضاً على إرادةِ اللهِ سبحانه، وهو من ثمَّ إلقاءٌ للنَّفسِ في التَّهْلُكةِ، أو إهدارٌ للطَّاقات بلا مبرِّرٍ ظاهرٍ، ولا سببٍ وجيهٍ. وقد نشعر أنَّ من مسؤوليَّاتنا بثّ هذا النَّوع من الفهم وتعميمه حرصاً منَّا على مصلحة المسلمين، وعَمَلاً بالتَّكليف الشَّرعيِّ المَوْهوم!!
ولا نَجِد حرجاً بعد هذا في أن نتتبَّع الرِّوايات لِنَستخلِصَ منها بعضَ ما يُفيد في معرفة شيءٍ ممّا سيَحدث عن قريب، ونوزِّع الإخبارات الغيبيّة والتَّنبُّؤات هنا وهناك ونَبثُّها بين النَّاس، لِتُثير بعضاً من فضولهم، وتَستَأثِر بشيءٍ من عَجَبِهِم أو إعْجابِهِم.
الأئمَّةُ عليهم السلام واقفون على سلبيَّات الأمر
وفي اعتقادنا أنَّ أئمَّتَنا صلواتُ الله عليهم كانوا يُدركون أنَّ هذا النَّوع من الأخبار الّتي تَصدر عنهم، وإن كانت له إيجابيَّاته الكبرى، إلَّا أنَّ له أيضاً سلبيَّات من نوعٍ آخَر، لا بدَّ من التَّصدِّي لها ومعالجتِها، والحدِّ من تأثيراتِها قدر الإمكان.
وذلك لأنَّ هذا الموضوع جذَّاب، يَستَهوِي أصحابَ الأهواءِ والطُّموحات، خصوصاً أصحابَ الدَّعوات الباطلة والزَّائفة منهم، مِمَّن يُريدون تكريسَ دَعَواتِهم تلك بالأساليب المُلتوية، وبالادِّعاءات المثيرةِ لِفُضولِ النَّاس العاديِّين، شَريطة أنْ لا يَجرؤ أحدٌ على تكذيبِها بِصورةٍ صريحةٍ ولا حتّى التّشكيكِ فيها، وذلك بِسَبب ما تُثيره فيهم من شعورٍ مُبْهَمٍ بالخوفِ والوَجَلِ تِجاهها. فإنَّ أصحابَ الطُّموحات والدَّعوات الباطلة يدركون جيِّداً أنَّ الإنسانَ العاديّ لا يَملك إلَّا الاستسلام للغَيْبِ، والانهزامَ أمام المجهول، ومحاولة التَّحرُّز منه ومن أخطاره المحتَمَلَة.
وهذا بالذَّات هو ما يُضعِفُ مقاومةَ النَّاس العاديِّين أمام تلك الدَّعوات مهما كانت غائمة، وغير واضحة المَعالِم، أو غير مُنسجمة مع أحكامِ العقل، ومقتضَيات الفِطرة. كما أنَّ ذلك من شأنه أنْ يُبعدَهُم ويَصرفَهُم عن التَّفكير في ماهيَّتِها الحقيقيّة، وفي صلاحِها وفسادِها.
وبعد ما تقدَّم، فإنَّه يُصبحُ من الطّبيعيّ أن يَكثر الاختلاقُ والوَضعُ في مجالِ الإخباراتِ الغيبيّة المستقبليّة، وفي علاماتِ آخر الزَّمان، الّتي يَرصد النَّاسُ فيها مستقبلَهم ومصيرَهم. ولَسوف تُصاغُ بقوالب خادعةٍ ومطَّاطةٍ وغامضةٍ، لِيُمكن الاستفادة منها في المَوقع المناسِب.
الحلُّ الأفضل
وبعد هذا التَّوضيح الّذي ذكرناه، نقول: إنَّ هذا الحلَّ يتلخَّصُ في إعطاءِ ضابطةٍ عامَّة للأحاديث الَّتي تَتحدَّث عن المستقبل، وعن علامات ظهور الإمام الحُجَّة عجل الله تعالى فرجه الشريف، تُشير إلى أنَّها جميعاً -حتّى ما صَحَّ سَنَدُهُ منها- إنّما تتحدَّث عن أمورٍ ليست بِأجمعِها حتميَّةَ الوُقوع، فمِن الجائزِ أن لا يَقَعَ بعضٌ منها، ولكنَّ هذا البعض لا يُمكن لنا تحديده بالدِّقَّة.
والسَّببُ في ذلك هو أنَّ النَّبيّ صلّى الله عليه وآله أو الإمام عليه السلام، إنَّما يَتَحدَّث ويُخبر عن تحقُّق المقتضي لوجود ظاهرةٍ أو حدَثٍ مّا، وفْقَ ما هو مخزونٌ في عِلْمِ الغَيب، بحيث لو سارَت الأحداثُ على طبيعتِها، لتَحقَّق ذلك المقتَضي. ولكنَّه عليه السلام لمْ يُخبِر عن شرائط تأثير تلك المُقتضيات؛ هل سوف توجد أم لا؟ كما أنَّه لمْ يُخبِر عن الموانع التي قد تَعرض للمُقتضي، وتَمنعُه من التَّأثير.
فإذا تحقَّق شيءٌ ممَّا أَخبَر عنه عليه السلام، فإنَّ ذلك يَكشف عن تَحَقُّق شرائطه، وفَقْدِ موانعه، وتَماميَّةِ عناصرِ عِلَّتِه، وإذا لم يَتَحقَّق، فإنَّ ذلك يَكشفُ عن عُروضِ مانعٍ، أو فَقْدِ شرطِ تأثيرِ ذلك المُقتضي. فهو عليه السلام إذاً إنَّما يُخبرُ عن أمورٍ قد تَختلف في المَآلِ والنَّتيجةِ، ولكنَّها مُتَّحدةٌ، وذاتُ طبيعةٍ واحدةٍ، وفي نَسَقٍ واحدٍ من حيث تَحَقُّقِ مُقتضياتِها.
وهذا بالذَّات هو ما تَعنيه الرِّواياتُ الّتي نَصَّت على حَتميَّة بعض علامات الظُّهور، وأَوْضَحَت أنَّ سائرَ ما يُذكَرُ في الرِّوايات -ممَّا عدا ذلك- قد لا يَقَع بعضٌ منه، إمَّا لاحتمالِ أنْ لا يوجد شرطُ تأثيرِ مُقتضيه، أو لِوجودِ المانِع من التَّأثير.
* من كتابه: (دراسة في علامات الظّهور) - بتصرّف يسير