العلمانيّة اللّبنانيّة المُستحيلة
طائفيّةُ لبنان المُنتَصِرة
ـــــ محمود إبراهيم ـــــ
يعود السِّجالُ في لبنان ليَستأنفَ دورتَه التّقليديّة في فضاء الاحتدام على جبهتَي الطّائفيّة والعلمانيّة. ولمَّا لم يكن في الأمر ما يدعو إلى الاستهجان، يبقى في الصُّورة ما يبرِّر الكلام على اللِّقاء المستحيل بين النِّظام الطَّائفيّ وطموحات فئةٍ واسعةٍ من اللّبنانيّين إلى مغادرة قيوده الصَّمّاء. |
ربَّما كانت شائعة «الزَّواج المدنيّ» و«قانون الانتخاب» من أبرز العناوين الّتي تستعيد النّقاش المديد حول استحالة تحرُّر اللّبنانيّين من قيود النّظام الطّائفيّ.
فما الّذي يمكن استيلادُه من نقاشٍ كهذا؟
أكثرُ شيءٍ يحيِّرُ كثرةً من اللُّبنانيّين ولا يَملكون جواباً عليه، هو ذلك المُركَّب العجيب من المُساكنة بين العلمانيّ والطّائفيّ. فلا أحد من بين تلك الكثرة يستطيع أن يُعيِّن -بدقَّة- طبيعة، ولون، وماهيَّة النِّظام السّياسيّ في لبنان. فلا هو نظامٌ طائفيٌّ صافٍ، ولا هو كذلك نظامٌ علمانيٌّ بالمعنى الذي يُفهم منه فَصْلُ الدّولة عن الدِّين. وهو بطبيعة الحال نظامٌ لم يتركَّب على مصالَحةٍ مُعلنة بين طرفَين، يَبلغ الاحتدامُ بينهما حدَّ الانتفاء المُتبادَل.
الحاصل في لبنان هو ضربٌ من المفارقةِ يَظهر فيها الواقعُ السّياسيُّ الاجتماعيُّ وكأنَّه جامع التّناقضات الثّلاث، حيثُ تَتساكن العلمانيّة مع الطّائفيّة من دون عَقْد. فليس ثمَّة اعترافٍ متبادَل بينهما؛ بل شيءٌ من القبول الكاذب، تبدو فيه الطّائفيّةُ أشبه بِوِعاءٍ يَحوي ألواناً وأفكاراً واعتقاداتٍ وأهواءَ لا حَصْرَ لها...
كيف لي أن أكونَ لبنانيّاً؟
هكذا يُسائل العلمانيُّ اللّبنانيُّ نفسَه اليوم كغريبٍ لا ميراثَ له في منازل الأهل. يَتطلَّع حواليه لِيَجِد كيف أحاطت به طائفيّاتٌ من كلِّ جانب. حتّى أنّها اكتظَّت به واكتظَّ بها، فلا يَكاد يَرغبُ مخرجاً من أسوارِها المُغلقة. لكنَّه، وهو على هذه الحال، يَظلُّ على يقينٍ مقيمٍ بأنَّ الحصارَ المضروبَ من حوله لا يَتأتّى من خصومٍ مرئيِّين لكي تَظهرَ أمامَه الحدودُ والتُّخوم والخيارات. إنَّه يَشعر وكأنَّه محاصرٌ من بيتِ أبيه. فلا يُغادرُ هذا البيت إلَّا ليَعود إليه. لكأنَّ منازلَ الطَّوائف أمكنةٌ مبنيَّةٌ على حُكْمِ القضاءِ والقدَر.
الحاصلُ -على وجه العموم- هو خلافُ ما يخالفُ قَدَرَ الطّائفيّة وقضاءَها. فالصُّورة الّتي يَجِدُ العلمانيُّ اللّبنانيُّ نفسَه في داخلها، هي أشبه بـ «قلعةٍ صمّاء» يَستحيل عليه مغادرتها؛ أو كَمَن لا مناصَّ له إلَّا التّكيُّف مع أنظمتها الصّارمة: عليه أن يَكتفيَ بأن يعيشَ علمانيَّته في ذهنِه ويعيشَ طائفيَّته في الخارج، كما يقول المُتفلسفة. إلَّا أنَّه -أي العلمانيّ- لا يَلبث حين يَأخذه الظَّنُّ أنَّه بالِغٌ «لبنانيّة صافية من أيِّ شائبة»، حتّى يَغشاهُ الوهمُ وتَصدمه الخيبةُ. فإذا به يعود القهقرى إلى محلِّ الاشتباه إيّاه، ثمَّ يَنبري إلى ما يُشبِه التَّوقيع على هويَّةٍ ناقصة.
رؤيةُ اللَّاطائفيِّين إلى حالِ لبنان اليوم هي نفسها الّتي يُعيدونها كلَّما رفعوا الشَّكوى على ما هم عليه من: «انتَصرَت الطّائفيّة، وتفوَّقت المذهبيّة، وتراجعت المُواطنيّة، وفَشلت العلمانيّة، ونَأت الدّيموقراطيّة، ودخل لبنان في القرونِ الوسطى وأقامَ في ماضِيه».
من طَرَفِنا نُضيف إليه الآتي: ما كانت الطّائفيّة اللّبنانيّة إلَّا مُنتصرة، وحين حلَّتْ على أرضِ انتصارها، أسَّسَت للماضي فيما هي تؤسِّسُ للحاضر والمستقبل. معها بات لبنان أدنى إلى مستوطناتٍ مُتَشظِّية منه إلى وطنٍ موصول. أمَّا في داخل قلاع الطّائفيّة الصمّاء، فلا عقلانيَّة بخارجةٍ عن عقلانيَّتها، ولا مواطنيّةَ تنأى من خرائطِها المَرسومة بإحكام. حتّى لقد صارت العقلانيّةُ الطّائفيّة طَبْعاً حميماً لِطَبائع النَّاس على الجملة.
لا بدَّ إذاً من عقلانيّةٍ مُعاكِسة. لكن من أينَ الطَّريق إليها؟
عقلانيّةُ جمع الأضداد، والشّرائط
إذا كان لا مهرب من ذلك، فلَنا أنْ نقترحَ على العلمانيِّ اللُّبنانيّ ما نسمِّيه بـ «عقلانيّة جمع الأضداد». نقول هذا ولو لم يوافقنا «مَناطقة» الطَّوائف وفلاسفتهم على مثل هذا الدَّعوى المُفارقة.
في تعريفنا الإجماليّ لهذه العقلانيّة، سوف نَجِدُ أوَّلَ شرائطِها في الصَّبر على ما نَسْتَكْرِه من عقلانيّة الطَّوائف، مثلما نَجِده في الصَّبر على ما نحبُّ ممَّا نأتنِسُ إليه من أفكارٍ وظنونٍ وخواطرَ جميلة.
وثاني شرائطها، التَّبصُّر بالنَّشأة الأولى للبنان؛ أي بالظُّروف والأوضاع والأحوال الّتي حَكَمت هذا البلد منذ تأسيسِه كَكيانٍ سياسيٍّ ودولة، في الرُّبع الأوَّل من القرن العشرين. فلو عَرَفْنا النَّشأةَ الأولى كيف جَرَت، لَهانَت علينا كيف تَجري النَّشآتُ التّالية الأخرى.
وثالث شرائطها، إدراكُ المسافات الطَّفيفة بين «طَلَب الحقائق» الَّذي يَبسطُ للنَّاس أماكنهم الآمنة والسّعيدة، و«صناعة الحقائق» بوصفها مهنةَ الأقوياء الَّذين يُقيمون الموازين على أحكام الوقائع الصَّارمة، لا على أحكامِ القيمةِ والاعتبار.
وأمَّا رابع الشَّرائط، وليس آخرها، فإنَّه في تدبُّر المفاهيم الوافدة إلينا من عُصورِ الحداثة القريبة والبعيدة، وهي المفاهيم الّتي أخذناها عن ظهرِ قلبٍ على الجملة: مفهوم الدَّولة - مفهوم العَلمنة - مفهوم المجتمع المدنيّ - مفهوم المواطنيّة - إلى آخر السّلسلة ممّا شقَّ علينا أنْ نَجِد لها منفذاً على مهادِ مستوطناتِنا المُترامية الأطراف، من النَّاقورة إلى النَّهر الكبير، إلى ما تبقَّى من ذاكرة الأقضية الأربعة..
***
لمْ أعثر، شأني شأن كثيرين من اللَّاطائفيِّين اللّبنانيّين، على ضالَّتين، كأنْ أَجِدَ بابَ الضَّوء لكي أُفارقَ تشاؤمَ اللّبنانيِّين المُزمن... حتَّى لَأكاد أُعلن عن خَشيَتي البالغة: من أنْ يَصِلَ اللّبنانيّ اللّاطائفيّ إلى الدّرجة التي يقول فيها: لن أكون لبنانيّاً أبداً...
تلك خَشيةٌ ما زلتُ أحرصُ على أنْ أَضَعَها في مقامِ الاحتمال، دون مقام التَّحقُّق. وهذا مصدر تفاؤلي المُفرط. مع أنَّ كلّ يومٍ يمرُّ من عمر مستوطنات الطَّوائف، والمذاهب، والحزبيَّات الضّيِّقة، يقصُّ من حَبْلِ الفألِ والرَّجاء قطعةً إضافيَّة.
إنَّنا اليوم نبدو كما لو أنَّنا باقون على سيرتنا الأولى: على شيءٍ سَمَّوْه وطناً. على شيءٍ ليس مثلَه شيءٌ لا في الأوطان القريبة، ولا في تلك العامِرة في أقصى الأرض.
لكن حتَّى ذلك الحين الّذي يَنفسح لبنان فيه عن طَوْرٍ آخر، لِنبحث عمَّا ينجِّينا من رمال الطَّوائف المتحرِّكة.