سَفَرُ الرُّوحِ نحوَ الحقِّ تبارك وتعالى
تَلازمُ التَّقوى والمعرفة
ـــــ المولى الفَيْض الكاشانيّ قدّس سرّه ـــــ
* المولى محمّد بن المرتضى المدعوّ بـ «محسن»، والمعروف بـ «الفيض الكاشانيّ»، أحدُ نوابغِ القرن الحادي عشر (ت: 1091 للهجرة)، كان مُتبحِّراً في جميع العلوم.
* من أبرز تلامذة صدر المتألّهين الشّيرازيّ، وصهرُه. أَثنى عليه العلماء ثناءً بالغاً، من ذلك قول العلّامة (صاحب الميزان): «هو مِمّن جَمَع العلوم، وقَلَّ نظيرُه في العالم الإسلاميّ».
* هذا النص من ترجمةٍ لِوصيَّةٍ أخلاقيّةٍ كَتَبها لِبعضِ إخوانه، وسمّاها (زاد السَّالك) أو (زاد السَّالكين)، ذَكَرها الشَّيخ الطّهرانيّ في (الذَّريعة)، مُشيراً إلى أنّه - أي صاحب (الذّريعة)- اختَصَرها نظماً في خمسين بيتاً.
* قال (صاحب الذَّريعة): «عندما رأيْتُ نسخة هذا الكتاب، ونظرْتُ في محتوياتِه، تَرَك في نفسي تأثيراً إلى درجةٍ لم أستطع أن أكتفي بمطالعة واحدة، فقُمْتُ بتلخيصه في صفحةٍ واحدةٍ جاعلاً إيّاها على شكل فهرس، وذلك لأستفيد أنا وعائلتي من مطالعة مضامينها الحقّة، والعمل بإرشاداتها ودستوراتها الشَّرعيّة».
* قامت «جمعيّة المعارف الإسلاميّة الثّقافيّة» في لبنان بنشر هذه الوصيّة وضمّنتها شروحاتٍ وتعليقاتٍ، ومن هذه الطبعة اقتُبِست هذه المقدّمة. |
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
﴿قُلِ الْحَمْدُ للهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى﴾ النمل:59.
أمّا بعد، فهذه الرِّسالة الموسومة بـ «زاد السَّالك»، كُتِبَت جواباً لسؤالِ أحدِ الإخوة الرّوحانيّين الّذي كان قد سَألَ عن كيفيّة سلوك طريق الحقّ.
إعلم- أيَّدَك اللهُ بروحٍ منه- كما أنّ للسَّفرِ الصُّوريّ [أي السَّفر المتعارَف، وهو الانتقال من مكانٍ إلى مكانٍ ومن بلدٍ إلى بلدٍ] مبدأٌ ومنتَهى، ومسافةٌ ومسيرٌ، وزادٌ وراحلةٌ، ورفيقٌ ودليلٌ، فكذلك للسَّفرِ المعنويِّ، الّذي هو سَفَرُ الرُّوحِ نحو الحقِّ سبحانَه وتعالى، جميعُ هذه الأمور.
فَمَبدأُه: الجهل والنُّقصان الطّبيعيّ الذي أُخرج معَه [الإنسان] من بطن أمّه: ﴿وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا..﴾ النّحل:78.
ومُنتهاه: الكمالُ الحقيقيّ الّذي هو فوقَ جميع الكمالات، وهو الوصولُ إلى الحقّ سبحانَه وتعالى: ﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى﴾ النّجم:42. ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيه﴾ الانشقاق:6.
ومسافة الطَّريق في هذا السَّفَر: هي مراتبُ الكمالات العلميّة والعمليّة الّتي تَطويها الرُّوح شيئاً فشيئاً، فيما لو كانت موافِقةً لِصراطِ الشَّرعِ المُستقيم الّذي هو طريقُ الأولياء والأصفياء:
﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ..﴾ الأنعام:153.
وهذه الكمالات مُترتّبةٌ بعضُها على بعض، فلا يُمكن الانتقالُ إلى الكمالات المتأخِّرة ما لم يُطوَ الكمالُ المتقدِّم.
ومنازلُ هذا السَّفر: هي الصِّفاتُ الحميدة والأخلاقُ الكريمة، حيث يحصلُ التَّرقِّي والانتقال في أحوالِ ومقاماتِ الرُّوح من كلِّ منزلةٍ إلى المنزلةِ التي فوقَها بشكلٍ تدريجيّ.
والمنزلُ الأوّل: هو اليَقَظة، والّتي هي عبارة عن المعرفة.
والمنزلُ الأخير: هو التَّوحيد، الّذي هو عبارة عن المَقصدِ الأقصى لهذا السَّفر.
وتفاصيلُ هذه المنازل ودرجاتُها مذكورةٌ في كتاب (منازل السّائرين). [للشّيخ الأنصاريّ]
ومسيرُ هذا السَّفر: هو السَّعيُ التّامّ، والجهدُ البالغُ، وانتخاب الهمّة في قَطْعِ هذه المنازل بمجاهدةِ النَّفس ورياضتِها؛ بِحمْلِ أعباءِ التَّكاليف الشّرعيّة من الفرائض والسُّنَن والآداب، ومراقبةِ النّفس ومحاسبتِها آناً فآناً ولحظةً فلحظة، وحَصْرِ الهمومِ وجعلِها همّاً واحداً، والانقطاعِ إلى الحقِّ سبحانَه وتعالى: ﴿..وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا﴾ المزّمّل:8. ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا..﴾ العنكبوت:69.
وزادُ هذا السَّفر: هو التَّقوى، ﴿..تَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى..﴾ البقرة:197.
والتَّقوى عبارةٌ عن القيامِ بِما أَمَرَ به الشَّارعُ، والاجتنابُ عمّا نَهى عنه عن بصيرةٍ، لِيَكونَ القلبُ بنورِ الشَّرع وصَيقل [الصّيقل: الشّحذُ والجلاء] تكاليفِه مستعدّاً لِتَلقّي فيوضِ المعرفة من الحقِّ عزَّ وجلَّ: ﴿..وَاتَّقُواْ اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ..﴾ البقرة:282.
وكما أنَّ المُسافرَ الصُّوريّ ما لم يَحصل على قوّةِ البَدَن من الزَّادِ لا يقدر على قطع الطَّريق، فكذلك المُسافر المعنويّ، ما لم يَقُمْ بالتَّقوى والطَّهارة الشَّرعيّة ظاهراً وباطناً، ويقوّي الرُّوح بها، فَلَنْ تُفاض عليه العلومُ والمعارف والأخلاقُ الحميدةُ المترتِّبةُ على التَّقوى، والّتي تحصل التَّقوى منها أيضاً، لا على سبيل الدَّور.
ومَثَلُه كَمَثَلِ شخصٍ كان في ليلةٍ مُظلمة، بِيَدِه مصباح، يرى بِنورِه طريقاً ويَمشي فيه، وكلّما يَرفع قدماً تُضاءُ له قطعةٌ من ذلك الطَّريق فيَمشي فيها، وهكذا. وما لم يَرفع قدَمَه ويمشي فلا ضياء، وما لم يُضاء له فلا يقدرُ على المشي. فتلك الرُّؤية بمنزلةِ المعرفة، وذلك السَّيرُ بمنزلةِ العمل والتَّقوى: «مَنْ عَمِلَ بما عَلِمَ، ورَّثَهُ اللهُ عِلْمَ ما لمْ يَعلم». «إنَّ العلمَ يَهتفُ بالعَمل، فإنْ أجابَهُ وإلَّا ارْتَحَل». «لا يَقبل اللهُ عملاً إلَّا بِمعرفةٍ، ولا معرفةً إلَّا بعملٍ، فمَن عَرفَ دَلَّتهُ المعرفةُ على العملِ، ومَنْ لم يَعمل فلا معرفةَ له، ألَا إنَّ الإيمانَ بعضُه من بعضٍ» كذا عن الصَّادق عليه السلام.
وكما أنَّ مَن لا يعرف الطَّريق في السَّفر الصُّوريّ لا يَصِلُ إلى المقصد، فكذلك مَن لم تكُن له بصيرةٌ في العمل في السَّفرِ المعنويِّ، لا يَصِلُ إلى المقصد: «العاملُ على غيرِ بصيرةٍ كالسَّائر على غير الطَّريق، لا يَزيدُه كثرةُ (سرعة) السَّير إلَّا بُعداً».
وراحلةُ هذا السَّفر: هي البَدَن وقواه، فكما أنّ في السَّفر الصُّوريّ إذا كانت الرَّاحلةُ ضعيفةً وفيها علّة لا يمكنُها طيّ الطَّريق، فكذلك في هذا السَّفر، إذا لم يكن البدن صحيحاً وقويّاً لا يُمكنه الإتيان بأيّ عمل، فَتحصيلُ المعاشِ ضروريٌّ من هذه الجهة. وما هو ضروريّ، واجبٌ بمقدارِ الضَّرورة.
إذاً، فطَلَبُ الفضول في المعاشِ مانعٌ من السُّلوك. والدّنيا المذمومة التي ذَكَروا التَّحذيرَ منها هي عبارة عن ذلك الفُضول الذي هو وبالٌ على صاحِبِه. وأمّا المقدارُ الضّروريّ منه فداخلٌ في أمورِ الآخرةِ، وتحصيلُه عبادة.
وكما أنّ مَن تَرَكَ راحِلَتَه تَرعى كيف تشاء فإنّه لا يَطوي الطَّريق، فكذلك في هذا السَّفر إذا تَرَك بَدَنَه وقواه تفعلُ كلَّ ما تَشتهيه، ولم تُقيَّد بالآداب والسُّنَن الشَّرعيّة، ولم يُمسِك لِجامَها بَيَدِه، فإنّه لا يَطوي طريق الحقّ.
ورفاقُ هذا الطَّريق: هم العلماءُ والصُّلَحاءُ والعُبّادُ السَّالكون، الذين يَمدُّ أحدُهم الآخرَ ويُعينُ بعضُهم بعضاً، فليس كلُّ شخصٍ يُمكنُه الاطِّلاعُ بسرعةٍ على عَيْبِ نفسِه، ولكنّه يَقِفُ بسرعةٍ على عَيْبِ غيرِه. إذاً، فإذا قامَ عدّةُ أشخاصٍ بِبناءِ أنفسهم سويّةً، وأخبَرَ أحدُهُم الآخرَ بعيوبِه وآفاته، فإنَّ الطَّريقَ يُطْوى لهم بسرعة، ويأمنون من اللِّصِّ وسارقِ الدِّين، فإنَّ الشَّيطان إلى المُنفرِدِ أقربُ منهُ إلى الجماعةِ، و«يدُ اللهِ على الجماعة». [بمَعنى مع الجماعة]
وإذا خَرَج أحدُهُم عن الطَّريق فسيُخبره الآخرُ بذلك، وأمّا إذا كان وحيداً فهَيهات أنْ يَقِفَ على ذلك.
ودليلُ هذا الطَّريق: هو النّبيّ صلّى الله عليه وآله، وسائرُ الأئمّة المعصومين عليهم السلام الَّذين هم أدِلّاء الطَّريق، وقد وَضَعوا السُّنَن والآداب، وأخْبَروا عن مصالحِ الطَّريق ومفاسِده، وسَلَكوا هذا الطَّريق بأنفسِهم، وقد طُلِب من الأمّة الاقتداءُ والتَّأسِّي بهم: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ..﴾ الأحزاب:21، ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ..﴾ آل عمران:31.