﴿..سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾
إسماعيلُ عليه السلام في المذبَح
_____آية الله الشّيخ ناصر مكارم
الشّيرازيّ*______
كان عمرُ إسماعيل عليه السلام ثلاثة عشر عاماً حينما رأى النبيّ إبراهيم
عليه
السلام ذلك المنام العجيب المحيِّر، والَّذي يدلُّ على بدء امتحانٍ عسيرٍ آخَر.
رأى في المنام أنَّ اللهَ تعالى يأمرُه بذبحِ ابنه الوحيد، وهو يعلم أنَّ ما يَراه
الأنبياءُ في نومهم حقيقة وليس من وساوس الشَّياطين، وقد تكرَّرت رؤياه هذه ليلتَين
أُخريَين، فكان ذلك تأكيداً على ضرورة تنفيذ الأمر فوراً.
امتحانٌ شاقٌّ آخَر يمرُّ على إبراهيم عليه السلام، خليلِ الرّحمن الَّذي نَجح في جميع الامتحانات
الصّعبة السّابقة وخرج منها مرفوع الرّأس، وهو امتحانٌ يَفرض عليه وَضع عواطف الأبوّة
جانباً، والامتثال لأوامر الله بذبح ابنه اليافع الذي التقاه بعد طول غيابٍ عنه.
ولكن قبل كلِّ شيء، فكَّر إبراهيم عليه السلام في إعداد ابنه لهذا الأمر، حيث قال: ﴿..يا
بُنيَّ إنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى..﴾ الصافات:102.
رحَّب الولدُ بالأمر الإلهيّ بصدرٍ واسعٍ وطِيبة
نفسٍ، وبصراحةٍ واضحةٍ قال لوالده: ﴿..قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ..﴾ الصافات:102، ولا تفكِّر في أمري، فإنَّك ﴿..سَتَجِدُنِي
إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ الصافات:102.
فمن جهة، الأبُ يُصارِح وَلدَه البالغ من العمر
ثلاثة عشر عاماً بقضيّة الذّبح، ويطلب منه إعطاء رأيه فيها، حيث جَعَلَه هنا شخصيّةً
مستقلّةً حرَّة الإرادة، فهو لم يقصد أبداً خداعَ ولده، ودعوته إلى ساحة الامتحان العسير
بصورةٍ عمياء، بل رَغب بإشراكه في هذا الجهاد الكبير ضدَّ النّفس، وجَعْلِه يَستشعر
حلاوةَ لذَّة التّسليم لأمرِ الله والرِّضى به، كما استَشْعر حلاوتَها هو.
ومن جهةٍ أُخرى، عمد الابن إلى ترسيخ عزم والده
وتصميمِه في تنفيذ ما أُمر به، إذ لم يقل له: اذبَحْني، وإنَّما قال له: افعَلْ ما
أنتَ مأمورٌ به، فإنَّني مُستسلمٌ لهذا الأمر، وخاصَّةً أنَّه خاطب أباه بكلمة يا أبتِ،
كي يوضِّح أنَّ هذه القضيّة لا تُقلِّل من عاطفة الابن تجاه أبيه ولو بمقدار ذرَّة،
وأنَّ أمرَ الله تعالى هو فوق كلِّ شيء.
ومن جهةٍ ثالثةٍ، أظهَر أدباً رفيعاً اتّجاه الله
سبحانه وتعالى، وأن لا يَعتمد أحدٌ على إيمانِه وإرادتِه وتصميمِه فقط، وإنَّما يَعتمد
على إرادةِ ومشيئة الله، وبعبارةٍ أخرى: أنْ يَطلب توفيق الامتثال والاستقامة من الباري
عزّ وجلّ.
جزاءُ المحسنين
وبهذا الشّكل يَجتازُ الأبُ وابنُه المرحلةَ الأولى
من هذا الامتحان الصَّعب بانتصارٍ كامل.
قَرُبَت اللَّحظاتُ الحسّاسة، وعندما رأى إبراهيم
عليه
السلام درجةَ استسلامِ ولدِه للأمر الإلهيّ احتَضَنَه وقبَّل وَجهَه، وفي هذه
اللَّحظة بَكى الاثنان، البكاء الّذي يُبرِز العواطف الإنسانيّة ومقدّمة الشّوق للقاء
الله عزّ وجلّ. القرآن الكريم يوضحُ هذا الأمر في جملةٍ قصيرةٍ، لكنَّها مليئة بالمعاني،
يقول تعالى: ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾ الصّافات:103.
كبَّ إبراهيمُ عليه السلام ابنَه على جبينِه، ومرَّر السّكّين بسرعة
وقوّة على رقبةِ ابنِه، وكان حبُّ اللهِ سبحانه الشّيء الوحيد الّذي يدفعه إلى تنفيذ
الأمر، ومن دون أي تردُّد. إلَّا أن السّكّين الحادّة لم تَترك أدنى أَثَرٍ على رقبة
إسماعيل اللّطيفة. هنا تعجّبَ إبراهيم عليه السلام، فَمرَّر السّكّين مرّةً أخرى على رقبة
ولده، ولكنّها -كالمرّة السّابقة- لم تؤثِّر أبداً. نعم! إبراهيم الخليل عليه السلام يقول للسّكّين: اِذبحي، لكنَّ اللهَ الجليل
يُعطي أوامرَه للسّكّين: أنْ لا تذبحي، والسّكّينُ لا تستجيب سوى لأوامر الباري تبارك
وتعالى.
وهنا يُنهي القرآن الكريم كلَّ حالات التّرقُّب
بعبارةٍ قصيرةٍ مليئةٍ بالمعاني العميقة: ﴿وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ *
قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ الصّافات:104-105، إذ نَمنحهم توفيق النّجاح في الامتحان،
ونَحفظ لهم وَلَدَهُم العزيز، ثمَّ يُقرِّرُ القرآنُ الكريم: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ
الْمُبِينُ﴾ الصّافات:106.
___________
*
(الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل)، مختصر.