هكذا تحدّثَ الإمامُ الخمينيّ عن الحقيقـة المحمّديّـة
مبدأُ الظّهور وغايتُه، وصورةُ أصْلِ النّور ومادّتُه
ـــــ الشّيخ حسين كوراني ـــــ
* المحمّدِيّةُ الحسينيّة، محمّدِيّةُ الحسَين، الحسينيّةُ المحمّدِيّة، حسينٌ منّي وأنا من حسين -لا فَرق- هويّةُ أبي مصطفى ومنهجُه التّوحيديّ والعقيديّ والفقهيّ والعِرفانيّ والجهاديّ ببُعدَيه الأكبر والأصغر.
* ما يلي، تعريفٌ بمنَهج الإمام الخمينيّ قدّس سرّه في التّعامل مع حقائقِ الاعتقاد برسولِ الله صلّى الله عليه وآله، وأهلِ البيت عليهم السلام.
المدخلُ الضّرورة –في هذا العصر- إلى معرفةٍ أفضلَ للمُصطفى الحبيب وآله الأطهار هو فكرُ الإمام الخمينيّ ونهجُه الذي عُرف باسم «خطّ الإمام».
مع الإمام الخمينيّ يتّخذُ الحديث عن رسول الله وعن أهل البيت صَلّى الله عليه وعليهم، منحًى آخر، يختلفُ جذريّاً عن نتاجِ الفكر الذي أفرزَتْه الغارةُ على العالم الإسلاميّ، ليتواصَلَ هذا المَنحى المعاصرالأصيل، مع نهج علمائنا الأبرار، في كلّ عصر سواءً مَن استطاعَ منهم أن يُسمِعَ الآخرين صوتَه، أم مَن لم يستطع رغم كلِّ الجهود المشكورةِ التي بُذِلَت.
مع الإمام الخمينيّ العارف، الفقيه، والمجاهد، والحاكم، أُعيد الاعتبارُ للغةٍ كانت تُتَّهَمُ في كثيرٍ من أوساطنا -بغير حقّ- بأنّها لغةُ عصور الانحطاطِ التي تكوّنت نتيجةَ عاملَين:
أ) الثّقافات الوافدة: أدّى عدمُ قدرةِ البعض على محاكمةِ الوافد من الثّقافات المترجمة، والهنديّة والفارسيّة منها بالخصوص، إلى التّأثُّر بها والصّدور منها.
ب) أجواءُ القمع والتَّنكيل: كانت نتيجة ردّة الفعل على القمع والمطاردة، أنْ تجلّت في هذه اللّغة شَطَحاتُ التّأليه، فإذا بالحديث عن النّبيّ أو الإمام والمعصوم عموماً -بحسب هذه الأوساط المتّهمة المتجنّية- حديثُ غُلُوٍّ وانحراف.
بإعادة الاعتبار الخمينيّة هذه، أصبح بالإمكان رَدْمُ الهُوّة التي أُقيمت بين الأُمّة والمعصوم وبين الأُمّة والنّصّ، ليشكّلَ هذا النّهجُ وسيلةَ تَواصُلِ حاضر الأمّة مع صدرِ الإسلام والتّمهيد الجادّ لظهورِ بقيّة الله في الأرَضين أرواحُنا لتراب مَقْدَمِه الفداء.
وما زال الأمرُ بحاجةٍ إلى الكثير من الجهود المُضنية.
مع الإمام العارف أصبحَ بالوسع الحديث دون حذَر -وليس مطلَقاً- عن الحقيقة المحمّدِيّة، والإنسان الكامل، والعقل الكلّيّ، والنّور الأوّل، والدّورة المحمّدِيّة وأنّها بمعنًى هي «ليلةُ القدر» وبمعنًى آخر «ليلةُ القدر» هي الزّهراء عليها السلام. وأصبح بالإمكان الحديث عن الرّوحانيّة المحمّدِيّة والعلويّة عليهما وعلى آلهما الصّلاة والسّلام، وغير ذلك ممّا يرجع كلُّه إلى القرآن الكريم والثّابت من الحديث الشّريف، إلّا أنّه أصبحَ غريباً مغيّباً مُستَهجناً، ونوعاً من «الغنوصيّة» والخرافة.
مع عبد الله المسدّد أبي مصطفى صارَ ممكناً للبعض أن يُصغوا بعضَ الشّيء إلى هذه اللّغة، التي كتبَ بها الإمام عام 1354 للهجرة، فقال:
«وَصَلِّ اللّهمَّ على مبدأ الظّهورِ وغايتِه، وصورةِ أصلِ النّور ومادّتِه الهَيولى الأولى والبرزخِ الكُبرى [كذا]، الذي دَنا فرفضَ التّعيُّنات فتَدّلى فكان قابَ قوسَي الوجود، وتمامَ دائرةِ الغيب والشّهود، أو أدنى الذي هو مقامُ العَماء، بل لا مقامَ هنا على الرّأي الأسنى، وعلى آلِه مفاتيحِ الظّهور ومصابيحِ النّور، بل نورٌ على نورٍ، غصنِ الشّجرةِ المباركةِ الزّيتونة، والسّدرةِ المنتهى، وأصلِهما، وجنسِ الكون الجامع والحقيقةِ الكليّة، وفصلِهما، لا سيّما خاتم الولاية المحمّديّة، ومَقْبض فيوضاتِ الأحمديّة، الذي يظهرُ بالرّبوبيّة بعد ما ظهرَ آباؤه عليهم السلام بالعبوديّة، فإنَّ العبوديّةَ جوهرةٌ كُنْهُها الرّبوبيّة، خليفة الله في المُلك والملكوت، وإمام أئمّة قُطّان الجَبروت، جامع أحديّة الأسماء الإلهيّة، ومظهر تجلّيات الأوّليّة والآخريّة، الحجَّة الغائب المنتظَر، ونتيجة مَنْ سلفَ وغَبَر، أرواحنا له الفداء وجعلَنا اللهُ من أنصاره». (من إجازة الإمام الفلسفيّة للميرزا جواد الهمدانيّ عام 1354 هجريّ قمريّ، صحيفهء نور: ج 1، ص 4-5-6، والنّصّ في الأصل بالعربيّة).
ولا أبالغُ أبداً إذا قلتُ لولا الإمام الخمينيّ لما كان باستطاعتِنا الحديثُ عن كثيرٍ من مفاهيمِ الولاية، التي ذهبَ كثيرون ضحايا سوءِ الحديث عنها.
***
كان أبو مصطفى قد حدّدَ هويّتَه والمنهجَ حين قالَ بإيجاز: «كلُّ ما عندنا من عاشوراء».
المحمّدِيةُ الحسينيّة، محمّدِيّةُ الحسين، الحسينيّةُ المحمّدِيّة، حسينٌ منّي وأنا من حسين –لا فَرق- هويّةُ أبي مصطفى ومنهجُه التّوحيديّ والعقيديّ والفقهيّ والعِرفانيّ والجهاديّ ببُعدَيه الأكبر والأصغر.
أبو مصطفى محمّدِيٌّ أوّلاً وآخراً منطلَقاً ومساراً، تَوَقُّدَ عقل، و تَوَهُّجَ خَلجات، وحَرَمَ قلبٍ.
فيضُ حبِّه والعشق: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ آل عمران:31.
وفي غاية البَداهة أن يحول بينَنا وبين إدراك أبعاد محمّدِيّة أبي مصطفى، صنمُ ما ألِفنا من تحجيمِ العصمة والمعصوم، بما يمثِّلُه هذا الصّنمُ من أسوإ نتائج الغارة الثّقافيّة التي شُنّت على هذه الأمّة فكان بعضُ إفرازاتها الاستعمارُ المستمرُّ المُطبِق، ما خلا واحاتِ التّحرُّر والنّور، فرديّةً وجماعيّة.
أَوَلَسنا محمّدِيّين؟!
بلى.. إلّا أنّ حاجتَنا إلى «خطّ الإمام» في البُعد العقائديّ هي التي تُحتِّمُ حاجتَنا إليه في الأبعاد الثّلاثة: التّزكية والسّياسة والثّورة. أي: التّربية والعمل الحركيّ والتّحرُّر.
من البُعد العقائديّ تبدأُ رحلةُ التّوثّبِ الخمينيّة في محرابِه الذي يتّسعُ عندَه ليستوعبَ الكونَ الأكبرَ من الدّنيا والجنّة، لأنّه من حقيقة رضوان الله تعالى: ﴿..وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ..﴾ التوبة:72.
يرى الإمامُ أنّ المحرابَ ساحةُ الحرب على الشّيطان.
وعندما تضربُ لَوثةُ تحجيمِ الإنسان للإنسان، فبديهيٌّ أن يفتكَ به مرضُ «البُعد الواحد» فيغرقَ في حَمْأَة «الأنا»: ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا﴾ الفرقان:43.
ومَن اتّخذ إلَهه هواه، لن يعرفَ نفسَه، فكيف يعرفُ خيرَ خَلْق الله تعالى، فضلاً عن أن يتّبعه، ويُحسنَ الاقتداء، فيعرفَ ربّه عّز وجلّ ويخشعَ في محراب عظَمته جلّت قدرتُه متّخذاً موقعَه في منظومةِ تسبيح الله تعالى: ﴿..وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ..﴾ الإسراء:44.
سيَشدُّه الإخلادُ إلى الأرض والحمإ المسنونِ بألفِ وثاق إلى التّعامل مع العصمةِ والمعصوم بما يتناسب مع قُمقم «الأنا» الذي يجعلُه في أحسن حالاته بُلبلاً سجينَ القَفص يغرِّدُ خارجَ سِربِه، يخاطبُه الشّاعرُ بقولِه:
يا بلبلَ القفصِ المُطِلِّ، وشاعرَ الرَّوضِ الأَغَنِّ
ما كان ظنّي أن أراكَ مغنّياً ما كان ظنّي
تَشدو وأنتَ بمحبَسٍ، وأنا أنوحُ بمُطْمَئََنِّ
أَتَصَاغَرَتْ للسّجنِ نفسُك فَهْي من طَرَبٍ تُغنّي
وتَعاظمَتْ نفسي عَلَيَّ فـَخِلْتُ هذا الكونَ سِجنِي
يحدِّدُ الإمامُ الخمينيّ النّقطةَ المركزيّةَ التي تضربُ بُنْيةَ الإنسان فإذا به مقيمٌ على الهَوان، لا يفكِّرُ بالتّحليق في عوالم الأنفُس والآفاق، يضعُ سقفاً للمعصوم متناسباً مع حجمِه هو، الذي أَلِفَه واستمرَأَه –يحدّدُ الإمامُ النّقطةَ المركزيّةَ لذلك- بما يُسمّيه «إنكار المقامات» ويقصدُ به ما يشمل: ضعفَ الإيمانِ بالغَيب، وإنكارَ المغيّباتِ التي قامَ عليها الدّليل، لمجرّدِ أنّها لا تنسجمُ مع ما يظنُّه العقلَ وليس إلّا الشّيطنةَ والنّكراء، أي أنّه يشملُ التّفسيرَ المادّيّ البَحْتَ للأمور، الذي يعني التّنكُّرَ للعقل السّليم بحجّةِ العقلانيّة والحَداثة والتّحضُّر، ولا يختلفُ إطلاقاً عن فَهم اللّفظ مجرّداً من المَعنى، أو فهم الإنسان جسداً لا روحَ له وبالتّالي لا مشاعرَ ولا أحاسيس.
مقاماتُ الإنسان عَزَماتُ فكره وإرهافِ الحسّ وتوهُّجِ المشاعر وتلاطُمِ أمواج المَعنى.
يقولُ الإمام:
«بُنَي: إنْ لم تكن من أهل المقاماتِ المعنويّة، إسعَ أن لا تُنكِر المقاماتِ الرّوحانيّةَ والعرفانيّة، لأنّ الإنكارَ من أخطر مكائد الشّيطان والنّفس الأمّارة بالسّوء التي تصدُّ الإنسانَ عن بلوغِ جميع المراتب الإنسانيّة والمقامات الرّوحانيّة. وهو يدفعُ الإنسان إلى إنكار السّلوك إلى الله والاستهزاء به أحياناً، ممّا يجرُّ إلى الخصومة والمعاداة لهذا الأمر. وبهذا فإنّ ما جاء به جميعُ الأنبياء العظام صَلَوات الله عليهم والأولياء الكرام سلام الله عليهم والكُتب السّماويّة خصوصاًً القرآن الكريم، كتاب بناءِ الإنسان الخالد، ستموتُ قبلَ أن تُولد».(وصايا عرفانيّة: ص 15-18).
في رسالتِه إلى زوجة ابنِه السّيّدة فاطمة الطّباطبائيّ:
«أريد أن لا تُنكري أهلَ المعنى والمعنويّة، تلك المعنويّة التي وردَ ذِكرُها في الكتاب والسُّنّة، والمخالفون تجاهلوها أو تجاهلوهما أو اعتمدوا التّبريرات العاميّة.
وأنا أُوصيكِ أنّ الخطوة الأولى هي الخروجُ من حجاب الإنكار السّميك الذي يمنعُ من أيّ نموّ وأيّة خطوة إيجابيّة، وهذه الخطوة –الخروج من حجاب الإنكار– ليست كمالاً، إلّا أنّها تفتحُ الطّريقَ نحو الكمال، كما أنّ اليَقَظة التي تُعتَبر في منازل السّالكين المنزلَ الأوّل لا يُمكن حسابُها من المنازل، بل هي مقدّمةٌ وفتحٌ للطّريق إلى سائر المنازل.
على كلِّ حال لا يُمكِنُ مع روح الإنكار الاهتداءُ إلى طريقٍ يوصِلُ إلى المعرفة، أولئك الذين يُنكرون مقاماتِ العارفين ومنازلَ السّالكين، فلأنّهم أنانيّون مغرورون، فكلُّ ما لا يعرفونه لا يحملونه على جهلِهم (لا يقولون قد يكونُ صحيحاً ولكنّا نجهلُه) فيُنكرونه حتّى لا تُخدَشَ أنانيّتُهم ويُخدَشَ عُجبُهم (بأنفسهم) "نحن في الأصنام، الصّنمُ نفسُك (صدر بيت لمَولوي. الدفتر الأول)" وما لم تتمّ إزالةُ هذا الصّنم والشّيطان القويّ من الطّريق فلا سبيلَ إليه جلّ وَعَلا، وهيهات أن يُكسَرَ هذا الصّنم، ويروَّض هذا الشّيطان».
«الهدف ممّا ذكرتُه لكَ -رغم أنّي لا شيء، بل أقلُّ حتّى من اللّاشيء- أن ألفتَ نظرَكَ إلى أنّكَ إنْ لم تبلغ مقاماً ما فلا تُنكر المقاماتِ المعنويّة والمعارفَ الإلهيّة، وكُن من أولئك الذين يُحبّون الصّالحين والعارفين، وإنْ لم تَكُن منهم. ولا تغادِر هذه الدّنيا وأنتَ تُكِنُّ العداءَ لأحبابِ الله تعالى». (المصدر نفسه).
ولأنّ مَن يُنكر المقاماتِ فلن يكونَ بوسعِه أن يعرفَ مرتبةَ المؤمنِ العاديّ فضلاً عن الشّهيد فأنّى له بإدراكِ سفحِ قمّةِ المعصوم. لأجلِ ذلك نجدُ الإمامَ الخمينيّ يدخلُ من هذه النّقطة بالذّات إلى أعظم معجزات الحقيقة المحمّدِيّة –القرآن الكريم– ليقول:
«القرآنُ الكريم، كتابُ معرفة الله وطريقِ السّلوك إليه تعالى، حُرِّف على أيدي الأصدقاء الجَهَلة ".." وعُزل جانباً، جعلوا يُصدرون عنه الآراء المُنحرفة، ويفسّرونه بالرّأي -الأمر الذي نَهى عنه جميعُ أئمّة الإسلام عليهم السلام- وراح كلٌّ منهم يتصرّفُ فيه بما تُمليه نفسانيّتُه.
لقد نزل هذا الكتابُ العظيمُ في عصرٍ وفي محيطٍ كان يمثِّلُ أشدَّ حالاتِ الظّلام، كما نزلَ بين قومٍ يعيشون في أشدِّ حالاتِ التّخلُّف وقد أُنزِلَ بواسطةِ شخصٍ وعلى قلبٍ إلهيٍّ لشَخصٍ كان يعيشُ في ذلك المحيط، ولقد تضمّنَ القرآنُ الكريمُ حقائقَ ومعارفَ لم تكن معروفةً آنذاك في العالَم أجمع فضلاً عن المحيط الذي نزلَ فيه.
إنّ من أعظمِ وأسمَى معاجزِ القرآن الكريم هذه المسائل العرفانيّة العظيمة التي لم تَكُن معروفةً لدى فلاسفةِ اليونان، فقد عَجِزَت كُتُبُ أرسطو وأفلاطون -أعظمِ فلاسفة تلك العصور- عن بلوغِها، حتّى أنّ فلاسفةَ الإسلام الذين تَرعرعوا في مهدِ القرآن الكريم، وانتهَلوا منه ما انتهلوا من مختلف المعارف لجأوا إلى تأويلِ الآيات التي صرّحت بحياةِ الموجودات في العالَم مثلاً، والحال أنّ عرفاءَ الإسلام العظام إنّما أخذوا ما قالوه منه، فكلُّ شيءٍ أخَذوه من الإسلام ومن القرآن الكريم».
العرفانُ في القرآن
«المسائلُ العرفانيّةُ الموجودةُ في القرآن الكريم ليست موجودةً في أيّ كتابٍ آخَر. وإنّها لَمُعجزةُ الرّسول الأكرم صلّى الله عليه وآله، إذ كانت معرفتُه بمبدأ الوحي بحيث يكشفُ له أسرارَ الوجود، وكان هو صلّى الله عليه وآله، بدوره يرى الحقائقَ بوضوح ودون أيّ حجاب، وذلك بعروجِه وارتقائه قمّةَ كمال الإنسانيّة. وفي الوقت ذاته كان صلّى الله عليه وآله، حاضراً في جميع أبعاد الإنسانيّة ومراحل الوجود، فمَثَّلَ بذلك أسمَى مظهرٍ لـ: ﴿هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ..﴾ الحديد:3، كما سَعى إلى رفع جميعِ النّاس للوصول إلى تلك المرتبة، وكان يتحمّلُ الآلامَ والمعاناةَ حينَ يراهم عاجزين عن بلوغِ ذلك، ولعلَّ قولَه تعالى: ﴿طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾ طه:1-2، إشارةٌ خفيّة إلى هذا المَعنى، ولعلّ قولَه صلّى الله عليه وآله: "مَا أُوْذِيَ نَبِيٌّ مِثْلَمَا أُوْذِيْتُ" يرتبطُ أيضاً بنفس المعنى».
في قلب المُجْتَلَد
«إنّ أولئك الذين بَلغوا هذا المقامَ أو ما يماثلُه، لا يختارون العِزلةَ عن الخَلْق أو الانزواء، فَهُم مأمورون بإرشادِ الضَّالين وهدايتِهم إلى هذه التّجلّيات، وإنْ كانوا لم يُوَفَّقوا كثيراً في ذلك.
أما أولئك الذين بَلَغوا مرتبةً ما من بعضِ هذه المقامات وغابوا عن أنفسِهم بارتشافِ جُرْعَةٍ ما، وظلّوا بذلك في مقامِ الصَّعق، فإنّهم وإنْ كانوا قد حازوا مرتبةً ومقاماً عظيمَين، إلّا أنّهم لم يبلغوا الكمالَ المطلوب.
لقد خرَّ موسى الكليمُ بحالِ الصَّعْقِ نتيجةَ تجلّي الحقّ، وأفاقَ بعنايةٍ إلهيّةٍ خاصّة، ثم أُمِرَ بتحمُّل أمرٍ ما، وكذا فإنّ خاتَم النّبييّن الرّسول الأكرم صلّى الله عليه وآله، قد أُُمِر [مع] بلوغِه قمّةَ مرتبةِ الإنسانيّة -وما لا تبلغُه الأوهامُ من مظهريّة الإسم الجامع الأعظم- بهدايةِ النّاس حيثُ خاطبَه تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِر﴾ المدّثّر:1-2».
***