النّيّة جوهرُ العبادة
المُسْتَحِلُّ توسيطَ الحقّ مرحومٌ من وجه
ـــــ المحقّق الدّاماد قدّس
سرّه ـــــ
*
«الإخلاصُ روحُ العبادة، والاسمُ الأعظمُ الّذي إذا دُعِيَ اللهُ تعالى به أجاب،
ونِسبتُها إلى جملة العبادات نسبةُ الأرواح إلى الأشباح؛ فالعبادةُ من دونها كأجساد
المَوتى».
*
مقتطَف من (اثنا عشر رسالة) للمحقّق السّيّد محمّد باقر الدّاماد (ت:
1041 للهجرة)، حول غايات العبادة الثّمانية، وما كان
منها مُفسِداً للعمل، مُشيراً إلى أنّ قَصْدَ الله سبحانه حين عَقْد النّيّة يكفي
عنها جميعاً.
الغاياتُ الّتي تَداولها
الأصحابُ بالبَحث عنها ثمانٍ:
* الأولى:
الرّياء. ولا يُرتاب في إخلالها بالإخلاص، وتتَحقّقُ بقَصد مَدْح الرّائي إيّاه أو
التّسبُّب للانتفاع به أو لِدَفعِ ضرره. وفي العبادات المَشوبة بالتّقيّة؛ أصلُ
العبادة تقعُ على وجهِ الإخلاص، وما فُعِل منها تقيّةً فَلَه اعتباران: بالنّظر
إلى أصلِه وهو قربةٌ لله تعالى، وبالنّظر إلى ما طرأ من استدفاعِ الضَّرر وهو لازم؛
لذلك فلا يقدح في اعتبارِه [اعتبار العمل].
وأمّا إحداثُ صلاةٍ -مثلاً- تقيّةً فمِن باب الرّياء قطعاً.
* الثّانية:
قَصدُ الثّواب أو الخلاصِ من العقاب، أو قصدُهما معاً.
* الثّالثة:
فعلُ العبادة شكراً للنِّعَم واستجلاباً للمزيد.
* الرّابعة:
حياءً من الله تعالى.
* الخامسة: حبّاً
لله تعالى.
* السّادسة:
تعظيماً لله تعالى، ومهابةً وانقياداً وإجابةً.
* السّابعة:
موافقةً لإرادته تعالى، وطاعةً لأمره.
* الثّامنة:
لكونه سبحانَه أهلاً للعبادة، وهذه الأخيرة غايةٌ لِذاتها بخلاف ساير الغايات؛
كالحُبّ والامتثال والطّاعة. ومُجْمَعٌ على كَوْن العبادة بها تقعُ صحيحةً معتبرَة،
وهي أكملُ مراتب الإخلاص، وقد أشار إليها أمير المؤمنين صلوات
الله عليه بقولِه: «ما عَبَدتُك طَمَعاً في جنَّتِكَ،
ولا خَوْفاً من نارِكَ، بل وجدتُكَ أهلاً لِلعبادةِ فَعَبَدْتُك».
وغايةُ الثَّواب والعقاب قد قَطَعَ الأصحابُ
بأنَّ قصدَها منشأٌ لفساد العبادة، وكذلك الاستجلاب [استجلاب
المزيد من النِّعَم]. وأمّا الباقية كالحُبّ، والمَهابة،
والطّاعة، فقد اخْتُلِف فيها، والظّاهر أنّها غير ضايرة في النّيّة وفاقاً لقول شيخنا
المحقِّق الشّهيد [الأوّل]
رُفِعَت درجاته في (قواعده)، لأنّ الغَرَض بها اللهُ تعالى في الجملة، ونِعْمَ ما
قال في (الذّكرى): «ويكفي عن الجميع قصدُ الله سبحانَه، الذي هو غايةُ كلِّ مَقصد».
ثمّ النّظر إنّما هو في التّعرّض لتلك
الغايات في النّيّة حين الفعل، وأمّا كون الطّمع والرّجاء والشّكر والحياء بحيث
تنبعث عنها العبادة، ومن الأسباب الباعثة عليها، وإنْ لم تدخل في النّيّة حين إيقاعها،
فلا كلامَ في عدم استضرار صحّة العبادة بها. ولذلك اشتمل الكتابُ والسُّنّة على
المُرهِّبات من الحدود والتّعزيرات والذّمّ والإيعاد بالعقوبات، وعلى المرغِّبات
من المَدح والثّناء في العاجل، والجنّة ونعيمِها في الآجل.
إلّا أنَّ تلك من درجات العابدين، ودرجةُ
العارفين أرفعُ منها؛ فَزُهدُ غير العارِف يرجعُ إلى تجارةٍ ما؛ كأنّه يجري مَجرى
تاجرٍ يشتري بمَتاع الدّنيا نعيمَ الآخرة، وعبادتُه إلى مؤاجَرةٍ ما؛ كأنّه يجري مَجرى
أجيرٍ يعملُ عاجلاً لِيَستعيض عنه بأُجرةٍ يأخذُها آجلاً.
وأمّا العارف، فحيث استيقن أنَّ قاطبة
ما سوى الله سبحانه مهيّاتٌ باطلة وهويّاتٌ هالِكة في حدِّ أنفسها في الآزال والآباد،
ولا حظَّ لها من الحقيقة إلّا الاستناد إلى القيّوم الحقّ استنادَ المجعوليّة
والمصنوعيّة، لم يَكُن لِغَير اللهِ تعالى في نفسه وَقعٌ يتوصّل إليه بوسيلة
العبادة. ومن ثمّةَ قيل: المُسْتَحِلُّ توسيطَ الحقّ مرحومٌ من وجه [يُقابلُه
مَن كان الحقُّ تعالى عنده غايةً، بصرف النّظر عن كونه عزّ وجلّ سابغَ النِّعَم
ودافع النِّقَم]؛ فإنّه لم يُطْعَم لذّةَ البَهجة فَيَستطعمَها،
إنّما مُعارَفتُه مع اللّذات المخدَجَة [النّاقصة غير
المكتملة]، فهو حنونٌ إليها غافل عمّا وراءَها.
فهذه
محطُّ درجة الإخلاص، فهي [درجةُ الإخلاص]
روحُ العبادة، والإسمُ الأعظمُ الّذي إذا دُعِيَ اللهُ تعالى به أجاب، ونِسبتُها
إلى جملة العبادات نسبةُ الأرواح إلى الأشباح؛ فالعبادةُ من دونها كأجساد المَوتى.