مناسك الحجّ
الآداب، والأسرار
ـــــ الفقيه الشَيخ النّراقي، صاحب
(جامع السّعادات) ـــــ
* «ولْيَتَذكّرْ عند تردّده بين الصّفا والمروة تردُّدَه
بين كفّتَي الميزان في عَرَصات القيامة، وليمثّل الصّفا بكفّة الحسنات والمَروة
بكفّة السّيّئات. ولْيَتَذَكّرْ تردّدَه بين الكفّتَين ناظراً إلى الرّجحان
والنّقصان متردّداً بين العذاب والغفران». (الغزالي، إحياء علوم الدّين: ج 3، ص 490)
* في هذه الآفاق المعنويّة والمَرامي الملكوتيّة لمناسك الحجّ،
أورد الفقيه النّراقي في (جامع السّعادات)، ما يلي:
الميقات: إذا خرج عن
وطنه، ودخل إلى البادية، متوجّهاً إلى الميقات، وشاهد العقبات، فليتذكّر فيها ما
بين الخروج من الدّنيا بالموت إلى الميقات يوم القيامة، وما بينَهما من الأهوال
والمطالبات، وليتذكّر من هول قطّاع الطّريق هولَ منكر ونكير، ومن سباع البوادي وحيّاتها
وعقاربها حيّات القبر وأفاعيه، وعقاربه وديدانَه، ومن انفراده عن أهله وأقاربه
وحشةَ القبر ووحدته وكربتَه، وليَكن في هذه المخاوف في أعماله وأقواله متزوّداً
لمخاوف القبر.
ما ينبغي في الميقات
إذا دخل الميقات، ولبس ثوبَي الإحرام، فليتذكّر عند لبسهما
لبسَ الكفن ولفّه فيه، وأنّه سيلقى الله ملفوفاً في ثياب الكَفن لا محالة، فكما لا
يلقى بيت الله إلّا بهيئةٍ وزيٍّ يخالف عادته، فكذلك لا يلقى الله بعد الموت إلّا
في زيٍّ يخالف زيَّ الدّنيا، وهذا الثّوب قريبٌ من ذلك الثّوب، إذ ليس مخيطاً، كما
أنّ الكفن أيضاً ليس مخيطاً.
* وإذا أحرم ولبّى، فليَعلم أنّ الإحرام والتّلبية إجابةُ نداء الله، فلْيَرْجُ
أن يكون مقبولاً، ولْيَخْشَ أن يكون مردوداً، فيُقال: لا لبّيكَ ولا سعدَيك! فليَكن
بين الخوف والرّجاء متردّداً، وعن حوله وقوّته متبرّئاً، وعلى فضل الله وكرمه متّكلاً،
فإنّ وقت التّلبية هو بداية الأمر، وهو محلّ الخطر. وقد رُوي: «أنّ عليّ بن
الحسين عليهما السلام لمّا أحرَم، واستوَت به راحلتُه، اصفرّ لونه وانتفَض،
ووقعتْ عليه الرّعدة، ولم يستطع أن يلبّي. فقيل له: لمَ لا تلبّي؟ فقال: أخشى أن يقول
ربّي: لا لبّيكَ ولا سعدَيك! فلمّا لبّى غُشِيَ عليه وسقطَ من راحلته، فلم يزلْ
يعتريه ذلك حتّى قضى حجَّه».
فليَتذكّر المُلبّي عند رفع الأصوات في الميقات خائفاً راجياً، أنّه إجابةٌ
لنداء الله تعالى، إذ قال تعالى: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ
رِجَالًا..﴾ الحج:27.
ويتذكّر من هذا النّداء، نداءَ الخلق بنَفخ الصّور، وحشرَهم من القبور وازدحامَهم
في عرَصات القيامة لنداء الله، منقسمين إلى مقرّبين ومبْعَدين، ومقبولين ومردّدين
في أوّل الأمر بين الخوف والرّجاء، مثل تردّد الحاجّ في الميقات، حيث لا يدرون
أيتيسّر لهم إتمامُ الحجّ وقبوله أم لا.
ما ينبغي عند دخول مكّة
ينبغي أن يتذكّر عند دخوله مكّة: إنّه قد انتهى إلى حَرَمٍ مَن دخلَه كان
آمناً، ولْيَرجُ عنده أن يأمن بدخوله من عقاب الله، ولْيَضطربْ قلبه من ألّا يكون
أهلاً للقُرب والقبول فيكون بدخول الحرم خائباً مستحقّاً للمَقت، وَلْيَكُن رجاؤه
في جميع الأوقات غالباً، إذ شرفُ البيت عظيم، وربُّ البيت كريم، والرّحمةُ واسعة،
والفيوضاتُ نازلة، وحقُّ الزّائر منظور، واللّائذُ المستجيرُ غير مردود.
* وإذا وقع البصر على البيت، فليُحضر في قلبه عظَمته، ويقدّر كأنّه مشاهد
لربّ البيت لشدّة تعظيمه، ولْيَرجُ أن يرزقه لقاءَه كما رزقَه لقاءَ بيته، وليَشكر
الله على تبليغه إيّاه إلى بيته، وإلحاقه إيّاه بزُمرة الوافدين إليه، ويتذكّر عند
ذلك إيصال الخلائق إلى جهة الجنّة آمنين لدخولها كافّة، ثمّ انقسامهم إلى مأذونين
في الدّخول ومصروفين عنها، انقسام الحاجّ إلى مقبولين ومردودين.
ما ينبغي عند الطّواف
وينبغي عند الطّواف أن يمتلئ قلبُه من التّعظيم والمحبّة والخوف والرّجاء ويعلم
أنّه في الطّواف متشبّهٌ بالملائكة المقرّبين الطّائفين حول العرش، وَلْيَعلم أنّ
المقصود طواف قلبه بذكر ربّ البيت، دون مجرّد طواف جسمه بالبيت، فَلْيَبتدأ الذِّكر
به ويختم به، كما يبتدأ الطّواف من البيت ويختم بالبيت، فروح الطّواف وحقيقتُه هو
طواف القلب بحضرة الرّبوبيّة، والبيت مثالٌ ظاهرٌ في عالم الشّهادة لتلك الحضرة
التي لا تشاهَد بالبصر، وهي عالَم الغيب، وعالَم المُلك والشّهادة مَدْرَجَةٌ إلى
عالَم الغيب والمَلكوت لمن فُتح له الباب.
* وما ورد من «البيت المعمور» في السّماوات
بإزاء الكعبة، وأنّ طواف الملائكة به كطواف الإنس بهذا البيت، ربّما كان إشارةً
إلى ما ذكرناه من المماثلة، ولمّا قصُرت رتبة الأكثرين عن مثل ذلك الطّواف، أُمروا
بالتّشبّه بهم بقدر الإمكان، ووُعدوا بأنّ مَن تشبّه بقومٍ فهو منهم.
ما ينبغي عند استلام الحجر
ينبغي أن يتذكّر عند استلام الحجر الأسود، أنّه بمنزلة يمين الله في أرضه،
وفيه مواثيقُ العباد. قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «استلموا الرُّكن، فإنّه يمينُ الله في خلقه، يصافحُ بها خلقَه مصافحةَ
العبد أو الدّخيل، ويشهدُ لمَن استلمَه بالموافاة»، ومرادُه صلّى الله عليه
وآله بالرّكن:
الحجر الأسود لأنّه موضوعٌ فيه، وإنّما شبّه باليمين لأنّه واسطةٌ بين الله وبين
عباده في النّيل والوصول والتّحبّب والرّضا، كاليَمين حين التّصافح.
وقال الصّادق عليه السلام: «إنّ الله تبارك وتعالى لمّا أخذَ مواثيقَ العباد، أمرَ
الحجرَ فالتقمَها، فلذلك يُقال: أمانتي أدّيتُها، وميثاقي تعاهدتُه، لتشهدَ لي
بالموافاة».
وقال عليه السلام: «الرّكنُ اليماني بابٌ من أبواب الجنّة، لم يُغلقه
اللهُ منذ فتحَه».
وقال عليه السلام: «الرّكنُ اليمانيّ بابُنا الذي يُدخَل منه الجنّة، وفيه
نهرٌ من الجنّة تُلقى فيه أعمالُ العباد».
قيل: إنّما شُبِّه بباب
الجنّة لأنّ استلامه وسيلةٌ إلى وصولها. وبالنّهر، لأنّه تغسَل به الذّنوب.
* ثمّ لْتَكن النّيّة في الاستلام والالتصاق بالمستجار، بل المماسّة لكلّ
جزءٍ من البيت، طلب القرب حبّاً وشوقاً للبيت ولربّ البيت، وتمسّكاً وتبرّكاً
بالمماسّة، ورجاءً للتّحصّن عن النّار في كلّ جزءٍ [من بدنك] لاقى البيت.
* ولْتَكن نيّته
في التّعلّق بأستار البيت الإلحاح في طلب المغفرة وسؤال الأمان، كالمقصِّر المتعلّق
بثيابِ مَن قصَّر في حقّه، المتضرّع إليه في عفوه عنه، المظهر له أنّه لا ملجأَ
منه إلّا إليه، ولا مفزعَ إلّا عفوه وكرمُه، وأنّه لا يفارق ذيلَه حتّى يعفو عنه،
ويعطيه الأمان في المستقبل.
السّعي
السّعي بين الصّفا والمروة في فِناء البيت يضاهي تردّد العبد بفناء دار
الملك جائياً وذاهباً مرّة بعد أخرى، إظهاراً للخلوص في الخدمة، ورجاءً للملاحظة بعين
الرّحمة، كالذي دخل على الملك وخرج، وهو لا يدري ما الذي يقضي به الملك في حقّه من
قبولٍ أو ردّ، فلا يزال يتردّد على فناء الدّار مرّةً بعد أخرى، ويرجو أن يرحمَه
في الثّانية إنْ لم يرحمه في الأولى، وَلْيَتذكّر عند تردّده التّردد بين الكفّتَين،
ناظراً إلى الرّجحان والنّقصان، مردّداً بين العذاب والغفران.
ما ينبغي عند الوقوف بعرفات
وأمّا الوقوف بعرفات، فَلْيَتذكّر بما يرى من ازدحام الخَلق، وارتفاع الأصوات،
واختلاف اللّغات، واتّباع الفرق أئمّتَهم في التّردّد على المشاعر، عَرَصاتِ يوم
القيامة وأهوالَها، وانتشارَ الخلائق فيها حَيارى، واجتماعَ الأمم مع الأنبياء
والأئمّة، واقتفاء كلّ أمّة نبيّهم، وطمعَهم في شفاعته لهم، وتحيّرهم في ذلك الصّعيد
الواحد بين الرّدّ والقبول.
وإذا تذكّر ذلك، فليَتضرّعْ إلى الله تعالى ويَبتهلْ إليه، ليقبلَ حجَّه
ويحشره في زمرة الفائزين المرحومين، وينبغي أن يحقّق رجاءَه إذ اليوم شريفٌ والموقف
عظيم، والنّفوس من أقطار الأرض فيه مجتمعة، والقلوب إلى الله سبحانه منقطعة،
والهمم على الدّعاء والسّؤال متظاهرة، وبواطن العباد على التّضرع والابتهال
متعاونة، وأيديهم إلى حضرة الرّبوبيّة مرتفعة، وأبصارهم إلى باب فيضِه شاخصة،
وأعناقهم إلى عظيم لطفه وبرّه ممتدّة، ولا يمكن أن يخلو الموقف عن الأخيار والصّالحين
وأرباب القلوب والمتّقين، بل الظّاهر حضور طبقات الأبدال وأوتاد الأرض فيه، فلا تَستبعدنّ
أن تصلَ الرّحمة من ذي الجلال بواسطة القلوب العزيزة والنّفوس القادسة الشّريفة
إلى كافّة الخليقة، ولا تظنّنّ أنّه يخيّب آمالَ الجميع، ويضيّع سعيَهم، ولا يرحم
غربتَهم وانقطاعَهم عن الأهل والأوطان، فإنّ بحر الرّحمة أوسع من أن يظنّ به في
مثل هذه الحالة، ولذا وردَ أنّه من أعظم الذّنوب أن يحضر عرفات ويظنّ أن الله لم
يغفر له.
المشعر الحرام، (ويسمّى «جَمْع» و«مُزدلفة»)
وإذا فاضَ من عرفات ودخلَ المَشعر، فليتذكّر عند دخوله فيه أنّ الله سبحانه
قد أذِن له في دخول حَرَمِه بعد أن كان خارجاً عنه، إذ المشعر من جملة الحَرَم،
وعرفات خارجةٌ عنه، فليَتفاءل من دخول الحَرم بعد خروجِه عنه، بأنّ الله سبحانه قرّبه
إليه وكساه خِلَعَ القبول، وأجارَه وآمنَه من العذاب والبُعد، وجعلَه من أهل الجنّة
والقُرب.
ما ينبغي عند الرّمي والذّبح
وإذ ورد مِنى، وتوجّهَ إلى رَمْي الجِمار، فَلْيَقصد به الانقيادَ
والامتثال، إظهاراً للرّقّ والعبوديّة، وتشبُّهاً بالخليل الجليل عليه السلام، حيث عرض له إبليسُ اللّعين في هذا الموضع ليفسدَ حجّه،
فأمره الله تعالى أن يرميَه بالحجارة طرداً له وقطعاً لأصله. وينبغي أن يقصد أنّه
يرمي الحَصا إلى وجه الشّيطان، ويقصم به ظهرَه، ويُرغم به أنفَه، إذ امتثالُ أمر
الله تعالى تعظيماً له يقصمُ ظهرَ اللّعين ويُرغم به أنفَه.
* وإذا ذبح الهَدْيَ فليَستحضر أنّ الذّبح إشارةٌ إلى أنه بسبب الحجّ قد غلب على الشّيطان
والنّفس الأمّارة وقتلَهما، وبذلك استحقّ الرّحمة والغفران، ولذا ورد أنّه: يعتَق
بكلّ جزء من الهَدي جزءٌ منه النّار. فليَجتهد في التّوبة والرّجوع عمّا كان عليه
قبل ذلك من الأعمال القبيحة، حتّى يصير حالُه أحسنَ من سابقه، ليصدقَ عليه إذلالُه
الشّيطان والنّفس الأمّارة في الجملة، ولا يكون في عمله من الكاذبين. ولذلك ورد أنّ
علامة قبول الحجّ: أن يصير حالُه بعد الحجّ، أحسن ممّا كان عليه قبله.
وفي الخبر: أنّ علامة قبول الحجّ تركُ ما كان عليه من المعاصي، وأن يستبدلَ
بإخوانه البطّالين إخواناً صالحين، وبمجالس اللّهو والغَفلة مجالس الذّكر واليَقظة.
النّراقي، جامع السّعادات: ج 3/ ص 311