سبعُ
سنواتٍ على نصرِ تمُّوز
عقلٌ
«إسرائيليٌّ» في كهفٍ مُغلَق
____محمود
حيدر*____
لم تَعُد الحرب الرّابعة،
وهي النّعت «الإسرائيليّ» لحرب تمّوز 2006م، مجرّد استذكارٍ ذهنيٍّ لدى خُبراء
الأمن الإقليميّ، بل هي أمسَتْ بعد سبع سنواتٍ على انصرامِها، أدنى إلى ثقافةٍ
سياسيّةٍ ونفسيّةٍ عميقةِ الجذور في الوجدان «الإسرائيليّ». ولكنّ المفارقة الّتي
تنطوي عليها تلك الثّقافة، هي أنّها مركّبةٌ من شعورٍ بالهزيمةِ والإحباط، ورغبةٍ
في استعادة القدرة على الغلَبة.
بعد انصرام الأعوام
السّبعة على حرب تمّوز، كيف يَستأنفُ العقلُ «الإسرائيليّ» مشاعره وآليّاتِ تفكيرِه؟
لا يزال «الإسرائيليّ» على امتداد تلك
السّنوات يستأنف كلماته وأحواله الأولى الّتي أَعقَبت النّتائج المدويّة: (علينا
أنْ نبحث عن أسبابِ تدهورنا إلى الدّرك الأسفل. نحن الّذين نشنُّ حربَ أعصاب
وحرباً نفسيّة ضدَّ أنفسنا، ونعاني قلّةَ الصّبر، وَوَهنَ الأعصاب، وعدم التّحمُّل،
وفقدان القدرة على الصُّمود، وحالةً من اللّااستقرار. ونعاني أيضاً التّضليل واللّهاث
وراء الرّأي العام، وكلّ ذلك على خلفيّة مستوًى متدنٍّ وهابط في القيادة السّياسيّة
وإعلامٍ متفلّت من عِقالِه. وفي الوقت الّذي يبرزُ فيه الفردُ اليهوديّ بمستواه
الأخلاقيّ وإنجازاته الفكريّة، تبدو إنجازاتُ المجتمع اليهوديّ السّياسيّة ومستواه
الأخلاقيّ في أرض «إسرائيل» على مستوى هابط).
هذا المقطع نستعيده من مقالة الصّحافيّ «الإسرائيليّ»
في «يديعوت أحرونوت» الياكيم هعتسني تحت عنوان «نُقاتل ضدّ أنفسنا»؛ لنُبيّن كيف
تتوسّع مساحة التّشاؤم يوماً إثر يومٍ في المجتمع السّياسيّ الصّهيونيّ.
ما الّذي يدلُّ عليه هذا النّوع من الثّقافة
السّياسيّة، وفي أيِّ وعاءٍ من التّفكير يمكن أن ننظر إلى تداعياته المُتسارعة؟
الجيش
الّذي خيَّب أملَ نفسه في نفسه
لا يخبو النِّقاش «الإسرائيليّ» حول
الآثار المتمادية لحرب تمّوز 2006م، حتّى يعود ليَشتعل من جديدٍ، وضمن إيقاعات أشدّ
وطأة وأعمق أثَراً. ولعلَّ الكلام على الحاجة إلى استعادة عامل القدرة في تحقيق
التّوازن داخل الشّخصيّة «الإسرائيليّة»، هو النّقطة المحوَريّة في النّقاش
المستأنَف داخل المجتمعَين السّياسيّ والعسكريّ.
مثل هذه الاستعادة، تأتي تحت ضغط الفشل
الاستراتيجيّ بعد سبع سنواتٍ على الحرب، لكنّها تَستحضر سلسلةً هائلةً من الأسئلة
القلقة الّتي ترتّبت على تلك الحرب ونتائجها.
ربَّما يكون الوجه الأكثر تعقيداً
وخطورةً بالنّسبة إلى التّقييم الإستراتيجيّ «الإسرائيليّ»، هو التّبدّل الّذي عَصَفَ
بجملةٍ من المفاهيم الأمنيّة. على سبيل المثال، ما يتَّصل منها ببطلان فعاليّة
الكثير من المعتقدات الّتي سادت صفوف الجيش «الإسرائيليّ» في العقدَين الأخيرَين؛
إذ بعد تعيين غابي أشكينازي رئيساً للأركان، تخلّى الجيشُ عن واحدةٍ من أهمِّ نظريّاته
في العقدَين الماضيَين، وهي تقليص القوّات المحاربة وتخفيض وتيرة تدريباتهم. وكانت
«إسرائيل» قد أَهملَت، على الأقلّ منذ العام 2000م، القوّات الاحتياطيّة، واتَّجهت
نحو تنفيذ شعار «الجيش الصّغير والذَّكيّ». وكان الميلُ العامُّ هو في اتِّجاه
تحويل الجيش إلى جيشٍ شبه تطوُّعيٍّ وتخفيض مساحة الخدمة الإلزاميّة.
ملخَّص التّغيير الّذي أحدَثَتْه الحرب
ونتائجها على العقيدة القتاليّة «الإسرائيليّة»، يرى عددٌ من الخبراء، بأنَّه
الفهمُ باستحالة تحقيق الحسم عبر القوّة الناريّة، وأنَّه لا مفرَّ من قوَّاتٍ بريّة
تُسيطرُ على الميدان. غير أنَّه من البديهيّ القول إنَّ نظرة المجتمع «الإسرائيليّ»
للجيش الّذي قيل عنه إنّه «خيَّبَ أملَ نفسه في نفسه»، تردّت بأشكالٍ كبيرة. ولا
يقوم هذا التَّردِّي على رؤية المجتمع لواقع هذا الجيش وحسب، وإنَّما على رؤيته
لنفسه أيضاً. وفي استطلاعٍ جرى مؤخَّراً ونُشِرَ في صحيفة «إسرائيل اليوم»، تبيَّن
أنَّ ما لا يقلّ عن ثلث الّذين يؤدُّون الخدمة النّظاميّة يبحثون عن بدائل عمل
خارج الجيش. وكلّ ذلك رغم الجهود الهائلة الّتي بُذِلت في الأعوام الأخيرة، والّتي
أسهَمَت في تراجع هذه النّسبة عمَّا كانت عليه في الأعوام الأولى، وهي أربعون في
المائة. ولا يُخفي الّذين استُطلِعَت آراؤهم في الجيش حقيقة أنَّ أبرز الأسباب
وراء الرّغبة في الخروج من الجيش، تَكْمنُ في نتائج حرب لبنان الثّانية.
نتائج
تمُّوز أضعفتْ الثّقة بالقيادة السّياسيّة
في هذا الصّدد يمكنُ فهم المعنى الحقيقيّ
لنتائج حرب لبنان الثّانية بعد سبع سنوات على وقوعها. في استطلاعاتٍ للرّأي العامّ،
كُشِف عن حقيقةٍ معاكسةٍ لِما سَعَت إليه الحكومات المتعاقبة من أولمرت إلى
نتنياهو. فنتائج الحرب الّتي شُنَّت لِرَدْعِ الجانب العربيّ انعَكَسَت سلباً على «الجمهور
الإسرائيليّ». لقد سَبق أنْ أشارت الاستطلاعات إلى أنّ 57 في المائة من «الإسرائيليّين»
لا يؤيِّدون شنّ حربٍ بسبب أَسْرِ جنودٍ على أيدي منظّمات على «الحدود الشّماليّة».
ولسان حالهم يقول: «إنَّه لا ينبغي لإسرائيل أن تشنَّ حرباً في الغد إذا جرى
اختطافُ جنديَّين آخرَين على الحدود مع لبنان».
الأهمّ في هذا السِّياق أنَّ حربَ لبنان
الثّانية ونتائجها أضعفت أيضاً ثقة الجمهور بالقيادة السّياسيّة عموماً، وقد أجاب
40 في المائة عن سؤالٍ يتعلّق بالثّقة، بأنّهم لا يثقون بأيٍّ من القادة السّياسيّين
المُدرَجين. وتبيَّن أن 2 ٪ يثقون بقدرة أولمرت على قيادتهم في الحرب المقبلة،
مقابل 7 ٪ بتسيبي ليفني، و10 ٪ بشاؤول موفاز، و16 ٪ بإيهود باراك، و19 ٪ ببنيامين
نتنياهو.
سوى أنَّ ما يتعدّى المشهد الإجماليّ
المُشار إليه، هو النُّزوع المُتواتِر نحو التَّشاؤم بقدرة «إسرائيل» على استعادة
معنى القوّة في فلسفتها السّياسيّة. ذلك أنَّ غياب الثّقة التّدريجيّ بمبدأ القوّة
التّقليديّة «الإسرائيليّة» وتفوُّقها، يُضاف الآن إلى نَوازع الشّكّ القويّة في
المجتمع «الإسرائيليّ». ويَعترف كثيرون من المحلّلين أنَّ المُعادين «لإسرائيل»
اكتسبوا معارف سياسيّة وأمنيّة فائقة الخطورة، وهي تتمثّل أساساً باكتشاف نقاط
ضعفها. ولَئن تمكّنت الآلة العسكريّة الكلاسيكيّة على مدى حروبٍ متواصلةٍ من إخضاع
الجيوش العربيّة، أو على الأقل من ردعها عن تحقيق انتصارٍ كبير على «إسرائيل» -كما
حصل في حرب 73- فإنّها [الآلة العسكريّة]
بدت عاجزة، ومشلولة حيالَ سلامٍ سياسيٍّ شديد الاضطراب والتّأرجُح، وكذلك من ضمن
أجواء استمرار الانتفاضة الفلسطينيّة. ويتساءل «إسرائيليُّون» من جماعات النَّقد،
عمّا إذا كانت طائرات سلاح الجوّ أو دبّابات ميركافا، لا تزال قادرة على فعل أيِّ
شيءٍ في مواجهة صواريخ غزَّة، أو حرب عصاباتٍ متخفِّية وسريعة، أو انتفاضة عِصيّ
وحجارة. وثمّة ما يُشبِهُ اليقين لدى كثير من «الإسرائيليّين»، أنَّ ديناميّات
المواجهة المفتوحة مع الفلسطينيّين ستؤدِّي إلى قيام دولة فلسطينيّة معادية. أمّا
الاتِّفاقات المعقودة، فهي لا تتعدّى كونها نماذج من أوراق قابلة للاشتعال في أيّة
لحظة.
تحوُّلاتٌ
تُعزِّز نقاط الضّعف
السّجال «الإسرائيليّ» المُتمادي حول
نقاط قوّة «إسرائيل» وضعفها يتوسّع باستمرار. ومع هذا التّوسُّع تتراكم نزعات الشّكّ
في «سلام» بدأت «إسرائيل» تَفقد معه عوامل القوّة التّاريخيّة. حيث سيمنعها التّحوُّل
الجيو - استراتيجيّ بعد احتلال العراق، والفشل في لبنان، وصعود الأطروحة الإيرانيّة
كقوّة تهديد إقليميّة، من التّفكير الجدّيّ في شنّ حرب تعيد التّوازن والتّماسك
لمجتمعها السّياسيّ والعسكريّ والمدَنيّ. والواضح أنّ أحد أبرز الأسباب الباعثة
للخوف لدى «الاسرائيليّين» هو تصدُّع كتلتهم التّاريخيّة، واضمحلال مقولتهم حول
الإجماع القوميّ.
على أنَّ ما يضاعف من تلك النّزعات التّشكيكيّة
لدى «الإسرائيليّين»، هو التّحوّلات الهائلة الّتي عَصَفتْ بمحيطِهم العربيّ،
وخصوصاً في مصر الّتي لم تعد بالنّسبة إليهم بعد ثوراتها المفتوحة، شريكاً استراتيجياً
في الأمن الإقليميّ.
في الماضي مثلاً، كان الشّكُّ في
القيادة السّياسيّة أو العسكريّة لا يظهر إلى العلَن، إلّا حين تبلغ عمليّات النّقد
والاحتجاج والمعارضة ذروتَها. فعلى الرّغم من الاحتقان ضدّ القيادة، ظلّت تتوافر
غريزة جماعيّة تدفع النّاس إلى الاتّحاد عندما يكون هناك خطر خارجيّ، أمّا الآن
فقد تعرّضت تلك الغريزة الجماعيّة إلى ضربٍ من الاهتزاز نتيجة المراجعات الذّاتيّة
بين «الإسرائيليّين»، وبعدما ولَّدت تحوُّلاتُ الأعوام العشر الأولى من القرن
الحادي والعشرين مناخاتٍ عارمةً تُفضي إلى نهايةِ تاريخ كامل من القوّة والاقتدار،
وبداية تاريخ جديد من المنازعات يُرجَّح أن يكون أكثر احتداماً وإيلاماً من ذي
قبل.
__________________
* خبير في القضايا
الإقليميّة