الثّورة الحسينيّة بين رُؤية الوحي والتّبسيط الدّنيويّ
حوار افتراضيّ مع المرجع الدّينيّ الشّهيد الصّدر الثّاني قدّس سرّه
_______إعداد: «شعائر»_______
* أخذت واقعة الطّفّ مساحةً واسعةً من النّقاش والجدل في
التّاريخ الإسلاميّ. وقد تعدّدت التّفسيرات والرّؤى بين العلماء والفقهاء
والمؤرّخين حول هذه الواقعة، خصوصاً لجهة النّظر إليها انطلاقاً من دائرتين لا
تستويان على نصابٍ واحد: الدّائرة الدّينيّة الوحيانيّة الّتي انطلق منها الإمام
للقيام بثورته على نظام الطّاغية يزيد بن معاوية، والدّائرة الدّنيويّة الّتي
تتوقّف عند التّفسير السّطحيّ للثّورة الحسينيّة باعتبارها تجربةً تاريخيّةً
عاديّة.
* النّصّ الّذي نورده في ما يأتي هو إضاءة على الإشكال
مقتطف من كتاب (أضواء على ثورة الإمام الحسين عليه السلام) للشّهيد السّيّد محمّد الصّدر الثّاني، وقد رأت هيئة تحرير «شعائر» أن
تقدّمه على هيئة حوارٍ افتراضيٍّ مع سماحته قدّس سرّه.
بين
الرّؤية الدّينيّة كما نزل بها الوحي والرّؤية الدّنيويّة المادّيّة للملحمة
الحسينيّة، ثمّة إشكالٌ في ما يجب أن يكون عليه فهمنا لموقف المعصوم، وتحديداً
الإمام الحسين عليه السّلام، لا سيّما لجهة أنّه كان يعلم أن مصيره إلى الشّهادة، ومصير عياله
السّبي؟
لا ينبغي، ونحن ننظر
إلى فهم التّاريخ الإسلاميّ، أن ننظر إلى القادة المعصومين سلام الله عليهم
كقادةٍ دنيويّين، كما عليه تفكير طبقة من النّاس، يدّعون التّمسّك بالفكر الدّينيّ
ولكنّهم متأثِّرون بالاتِّجاه المادّيّ الدّنيويّ؛ فهم يعتبرون المعصومين قادةً دنيويّين كبراء.
بل هم بهذه الصّفة خير من خير القادة الموجودين خلال العصور كلّها، في اتّصافهم بعمق
التّفكير، وحصافة الرّأي، وشجاعة التّنفيذ، ونحو ذلك. ومعه يكونون هم المسؤولون عن أهداف
حركاتهم وأقوالهم وأفعالهم، ولا تكون تلك الأمور منسوبة إلى الحكمة الإلهيّة بأيّ
حال.
إلّا أنّني أعتبر ذلك
خطأً لا يُغتفر، بل لا بدّ -في النّظر إليهم كقادةٍ- من أخذ كلّ الأصول الدّينيّة والعقائد الصّحيحة بنظر
الاعتبار. وقد ثبت أنّهم معصومون مُسدَّدون من قِبل الله سبحانه. فالسُّؤال عن الحكمة لا بدّ
وأن يكون راجعاً إلى الحكمة الإلهيّة لا إلى آرائهم الشّخصيّة مهما كانت مهمّة.
هل لسماحتكم
أن تبيِّنوا لنا بالدّليل العقليّ ما يميِّز بين علم المعصوم العائد إلى الحكمة
الإلهيّة، والعلم المُكتسَب من التّجربة الدّنيويّة الّذي يسري على سائر البشر؟
لعلّ أوضح دليل على
ذلك: هو أنّنا إذا اعتبرنا المعصومين قادة دنيويّين [وحلّلنا
مواقفهم بمعزل عن الغيب]، فإنّنا ينبغي أن
تعترف بفشهلم في كثير
من المهمّات الّتي قاموا بها فعلاً. وتكون كثير من أفعالهم خالية من الحكمة والمصلحة، بل تكون واضحة
الفشل من النّاحية الدّنيويّة [بحسب المعايير الدّنيويّة السائدة
في فهم النّصر والهزيمة]. فمثلاً إنَّ الإمام الحسين عليه
السّلام قد خرج إلى الكوفة وبالتّالي إلى
كربلاء، وهو يعلم أنّه سوف يموت وأنّ عائلته
سوف تُسبى. وليس الأمر منحصراً به، بل يعلم بذلك عددٌ مهمّ من النّاس. ومن هنا نصحه المتعدِّدون أن يعيد النّظر في عمله ويستدرك مهمَّته.
ولكنّه مع ذلك كان مهتمّاً بها مقبلاً عليها، مهما كانت النّتائج. فلو نظرنا
إليها نظراً دنيويّاً، لكانت في نظرنا حركةً فاشلة تماماً. وإذا نظرنا إلى الإمام الحسين
عليه السَّلام بصفته قائداً دنيويّاً كان رأيه خالياً من الرّشد والحكمة، وحاشاه.
إذاً، فالأمر لا بدّ
عائدٌ إلى الأمر الإلهيّ والحكمة الإلهيّة، والله سبحانه يريد بإيجاد هذه الحركة أهدافاً تعدل
هذه التّضحيات الجسام الّتي قدَّمها هذا الإمام العظيم سلام الله عليه، والإمام
نفسه مؤيَّد ومسَدَّد من قِبَل الله سبحانه، ومن هنا استطاع أنْ يَعلمَ بنحوٍ أو
آخر بالأمر الإلهيّ المتوجِّه إليه بإيجاد هذه الحركة، إمّا بالأمر الموروث إليه من قِبَل جدِّه
رسول الله صلّى الله عليه وآله،
أو بالعلم اللّدنّيّ، أو التّسديد الإلهيّ
الموجود لديه كواحدٍ من المعصومين عليهم السّلام.
إذا كان ذلك كذلك
بالنّسبة إلى علم المعصوم، فما هو تفسيركم إذاً لِما يتردّد على لسان الرّواة ممّا
حصل للحسين وأصحابه من الذّلّ والمهانة في واقعة كربلاء؟
هناك، بلا شكٍّ مَن يعتقد ذلك على أيِّ
حالٍ، ومنه جاء قول الشّاعر:
«ويصيح واذلاّه أين
عشيرتي وسراة قومي أين أهل ودادي»
وحاشاه سلام الله عليه. وليس هذا إلّا من الكذب على
المعصومين سلام الله عليهم، فيكون من أشدّ
المحرَّمات. بل هو لا ينوي ذلك في قلبه فضلاً عن أن يقوله، ناهيك عن أن يصيح به، كما يزعم هذا الشّاعر.
وفي مقابله قول الشّاعر:
«فأبى أن يعيش إلّا
عزيزاً أو
تجلّى الكفاح وهو صريع»
بل إنّ القول بالذّلّة
أمرٌ مخالف للقرآن الكريم الّذي يقول: ﴿.. وللهِ الْعِزَّةُ
وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ..﴾ المنافقون:8.
والحسين عليه السَّلام
كان في زمانه ولا زال إماماً، وهو أوْلى المؤمنين بصفات الإيمان. ومن هنا جاء قوله
عليه السَّلام في بعض خُطَبِه ذاكراً طلب الحاكم الأمويّ للبيعة: «ألا إنَّ الدّعيّ ابن
الدّعيّ قد ركز بين اثنتَين: بين السِّلّة والذِّلّة، وهيهات منّا
الذِّلّة، يَأبى اللهُ ذلك ورسولُه والمؤمنون وحُجورٌ طابت وأرحامٌ طهرت على أن
نؤثر طاعة اللِّئام على مصارع الكِرام».
وهذا قولٌ واضحٌ جدّاً
بالاعتزاز بالإيمان والصُّمود في جانب الحقّ. وهو ليس من التّكبّر الباطل في شيءٍ، وإنّما هو الاعتزاز بالله
ورسوله. حَسْبُنا أن نسمع قوله: «مَن أراد عزّاً بلا عشيرةٍ، وهيبةً من غير
سلطانٍ، وعزّاً من غير مالٍ، وطاعةً من غير بذلٍ، فليتَحَوّل من ذلّ معصيته إلى
عزّ طاعته، فإنّه يجد ذلك».
وكذلك قوله: «فأولياؤه
بعزَّته يعتزُّون»، وليس لهم كبرياء مستقلّة عن كبرياء الله عزَّ وجلَّ. ولا شكَّ في أنَّ
الحسين وأصحابه مِن خِيرة مَن يكون مصداقاً وتطبيقاً لهذه النّصوص. بل هو العزيز في الدُّنيا والآخرة؛ أمَّا في الدُّنيا
فلصموده وصبره وأمّا في الآخرة، فللمقامات
العليا الّتي ينالها بالشّهادة .
لكن كيف
تقرأون ما حصل من وقائع في واقعة كربلاء، خصوصاً حادثة السّبي والتّنكيل الّذي
مارسه جيش الطّاغية ابن زياد بحقِّ نساء الحسين وأطفاله؟
نعم، لا شكَّ في أنَّ
المعسكر المُعادي وقادته أرادوا إذلاله وحاولوا إهانته، وهذا أكيد، إلّا أنّ شيئاً من ذلك لم يحصل؛
لأنّ الذِّلّة الحقيقيّة إنّما تحصل لو حصلت المبايعة للحاكم الأمويّ والخضوع له، تلك هي
الذّلّة الّتي تجنبَّها الحسين عليه السَّلام
بكلّ جهده وضحّى ضدّها بنفسه. وأمّا
الصّمود في ساحة القتال، فلن يكون ذلّة لا في نظر أصدقائه ولا في نظر ربِّه جلَّ جلاله.
تشير
الرّوايات إلى أنّ الإمام الحسين عليه السلام كان حريصاً على العناية الاستثنائيّة
بأهل بيته فرداً فرداً، كذلك بأمور أصحابه لكي يجنّبهم القتل والإذلال، إلى ماذا
يعود برأيكم مثل هذا الاعتناء والاهتمام، أليس يتعلّق أيضاً بالحياة الدّنيا؟
هذا ما يؤكِّده الخطباء الحسينيُّون
كثيراً. ولكنّني أعتقد أنّه أمرٌ لا ينبغي المبالغة فيه إطلاقاً، بل يجب أخذه
من أقلّ زاوية وأضيق نطاق. فإنّه عليه السَّلام لو أراد
الاهتمام الحقيقيّ بعياله كما يعتني أهلُ الدّنيا بعوائلهم ويحرصون عليه، إذاً لكان الأوْلى
به أن يتصرّف بأحد الأمور التّالية:
أوّلاً:
أن يبايع الحاكم الأمويّ لينال الدّنيا وأموالها وزخارفها، ويرتاح هو وأهله وعياله فيها خير راحة، بغضِّ النّظر
عن الآخرة. أعوذ بالله من ذلك.
ثانياً:
إن كان هو يريد عدم البيعة، فليخرج بهم إلى اليمن أو غيرها من بلاد الله ليكونوا سعداء مرتاحين هناك.
ثالثاً:
إن كان لا يريد ذلك فليتحمّل القتل في المدينة المنورة، ولا حاجة إلى أن يخرج إلى العراق لكي يكون هو
المقتول ولا يكون على عياله بأس. وقد وَرد عنه: «إنّهم يطلبوني وحدي. ولو أصابوني لَذهلوا عن
طَلَبِ غيري».
رابعاً:
إن كان يريد الخروج إلى الكوفة، فليَدَع عياله في المدينة مرتاحين في طِيب العيش، حتّى يصل إليهم
تارة آخرى أو يصل إليهم خبر مقتله. وهنا قد يخطر بالبال أنّه أخذ
عياله معه لأجل قيامهم بالخدمات الاعتياديّة في الأسرة، كتقديم الطّعام وغسل الثّياب.
وجوابُنا على ذلك: إنَّ هذا من خَطل القول؛ فإنَّ
هذه المهمّة يمكن أن تكون موكولة إلى بعض الرّجال المرافقين له، كما يمكن لنساء اعتياديّات أنْ يقمنَ بها. وبالتّالي
لا تكون هذه المهمّة مبرِّراً لاصطحاب النّساء الجليلات معه كزوجاته، وبناته، وأخته،
وغيرهنّ من الهاشميّات. إذاً فتعريضه إيّاهنّ للتّعب والسّهر أوّلاً، وللسَّبي ثانياً، إطاعة
لله عزَّ وجلَّ حين «شاءَ أن يراهنَّ سبايا على أقتاب المطايا»،
ولكثيرٍ من المصاعب الأخرى. كلّ ذلك لَهُوَ دليل صريح على أنَّه عليه السّلام لم
يهتمّ بهم الاهتمام الدّنيويّ
المتوقَّع من أيِّ واحدٍ من أهل الدّنيا.
هلّا أوضحتم لنا
سماحة السّيّد تلك المفارقة المحيّرة في سلوك الإمام عليه السّلام بين قوله «شاء
الله أن يراهنّ سبايا»، وبين التّضحية بدمه وحياته من أجلهم؟
نعم، ينحصر الاهتمام بالعيال
بمقدار الضّرورة، وقد فعلَ ذلك سلام الله عليه. وذلك أنّه هو المسؤول الحقيقيّ والرّئيسيّ
عنهم أمام الله سبحانه، فلا يمكنه التّخلِّي عن وظيفته الشّرعيّة تجاههم، وذلك في عدّة أمور:
الأمر الأوّل:
حماية العيال من الأعداء ما دام حيّاً. ولذا ورد عنه:
«أحمي عيالات أبي أمضي على دين النّبيّ»
وقد وَرَد عنه أيضاً مخاطباً الجيش
المعادي: «أنا الّذي أقاتِلُكم وتقاتلوني، والنّساء ليس عليهنّ جناح،
فامنعوا جُهَّالكم وعُتاتكم عن التّعرّض لِحُرَمي ما دمتُ حيّاً».
إذاً فهو عمليّاً
كان يفديهم بنفسه.
الأمر الثّاني:
الاعتناء بشؤونهم بعد وفاته. ومن هنا ورد أنّه أَوْصى إلى أخته الحوراء زينب بنت أمير
المؤمنين عليه السّلام،
أن تقوم بهذه المهمّة، حين كان ولده الإمام
السّجّاد عليه السّلام
لا يستطيع أن يقوم بشيء. وقد قامت سلام الله عليها بمهمّتها خير قيام.
الأمر الثّالث:
العناية الدّينيّة بهم في الدّنيا والآخرة. وخاصّة وهو يعلم أنّهم مقبلون على بلاءٍ لا يكادون يطيقونه. وهو
حالهم بعد مقتله عليه السَّلام. ومن هنا وردت بعض التّعليمات عنه، ولعلّ له تعليمات
كثيرة لم تُنقَل في التّاريخ. فمن ذلك قوله عليه السَّلام: «إنْ أنا قُتلت يا
أخيّة، أُقسم عليك فأبرِّي قَسَمي، لا تخمشي عليَّ وجهاً، ولا تشقِّي عليَّ
ثوباً، ولا تدعي بعدي بالويل والثُّبور».
ومع ذلك يبقى المهمّ
السّؤال عن العيال، وهو لماذا حرص عليه السلام على اصطحابهم معه؟
إنّنا
في حدود تصوُّرنا، يمكننا أن نحدِّد جملة قضايا نوجزها في ما يلي:
أوّلاً:
إنّ أخذهم كان امتثالاً لأمر الله سبحانه، لأنّه هو الّذي أمر بذلك. وهذا صحيح وأكيد، ومن
شواهده تلك العبارة الواردة: «شاءَ اللهُ أن يراهُنَّ سبايا». ولكنّنا إذا أردنا الغرض من الحكمة
الالهيّة في ذلك، وأنَّ الله سبحانه لماذا أَمَرَه بذلك، لم نجد في هذا السّبب وجهاً
كافياً. فنعود إلى الوجوه الأخرى التّالية.
ثانياً:
أنّه أخذَهُم معه ليشاركوه في نيل الثّواب العظيم المذخور لشهداء كربلاء. كلّ منهم بمقدار استحقاقه. فلماذا يكون
الثّواب حكْراً على الرّجال دون النّساء، ولماذا يكون لهم منه حصّة الأسد، ويُحرم
الباقون بل الثّواب ينبغي أن يوزَّع على أوسع نطاقٍ ممكن، وهكذا كان.
ثالثاً:
أنّهم جاؤوا معه بطلبٍ منهم، وقد استجاب لطلبهم فأخذهم معه. وقد جاء هذا الطّلب حبّاً له وشوقاً إليه
واستيحاشاً من فراقه. وليس ذلك أمراً دنيويّاً فحسب، بل هو كذلك بِصفته إمامهم
وقائدهم ووليّ الله بينهم. مضافاً إلى توقّعهم نيل الثّواب معه، كما أشرنا في الوجه
السّابق.
رابعاً:
أنّهم جاؤوا معه أو أنّه أخذهم معه، بحسب الحكمة الإلهيّة ليكمّلوا ثورة الحسين بعد مقتله، كما حصل ذلك على أفضل
وجه. وذلك بأن يكونوا ناطقين أمام المجتمع بأهداف الحسين وأهمّيّة مقتله والإزراء
بأعدائه، ويمارسوا الإعلام الواضح حينما لا يكون الرّجال قادرين على ذلك بعد موتهم
واستئصالهم.
وهذا الإعلام كان ضروريّاً للمجتمع تماماً، وإلّا لصارت
حركة الحسين عليه السَّلام
طيّ النّسيان
والكتمان، ولَمَا أَطلقت أثَرَها البليغ في مستقبل الدَّهر. فكان من الضروريّ في الحكمة الإلهيّة وجود النّساء معه
لكي يعبّرنَ عن الحسين ويدافعْنَ عنه بعد مقتله. ومن هنا، «شاءَ اللهُ أن يراهُنَّ
سبايا»، لأنّ هذا السّبي دليل عمليّ قاطع على فظاظة أعدائهم، وما يتّصفون به من القسوة واللُّؤم،
وعدم العناية بالدِّين، وهذا وحده يكفي للإعلام إلى مصلحة الحسين عليه
السّلام فضلاً عن غيره.
وهذا التّعريف المتأخِّر بثورة الحسين عليه
السَّلام ليس لأجل مصلحة الحسين نفسه، ولا
لمصلحة أصحابه المستشهدين معه، لأنّهم نالوا بالشّهادة ما رَزَقهم اللهُ جلَّ جلاله من المقامات العالية في الدّار
الآخرة. وإنّما هذا الإعلام أراده اللهُ سبحانه لأجل النّاس وهداية المجتمع. فما يُقال
من أنّه إكمال لثورة الحسين عليه السَّلام
يُراد به الجانب الظّاهريّ في الدّنيا، لا الجانب الباطنيّ في الآخرة.
وهذا التّعريف كما يصلح أن يكون تبكيتاً وفضحاً
لأعداء الحسين عليه السَّلام
في كلِّ جيل،ٍ وردعاً عن التّفكير
في مثل هذه الجريمة النّكراء لكلّ حاكمٍ ظالم على مدى التّاريخ، كذلك يصلح لهداية
النّاس نحو الحسين، وبالتّالي نحو دين الله عزَّ وجلَّ، ونحو أهداف الحسين الإلهيّة، وبالتّالي نحو طاعة الله
عزَّ وجلَّ والتّربية الصّالحة في إطاعة الدِّين وعصيان الشّهوات والتّمرُّد على كلِّ ظلمٍ
وفسادٍ، سواء كان في المجتمع أو في النّفس الأمّارة بالسُّوء.
نعود إلى الاستفسار حول النّقطة الإشكاليّة
نفسها، وهي تلك الّتي يحملها التّساؤل عن السّبب الّذي جعل الإمام الحسين عليه السَّلام
يغتمّ ويحزن لوقوع هذا البلاء العظيم عليه وعلى أهل بيته
واصحابه؟
جوابنا هو نفي أن يكون أصاب الإمام حزن
أو غمّ، وذلك لعدّة اعتبارات:
منها:
أنّ في الحزن والبكاء إشعارٌ بالاعتراض على الله سبحانه وحاشاه.
ومنها:
ما ذكرناه في ما سبق من أنَّ للشّهادة في سبيل الله جانبَين، أهمّهما الاستبشار برحمة الله ولُطفه.
وأمّا الحزن والبكاء المطلوب من محبِّي الحسين عليه
السَّلام في الشّريعة، فلأنَّ تكليفه عليه السَّلام يختلف عن تكليفنا وتقديره غير
تقديرنا ونظره إلى الأمر غير نظرنا.
أمَّا
البكاء والحزن فهو لنا لأجل تربيتنا دينيّاً وثوابنا أخروياً. وأمّا الاستبشار فله ولأصحابه لأجل الشّعور بالسّعادة
بِنِعَم الله ورحمته.
وكلّما ازداد البلاء
كان أكثر نعمة ورحمة. كما ورد «أنَّ أكثر النّاس بلاء في الدّنيا
هم الأنبياء ثمّ الأمثل فالأمثل». وورد ما
مضمونه، أنّه لولا إلحاح المؤمنين على
الله في طلب الرِّزق، لنقلهم من الحالة الّتي هم فيها إلى حالٍ أضيق منها. إلى غير ذلك من النّصوص.
ومن علامات ما قلناه:
ما ورد عن عليّ بن الحسين الأكبر أنّ قال لأبيه الحسين عليه
السَّلام وهو في الرّمق الأخير، «هذا جدّي
رسول الله صلّى الله عليه وآله،
قد سَقاني من حوضه شربةً لا أظمأُ بعدها أبداً».
ومن دلائل ذلك: إنّه ورد عن العديد من النّاس، في التّاريخ أنّهم كانوا يدعون الله عزَّ وجلَّ للحصول على الشّهادة،
ثمّ يشكرونه حين يجدون أنفسهم عندها. فكيف الحال في الحسين وأصحابه. وأهل بيته ومقدار إدراكهم
لذلك.
من دلائل ذلك: أيضاً
ما ورد عن أنّه عليه السَّلام كَشَف لأصحابه وأهل بيته بعد أن اختبرهم وأحرَزَ إخلاصهم، كَشف لهم
عن بصائرهم وأراهُم مواقعهم في الجنّة ليلة مقتلهم. فهشَّت نفوسهم إليها ورَغِبَت
بها، فكانوا فرحين مُستبشرين لذلك. وهذا معنى ما سمعناه من قول أحدهم: «ليس
بيننا وبين أن نعانق الحُور العين إلَّا أن يميل علينا هؤلاء بأسيافهم».
وقد يخطر في الذّهن: إنَّ
البكاء ليس دائماً على أمور الدُّنيا، بل إنّ له مبرِّرات عديدة ممّا هو صحيح دينيّاً. نذكر منها ما يلي:
أوّلاً:
البكاء من الذُّنوب.
ثانياً:
البكاء شوقاً إلى الثّواب.
ثالثاً:
البكاء خوفاً من العقاب.
رابعاً:
البكاء لأجل قلّة الصّبر على البلاء.
خامساً:
البكاء لأجل إقامة الحجّة على الخصوم.