كلمتان، إلى علماء
السّنّة والشّيعة
أشعّةٌ من عَظَمة
الإمام الحسين عليه السّلام
______بقلم: المرجع
الدّينيّ الشّيخ الوحيد الخراسانيّ*______
.. كلمة مُختصَرة مع أعيانِ علماء السّنّيِّين،
فلا أهمّيّة لعلمائهم المقلّدة، لكنّ في كلّ قومٍ باحثون من أهل الاستدلال العقليّ
لهم تضلُّع في العلوم النّقليّة. وكلامي فقط مع هؤلاء الّذين لا يُقاس الواحد منهم
بملايين المقلّدة:
توجد رواية نصُّها: «حُسينٌ منِّي،
وأنا من حسين، أحبَّ الله مَن أحبَّ حسيناً». في هذه الرّواية وجهان للبحث: سَنَديّ،
ودلاليّ.
أمّا البحث السّنديّ فنتعرَّض له هنا،
مع أنَّه ينبغي للمحقِّقين منهم أن يلتفتوا إلى أنَّنا لا نحتاج إلى أصالة السَّنَد
في مثل هذا النّصّ، بناءً على مبنانا الّذي نؤكِّد عليه، من أنَّ قوّة المَتن قد
تكون دليلاً على صحّة السَّنَد، وأنّه يَستحيل أن يصدر هذا الكلام من غير المعصوم عليه
السّلام.
لقد رَوى الحديثَ من علمائهم وأئمّة مُحدِّثيهم:
ابن عبد البرّ القرطبيّ صاحبُ (الاستيعاب)، وابن الأثير، وأحمد بن حنبل، والتّرمذيّ،
وابن ماجة، والحاكم ، والبخاريّ في (الأدب المفرد)، والطّبرانيّ، وابن شيبة،
وآخرون من أعيان علمائهم. وهذا نصُّه من (الأدب المفرد) للبخاريّ ص 85-364:
«حدّثنا عبد الله بن صالح قال: حدَّثنا
معاوية بن صالح، عن راشد بن سعد، عن يعلى بن مرّة أنّه قال: خرجنا مع النّبيّ صلّى
الله عليه [وآله] وسلّم، ودُعينا إلى طعام، فإذا حسينٌ يلعب في الطّريق، فأَسرع
النّبيُّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم أمام القوم، ثمّ بَسَطَ يديه فجعل الغلام
يفرّ ههنا وههنا، ويضاحِكُه النّبيُّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم حتّى أخَذَهُ،
فجعل إحدى يديه في ذقنه والأخرى في رأسه، ثمّ اعتَنَقَه، ثمّ قال النّبيّ صلّى
الله عليه [وآله] وسلّم: «حُسينٌ منِّي، وأنا مِن حسين، أحبَّ الله مَن أحبَّ
حسيناً، الحسينُ سِبْطٌ مِن الأسباط». انتهى.
وقد صَحَّحَه عددٌ من علمائهم، منهم الذّهبيّ،
كبير النُّقّاد عندهم، مع أنَّه حريصٌ ما استطاع على تضعيف أحاديث فضائل أهل البيت
عليهم السّلام.
حسينٌ تمامُ وجود
النّبيّ صلّى الله عليه وآله
أمَّا فقه هذا الحديث فهو عميق، لكنّا نَذكُر
منه نقاطاً، ويُمكن لِأهل البحث والتَّحقيق أن يتوسَّعوا فيها، وندعو مفكِّري السُّنّة
لأنْ يهتمُّوا بِدِرايته، ولا يقتصروا على روايته كما هو دَيْدَنهم.
«حسينٌ منِّي..»
ماذا تعني؟ هذه الياء الّتي هي ضميرٌ متَّصل بِمِن، ثمّ جاءت ضميراً منفصلاً في أوَّل
الجملة الثّانية: «..وأنا من حسين»، أيُّ ياءٍ هي؟ وعن أيِّ معنًى تحكي؟
ينبغي أنْ ينتبَّه مَن كان منهم متضلِّعاً في الاستدلالات العقليّة، إلى أنَّ
كلمة: منّي، هنا لا تعني أنَّ الحسين يَدِي، أو عيني، أو رأسي، أو جسدي..
فالياء هنا وكذا: أنا، تعني تمام وجود النّبيّ صلّى
الله عليه وآله، من بَدَنٍ وقوًى! فالحسينُ وجودٌ انْشَعَبَ
من حقيقة الحقائق!
فإن لم يكونوا من أهل التّخصُّصات
العقليّة العالية، فلا أقلّ أن يتفهَّموا النَّمط الثّالث للنّفس الأرضيّة والسّماويّة
عند ابن سينا، هناك حيث يقال للإنسان: اِرجعْ إلى نفسك وتأمَّل! فليقرؤوا التّنبيه
الأوّل في إشارات ابن سينا في بحث النّفس حتّى آخره ليعرفوا حقيقة العِلِّيّة
للإنسانيّة، وأنَّها مبدأ الإدراك والحركة ومبدأ كلّ فعلٍ وانفعالٍ في تكوين شخصيّته!
«حسينٌ منِّي..» معناها
أنَّه مُنْشَعِبٌ ومتفرِّعٌ من جوهر النّبوّة السّامي اللّطيف، هذا الجوهر الّذي
هو فوق البدن البشريّ للنّبيّ صلّى الله عليه وآله ذي الحواسّ المعروفة، وفوق
البدن المثاليّ للنّبيّ صلّى الله عليه وآله
الّذي له حواسه أيضاً. أمّا «حسينٌ منِّي..» فهو مَن جوهر مرتبته أعلى من
هذا البدن المادّيّ، وذاك البدن المثاليّ!
ما أسهل رواية الحديث، فقد رواهُ كبارُهم
وصَحَّحوه؛ رَواه الحاكم النّيسابوريّ وصَحَّحهُ هو والذّهبيّ، ورواه آخرون كالتّرمذيّ
وابن ماجة والبخاريّ، لكنَّ اقتحام العقبة إنّما هو بِفِقْهِهِ لا بِروايتِه،
فماذا فعلتُم في فقهه؟!
الحقيقة الحسينيّة
عينُ الحقيقة المحمّديّة
لو فهمتُم معنى «حسينٌ منِّي..»،
لَتابعتُم سَيْركم؛ فالحسينُ من النّبيّ صلّى
الله عليه وآله، والنّبيّ من ماذا؟ وإلى أين يرجع الضّمير
في (مِنِّي) ومن أين تفرَّع النّبيُّ صلّى الله عليه وآله؟!
هنا يخشع خواصُّ المفكِّرين ويقولون: انكسرت الأقلام، وخَرسَ البيان!
فالنّبيّ صلّى
الله عليه وآله متفرِّعٌ من نور العظمة الإلهيّ!
والحقيقة المحمّديّة هي النّقطة الأولى في بدو قوس النّزول في الوجود، وهي منتهى
قوس الصُّعود في الوجود! وبه يتَّضِح أنَّ الحقيقةَ الحسينيّة عينُ الحقيقةِ المحمَّديّة!
وهنا يَصِل العالِم المفكِّر السُّنّيّ
من هذا الحديث الشّريف إلى أصل النّور وفروعه: ﴿اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي
زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ
مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا
يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ
مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شيءٍ عَلِيمٌ﴾
النّور:35.
وما دام الأمر كذلك، فإنَّ الجراحات الّتي
أصابَت بَدَن الحسين يوم عاشوراء قد وقعت على شخص رسول الله صلّى
الله عليه وآله، وما يقعُ على النّبيّ يقع على نور
عظمة الله تعالى! إنَّ المصيبة الّتي أُصيبها الإسلامُ بالحسين عليه
السّلام هي المصيبة الّتي ثَقُلت في السّماوات
والأرض! المصيبة الّتي تهدَّمت بها أركانُ الهدى، وأثَّرت على كلِّ الوجود!
لو أنَّ علماء المذاهب السُّنّيّة تأمَّلوا
في كلامنا بعين الإنصاف، وتابعوا هذا الباب الّذي يَفتحه لهم حديث: «حُسينٌ منِّي،
وأنا مِن حسين»، لَعَظَّموا يوم عاشوراء، ولَخرجوا فيه حُفاة، حاسِرِي الرّؤوس،
دامِعي العُيون، وأَوْصوا جميع المسلمين أن يقيموا مراسم العزاء ليوم عاشوراء،
تفوق مراسم كلّ الحوادث والمناسبات الأخرى!
أرجو أن يقرأوا هذا الرّواية، ثمّ يقرأوا
كلام ابن حجر العسقلانيّ، وابن حجر الهيتميّ، وجلال الدّين السّيوطيّ، وغيرِهم من
علماء السُّنّة، حيث رَوَوا كلُّهم ما حدث في يوم عاشوراء؛ قالوا: لمّا قُتِل
الحسين بن عليّ رضي الله عنهما، كُسِفَت الشّمسُ كَسْفَةً بدت الكواكب نصف النّهار،
حتّى ظَنَنَّا أنّها هي! أي ظنَنَّا أنَّها القيامة!
فالمصيبة الّتي هزَّت الملأ الأعلى،
وأحدَثَت فيه هذا الحزن والغضب، ماذا يجب أن تؤثِّر فينا في هذا العالم؟!
«حسينٌ منِّي..»
هذه هي الجملة الأولى، والجملة الثّانية: «..وأنا من حسين».
ولا يتَّسع المقام لشرحها.
أمّا الجملة الثّالثة، فهي عالمٌ يموج
بالبلاغة النّبويّة والدّقّة: «أحبَّ الله مَن أحبَّ حسيناً..» والسِّرُّ
فيها أنَّها جملة خبريّة، وإنشائيّة تتضمَّن معنى الإخبار! ومعناها أنَّ الحسين
محبوبُ الله تعالى إلى حدِّ أنَّ محبَّته محبةٌ لله تعالى! فما هذه العظمة، وما
السّبب في حدوث هذا الانقلاب حتّى صار حبُّ الحسين حبّاً لله تعالى؟!
كلمتان لكلِّ مُوالٍ
ولي خطابٌ أيضاً معكم، فخطابكم يختلف عن
خطاب السُّنّيّين.
أقول لكم كلمتَين لتفكِّروا فيهما:
الكلمة الأولى:
أنَّ الإمام الصّادق عليه السّلام
المعروف بأخلاقِه وبشاشتِه، كان كما يروي صاحب (كامل الزّيارة) عن أبي عمارة
المنشد: «ما ذُكِر الحسين عند أبي عبد الله في يومٍ قطّ فرُئِي أبو عبد الله
متبسماً في ذلك اليوم إلى اللّيل! وكان يقول: الحسينُ عبرةُ كلّ مؤمنٍ»!
هذه هي قضيّة الحسين.. وهذا هو الإمام
الصّادق.. صلوات الله عليهما.
والكلمة الثّانية:
هل رأيتُم كيف يكون الفقيه؟! كان كبار العلماء إذا رَأوا اتّفاق ثلاثة فقهاء على
الفتوى في مسألةٍ في الفقه، أفتُوا بها ثقةً بعلمهم ودقّتهم وتقواهم! والثّلاثة هم
الشّيخ الأنصاريّ، والميرزا الشّيرازيّ، والميرزا الشّيرازيّ الثّاني، قدّس اللهُ
أرواحهم.
وكان الميرزا محمّد تقيّ الشّيرازيّ،
أعلى اللهُ مقامه، أعجوبةً في الفِكر، من حيث دقّة النّظر، وأعجوبةً في متانته
وصلابته؛ فهو الّذي وقف في وجه الإنكليز وأَطلق ثورة العراق! شخصٌ في مثل هذه الصّفة،
كان يوم عاشوراء حاسرَ الرّأس حافياً، في موكب العزاء يلطمُ على صدره!
ما هذا العمل من رأس الشّيعة ومرجعهم؟
نعم، كان رأس الشّيعة، وهو في عاشوراء، حاسر الرّأس حافي القدمَين! وهذا علامة
فقاهته، لأنَّه يرى أنَّ الإمام الرِّضا عليه
السّلام يقول: «إنَّ يومَ الحسين أَقْرَح
جفوننا، وأسبلَ دموعنا، وأذلَّ عزيزَنا بأرض كربٍ وبلاءٍ، أوْرَثَتنا الكربَ
والبلاءَ، إلى يوم الانقضاء»!
إنَّ يوم الحسين أقْرَحَ جفونَنا.. إنَّ
أدقّ وألطف عضو في البدن هو العين، فماذا بَلَغَت مصيبة الحسين حتّى جرحت جفون
الإمام الرّضا عليه السّلام؟!
إنَّ الميرزا أعلى اللهُ مقامَه يفهم أنَّ
المصيبة الّتي أقْرَحَت جفون الإمام الرّضا عليه
السّلام، يجب أن يخرج لها حافياً حاسراً، ويَلطم
على صدره!
لقد كان رَحمه الله أكبر ممّا قلنا،
وكان عملُه أكثر ممّا ذكرنا.
وأختم حديثي كما افتتحتُه بجملةٍ للإمام
الصّادق عليه السّلام
رئيسُ المذهب، فهو الّذي ينبغي أن يقول مَن هو الإمام الحسين عليه
السلام، ومثله ينبغي له أن يقول! ففي تعليماته
للشّيعة في زيارة الإمام الحسين عليه السّلام
قال: «إذا أتيتَ أبا عبد الله فاغتسِل على شاطئ الفرات، ثمّ البس ثيابَك الطّاهرة،
ثمّ امشِ حافياً، فإنّك في حَرَمٍ من حرَمِ اللهِ وحرمِ رسولِه، وعليك بالتّكبير
والتّهليل والتّسبيح والتّحميد، والتّعظيم لله عزَّ وجلَّ كثيراً، والصّلاة على
محمَّد وأهل بيته، حتّى تصير إلى باب الحِير "الحائر"، ثمّ تقول: السَّلام
عليك يا حجَّة الله وابن حجَّته..» إلخ.
وبما أنَّ السّائل سأله عن كيفيّة
زيارته، فقد علَّمه أنّك عندما تَصِل إلى قبره الشّريف وتسلِّم عليه بتلك التّسليمات
تقول: أشهدُ أنَّك حجَّةُ الله وابنُ حجَّته، وأشهد أنّك قتيلُ الله وابنُ
قتيله، وأشهدُ أنّك ثائرُ الله وابنُ ثائرِه، وأشهدُ أنّك وتْرُ الله الموتور في
السّماوات والأرض، وأشهدُ أنّك قد بلَّغتَ ونصحتَ ووفيتَ وأوفيتَ، وجاهدتَ في سبيلِ
الله، ومضيتَ للَّذي كنتَ عليه شهيداً ومستشهداً وشاهداً ومشهوداً. (الكافي:
4/575)
السّلام عليك يا حجَّةَ الله.. أشهد أنّك
حجَّةُ الله.. فبعد التّسليم، يأتي دورُ أداء الشّهادة لله تعالى، شهادةٌ تشبه تشهُّدك
عندما تجثو في صلاتك بين يدي الله تعالى، فتشهد له بالوحدانيّة ولِرسوله بالرّسالة،
كذلك عندما تزور الإمام الحسين عليه السّلام،
فاشهَد لله عند قبره بأنَّ الحسين حجَّته على خَلْقِه!
وهناك شهادةٌ أخرى عظيمة، عليَّ قولها
وعليكُم التّفكير، فقد علَّمنا الإمام الصّادق أنْ نشهدَ بها للحسين صلّى الله
عليه وآله وهي: «أشهد أنّك نورُ الله الّذي لم يطفأ ولا يطفأ أبداً. وأشهدُ أنّك
وجهُ الله الّذي لم يهلك ولا يهلك أبداً».
*
المرجع الدّينيّ، الوحيد الخراسانيّ، الحقّ المبين في معرفة المعصومين
ص336-342 (تعريب: الشّيخ عليّ الكورانيّ).