الصَّبر والصَّلاة،
إعدادٌ إلهيٌّ
الشّهادةُ حياة، لا تدركها الحواسّ القاصرة
ـــــ العلّامة السّيّد
محمّد حسين الطّباطبائيّ رحمه الله ـــــ
وقفةٌ مع تفسير العلّامة الطّباطبائيّ في (الميزان)، لآياتٍ
من سورة البقرة، يبيّن فيه أنّ رحمةَ الله تعالى لا تُنال إلّا بتوطين النّفس على
تحمُّل المشاقّ والابتلاءات الرّبّانيّة، وأنّ الظّفَر في الامتحان الإلهيّ يتأتّى
من: الاستعانة بالصّبر والصّلاة أوّلاً، والاعتقاد الجازم بحُسن العاقبة وطِيب المنقلَب
ثانياً.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ
وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ
فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ * وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ
بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ
وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ
مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ
عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾
البقرة:153-157.
خمسُ آياتٍ مُتَّحدةُ السِّياق، مُتَّسِقَةُ الجُمَل،
ملتئمةُ المعاني، يَسوقُ أوَّلُها إلى آخرها، ويرجع آخرُها إلى أوَّلها، وهذا يكشف
عن كَونها نازلةً دفعةً غير متفرّقة، وسياقُها ينادي بأنّها نزلت قُبيل الأمر
بالقتال وتشريع حُكم الجهاد، ففيه ذكرٌ من بلاءٍ سَيُقبل على المؤمنين، ومصيبةٌ ستُصيبهم.
".."
وبالجملة، ففي الآيات تلويحٌ إلى إقبال هذه المحنة بِذِكْر
القتل في سبيل الله، وتوصيفه بوصفٍ لا يبقى فيه معه جهةٌ مكروهة، ولا صفةُ سوءٍ،
وهو أنَّه ليس بموتٍ بل حياةٌ، وأيُّ حياةٍ! فالآيات تستنهضُ المؤمنين للقتال، وتُخبرُهم
أنَّ أمامهم بلاءً ومحنةً، لن ينالوا مدارجَ المعالي، وصلاةَ ربِّهم ورحمتَه،
والاهتداءَ بهدايتِه، إلَّا بالصَّبر عليها وتحمُّلِ مشاقِّها، ويعلِّمهم ما
يستعينون به عليها، وهو الصَّبرُ والصَّلاة.
الاستعانة بالصّبر
والصّلاة
قوله
تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا
بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾
البقرة:153
الصَّبر:
مِن أعظمِ المَلَكات والأحوال الّتي يمدحُها القرآن، ويكرّر الأمر به حتّى بلغ
قريباً من سبعين موضعاً من القرآن، حتّى قيل فيه: ﴿..إنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ
الْأُمُورِ﴾ لقمان:17،
وقيل: ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو
حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ فصّلت:35،
وقيل: ﴿..إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ الزّمر:10.
والصّلاة:
من أعظم العبادات الّتي يُحَثُّ عليها في القرآن، حتّى قيل فيها: ﴿..إِنَّ
الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ..﴾ العنكبوت:45،
وما أوْصى اللهُ في كتابه بوصايا إلَّا كانت الصّلاةُ رأسَها وأوَّلَها.
ثمَّ
وَصف سبحانه الصَّبرَ بأنَّ الله مع الصّابرين المُتَّصِفين بالصّبر، وإنَّما لم يَصف
الصَّلاة، كما في قوله تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ
وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ البقرة:45،
لأنَّ المقامَ في هذه الآيات، مقامُ ملاقاةِ الأهوال ومقارعةُ الأبطال، فالاهتمامُ
بأمرِ الصَّبر أنسب بخلاف الآية السّابقة، فلذلك قيل: ﴿..إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾
البقرة:153، وهذه المعيّة غير
المعيّة الّتي يدلُّ عليها قوله تعالى: ﴿..وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ..﴾
الحديد:4، فإنّها معيّةُ
الإحاطة والقيمومة، بخلاف المعيّة مع الصّابرين، فإنّها معيّةُ إعانةٍ، فالصَّبرُ
مفتاحُ الفَرَج.
دحضُ ادّعاءات أصحاب
الطّبيعة
قوله
تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ
أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾
البقرة:154
ربَّما
يُقال: إنَّ الخطابَ مع المؤمنين الّذين آمنوا باللهِ ورسولِه واليومِ الآخِر، وأَذْعَنوا
بالحياة الآخرة، ولا يُتَصَوَّر منهم القولُ ببطلان الإنسان بالموت بعدما أجابوا
دعوةَ الحقّ وسمعوا شيئاً كثيراً من الآيات النّاطقة بالمعاد، مضافاً إلى أنَّ
الآية إنَّما تثبتُ الحياةَ بعد الموت في جماعةٍ مخصوصين، وهم الشُّهداء المقتولون
في سبيل الله، في مقابل غيرهم من المؤمنين، وجميع الكفّار، مع أنَّ حكم الحياة بعد
الموت عامٌّ شاملٌ للجميع؛ فالمرادُ بالحياة بقاء الاسم، والذِّكر الجميل على مرِّ
الدُّهور، وبذلك فسَّرَه جمعٌ من المفسِّرين. ويردُّه:
أوَّلاً:
إنَّ كونَ هذه حياة، إنّما هو في الوَهم فقط دون الخارج، فهي حياةٌ تخيُّليّةٌ ليس
لها في الحقيقة إلَّا الاسم، ومثل هذا الموضوع الوهميّ لا يليق بكلامه، وهو تعالى
يدعو إلى الحقّ، ويقول: ﴿..فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ..﴾ يونس:32،
وأمّا الّذي سأله إبراهيم في قوله: ﴿وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي
الْآَخِرِينَ﴾ الشّعراء:84،
فإنّما يريدُ به بقاءَ دعوتِه الحقّة، ولسانِه الصّادق بعده، لا حُسنَ ثنائه وجميلَ
ذكرِه بعدَه فحسب.
نعم
هذا القولُ الباطل، والوهمُ الكاذب، إنّما يليقُ بحال المادّيّين، وأصحابِ الطّبيعة؛
فإنّهم اعتقدوا مادّيّةَ النّفوس وبطلانَها بالموت، ونفوا الحياةَ الآخرة، ثمّ أحسُّوا
باحتياج الإنسان بالفطرة إلى القول ببقاء النّفوس وتأثُّرها بالسّعادة والشّقاء
بعد موتها، في معالي أمورٍ لا تخلو في الارتقاء إليها من التّفدية والتّضحية، لا
سيّما في عظائم العزائم الّتي يموت ويُقتَل فيها أقوامٌ ليَحيا ويعيشَ آخَرون، ولو
كان كلُّ مَن مات قد فات، لم يكُن داعٍ للإنسان، وخاصّة إذا اعتَقد بالموتِ والفَوتِ،
أنْ يُبْطلَ ذاتَه ليُبقيَ ذاتَ آخرين، ولا باعثَ له أنْ يُحرِّم – بالجَور - على
نفسه لذّةَ الاستمتاع من جميع ما يقدر عليه، ليتمتَّع آخرون بالعدل، فالعاقلُ لا يُعطي
شيئاً إلَّا ويأخذ بَدَلَه.
وأمّا
الإعطاءُ من غير بدَلٍ، والتّركُ من غيرِ أخذٍ، كالموتِ في سبيل حياة الغير،
والحرمانِ في طريق تمتُّع الغير، فالفطرةُ الإنسانيّةُ تأباه. فلمّا استشعروا بذلك،
دعاهُم جبرُ هذا النَّقص إلى وضعِ هذه الأوهام الكاذبة، الّتي ليس لها موطنٌ إلّا ساحةُ
الخيال وحظيرة الوَهم. قالوا إنَّ الإنسانَ الحرّ من رقِّ الأوهام والخرافات يجبُ
عليه أنْ يَفديَ بنفسِه وطنَه، أو كلّ ما فيه شَرفه، لينالَ الحياةَ الدّائمة بِحُسنِ
الذّكر وجميلِ الثّناء، ويجب عليه أن يُحَرِّمَ على نفسه بعضَ تمتّعاته في
الاجتماع لينالَه الآخرون، ليستقيمَ أمرُ الاجتماع والحضارة، ويتمَّ العدلُ
الاجتماعيّ، فينال بذلك حياة الشّرف والعلاء.
وليتَ
شعري إذا لم يكن إنسان [أي إذا مات]،
وبطلَ هذا التّركيبُ المادَيّ، وبطلَ بذلك جميعُ خواصّه، ومن جملتها الحياةُ والشّعور،
فمَن هو الّذي ينال هذه الحياة وهذا الشّرف؟ ومن الّذي يدركُه ويلتذُّ به؟ فهل هذا
إلَّا خرافة؟
وثانياً:
إنَّ ذيل الآية، وهو قوله تعالى: ﴿..وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾، لا يناسبُ هذا
المعنى، بل كان المناسِب له أنْ يُقال: بل أحياءٌ ببقاءِ ذكرهم الجميل، وثناءِ النّاس
عليهم بعدَهم، لأنّه المناسب لمقام التّسلية وتطييب النّفس.
وثالثاً:
أنّ في نظيرة هذه الآية - وهي تفسِّرُها - وصفُ حياتهم بعد القتل بما ينافي هذا
المعنى. قال تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ
أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ آل
عمران:169، إلى آخر الآيات، ومعلومٌ أنَّ هذه
الحياة حياةٌ خارجيّة حقيقيّة، ليست بتقديريّة.
ورابعاً:
إنَّ الجهل بهذه الحياة الّتي بعد الموت لم يكن بعيداً عن بعض المسلمين في أواسط
عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله.
فإنَّ الّذي هو نصٌّ غيرُ قابلٍ للتّأويل إنّما هو البعثُ للقيامة، وأمَّا ما بين
الموت إلى الحشر - وهي الحياة البرزخيّة - فهي وإنْ كانت من جملة ما بيَّنَه
القرآن من المعارف الحقّة، لكنّها ليست من ضروريّات القرآن، والمسلمون غيرُ مجمعين
عليه، بل يُنكرُه بعضُهم حتّى اليوم، ممَّن يعتقد كَوْن النّفس غير مجرّدة عن
المادّة، وأنَّ الإنسان يبطلُ وجودُه بالموت وانحلالِ التّركيب، ثمّ يبعثُه اللهُ إلى
القضاء يومَ القيامة، فيُمكن أن يكون المُراد بيان حياة الشّهداء في البرزخ لمكان جَهْل
بعض المؤمنين بذلك، وإنْ عَلِمَ به آخرون.
تنبيهٌ وتذكيرٌ بالمعلوم
المُرادُ
بالحياة في الآية هي الحياة الحقيقيّة دون التّقديريّة، وقد عدَّ الله سبحانه حياة
الكافر بعد موته هلاكاً وبواراً في مواضع من كلامه، كقوله تعالى: ﴿..وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ
دَارَ الْبَوَارِ﴾ إبراهيم:28،
إلى غير ذلك من الآيات. فالحياةُ حياةُ السّعادة، والأحياءُ بهذه الحياة المؤمنون
خاصّة، كما قال: ﴿..وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ
كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ العنكبوت:64،
وإنَّما لم يعلموا، لأنَّ حواسَّهم مقصورةٌ على إدراك خواصّ الحياة في المادّة الدّنيويّة.
وأمّا ما وراءَها، فإذا لم يُدركوه، لم يفرِّقوا بينه وبين الفناء فتوهَّموه فناءً،
وما توهَّمَه الوهمُ مشترَكٌ بين المؤمن والكافر في الدّنيا، فلذلك قال: في هذه
الآية، ﴿..بَلْ أَحْيَاءٌ
وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ أي: بحواسّكم، كما
قال في الآية الأخرى: ﴿..لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾، أي
باليقين، كما قال تعالى: ﴿كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ
الْجَحِيمَ﴾ التّكاثر:5-6.
فمعنى
الآية - واللهُ تعالى أعلم - ولا تقولوا لِمَن يُقتَل في سبيل الله أموات، ولا
تعتقدوا فيهم الفناءَ والبطلان كما يُفيدُه لفظُ الموت عندكم، ومقابلته مع الحياة،
وكما يُعينُ على هذا القول حواسّكم، فليسوا بأمواتٍ بمعنى البطلان، بل أحياءٌ،
ولكنّ حواسّكُم لا تنالُ ذلك ولا تَشعر به. وإلقاءُ هذا القول على المؤمنين - مع
أنّهم جميعاً أو أكثرهم عالمون ببقاء حياة الإنسان بعد الموت، وعدم بطلان ذاته - إنّما
هو لإيقاظهم وتنبيهِهم بما هو معلومٌ عندهم، يرتفعُ بالالتفات إليه الحرَجُ عن
صدورهم، والاضطرابُ والقلقُ عن قلوبهم إذا أصابَتهم مصيبةُ القتل، فإنّه لا يبقى
مع ذلك من آثار القتل عند أولياء القتيل إلّا مفارقةٌ في أيّامٍ قلائل في الدّنيا،
وهو هيِّنٌ في قبال مرضاة الله سبحانه، وما نالَه القتيلُ من الحياةِ الطّيّبة،
والنّعمةِ المُقيمة، ورضوانٍ من الله أكبر. وهذا نظيرُ خطاب النّبيّ بمثل قوله
تعالى: ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ البقرة:147،
مع أنّه صلّى الله عليه وآله أوَّلُ الموقنين بآيات ربِّه، ولكنّه كلامٌ كُنِّيَ
به عن وضوح المطلب وظهوره، بحيث لا يقبلُ أيَّ خطورٍ نفسانيٍّ لخلافه.