حقّانيّةُ الحوار
في وجوب التّلازم
بين الإيمان والمعرفة والأخلاق
_____ محمود حيدر _____
مطالعةٌ حول الآليات العامّة والخاصّة الواجب اعتمادُها
في عمليّة الحوار، وعلى مستوى العلاقة بين الفضاءات الحضاريّة المتعدّدة.
في حين تقوم الأولى على مبدأ التّكافؤ والتّوازن، تستندُ
التّالية إلى جملة قواعد، في طليعتِها المباشرة، والعقلانيّة، والأخلاقيّة.
هل يُجدي الحوارُ من دون أنْ يتعرّفَ كلُّ محاورٍ على الآخَر
الّذي يُحاوره؟
سؤالٌ يبدو عاديّاً جدّاً
للوهلة الأولى، لكنّه إشكاليٌّ بامتياز. فلو تبيَّنّا العوامل الّتي تحُول دون وصول
المحاوَرات إلى صيرورتها الفاضلة، لَظهرَ لنا أنَّ الأمر يعود إلى الجهل المديد الّذي
يحكمُ حقول المتحاورِين أنفسهم.
هذه البديهيّة تحضرُ
اليوم بقوّةٍ وسط الجدل المتواصل حول الآليّات الّتي ينبغي أن تُعتمد للحوار بين
الأديان، والمذاهب، والتّيّارات داخل كلّ مجتمعٍ، وعلى مستوى العلاقة بين الفضاءات
الحضاريّة المتعدِّدة.
المسألة ليست موقوفةً
على إدراك ضرورة التّعرُّف المُتناظر بين الجهات المُتحاورة، وإنّما أساساً على ضرورة
«انوجاد» إرادةِ التّعرُّف لدى تلك الجهات.
هنا لا بدّ من القول
بدايةً إنَّ المعرفة لا تستوي إلّا على نصاب الحرّيّة. وتلك بديهيّةٌ تفترض
العناية بها كلّما دار الكلام على أمرٍ يشكِّل، بالنّسبة إلى الأفراد أو الجماعات،
موضوعاً للتّعرُّف. ففي المسافة الفاصلة بين الشّيء المجهول والعلمِ به، يجد السّاعي
إلى المعرفة، أنّه بإزاء مجهودٍ فكريٍّ وأخلاقيٍّ ينبغي أنْ يبذلَه لتحصيل ما يَسعى
إليه.
ولأنَّ تحصيل المعرفة
شرطُه الحرّيّة، فلهذه الأخيرة قواعدُ ومبادئ ومنازل، لا تتوفّر إلّا لِمَن توفّر
على ثلاثة شروطٍ متلازمةٍ، تؤلِّف عناصرَ الكمال لشخصيّته، وهي: العقل، والإيمان،
والأخلاق. إذ من خلال هذه الثّلاثيّة يستطيعُ المتعرِّفُ أن يتعقّلَ نظيرَه كما
يبدو له هذا النّظيرُ في الواقع. ثمّ ليناظرَه بالرّحمانيّة ويَسلك مسلكاً يجعل من
حياته الشّخصيّة جزءاً غير منفصلٍ عن حياة الجماعة، حيث يشاطرها كلّ شأنٍ عامٍّ
على أساسٍ من الخيريّة، والاعتناء، والشّراكة التّامّة. إذ لا يقدر سوى كائن يمارس
التّعقّل، ويدرك شرائط السّلوك الأخلاقيّ، أن يفلحَ في إنجاز هذه المرتبة من الحرّيّة.
مَن يمتلك مثل هذا
المستوى من التّعقُّل - ونعني بالتّعقُّل استعمالَ العقل كناظمٍ معنويٍّ وروحيٍّ،
للفكر والواقع، لا بوصفِه أداةً تقنيّة - فإنّه يحقِّق بذلك الشّرط القَبليّ
للإيمان. ذلك لأنّ الإيمان، هو الفعلُ الّذي يصلُ به العقلُ في نشوته الانجذابيّة إلى
ما وراء ذاته، كما يقول الفيلسوف الألمانيّ بول تيليتش Paul Tillitch، أي إلى المبدأ الّذي صَدَر منه وخُلِق من أجله. وهو ما
نعنيه بالفطرة الّتي هي أوّلُ زرعٍ ألقاه اللهُ تعالى في الإنسان، ليَعرفَه ويؤمن
به. إذ حين يعيشُ هذا العقلُ همَّه الأقصى متّحداً بالإيمان، يتحرَّر من حدود أنانيّته
الضّيّقة، وتتّسع لديه فضاءاتُ التّعرُّف، ويصبحُ كلُّ مغايرٍ أو مختلفٍ حافزاً له
للجاذبيّة والنّموّ. فالتّجربةُ الانجذابيّةُ لا تُلغي العقل، بل هي لا تتحقَّقُ إلّا
بالعقلانيّة. إذ إنَّ العقلَ لا يتحقّقُ بالحرّيّة التّامّة إلّا متى سِيقَ إلى ما
وراء حدود تناهيه، أي إلى المقدَّس اللّامتناهي (غير المتناهي). فالإيمان بوصفه
حالةَ همٍّ أقصى، هو نفسُه العقلُ في نشوته الانجذابيّة. ولذا فلا تناقضَ بين
طبيعة الإيمان وطبيعة العقل، بل يقع كلٌّ منهما في داخل الآخر. ليُحقِّقا للإنسان
الحدودَ القصوى من الحرّيّة.
ذلك يعني أنّ التّعرّفَ المؤيَّدَ بالحرّيّة المُدرِكة
والواعية، هو عمليّةٌ مركّبة: من جهةٍ تلبِّي الحاجةَ إلى التّواصل واللّقاء الّذي
تفترضُه ضروراتُ الحياة، ضمنَ جغرافيا حضاريّة ودينيّة مشتركة، ومن جهةٍ ثانية فإنّها
تنجزُ الحاجةَ إلى فهمِ ما كان غيرَ مفهومٍ من المعارف الإيمانيّة، والدّينيّة،
والحضاريّة للفريق الآخر.
حين تصيرُ الحرّيّة شرطاً مقوّماً للإيمان
والمعرفة، ربّما نَصِلُ إلى ذلك المثلّث الّذي لا يستوي التّعرُّف فيه على نصاب
العدل إلّا باجتماع أركانه معاً: الإيمان والأخلاق والحرّيّة. بذلك يتوفّر للمُلتقين،
الفضاءُ الفسيح الّذي ينأَى بهم من شوائب الحذَر والخشية، وتخلو لهم المساحة
الكافية لتبادل المعارف وإنجاز القضايا المشتركة.
من لوازم التّعرُّف الّذي يسبق أيَّ حوارٍ، أن
يتوفّر المتعرِّفون على ما سُمِّي بـ «سعة النّظر». وهذه القيمة الأخلاقيّة
المعرفيّة هي ركيزة أساسيّة من مرتكزات التّعرُّف. وقوامها أنْ يُحرزَ طرفا
العلاقة وعياً مسبقاً بضرورتها النّظريّة، وكذلك بضرورة اختبارها عبر ممارستها في
الحياة الواقعيّة. وفي تصوُّرنا أنّ مثل هذا الوعي لن يتحقّق إلَّا بشرط الالتقاء
بين جدولَين متآخيَين:
أ) جدول الفضيلة:
ومنشؤه الفطرة الخيِّرة الكامنة في ذات الإنسان. تلك الّتي يَستمدّ ذلك الإنسان
منها الفضائل، وبرعايتها يَحسُنُ سَيرُه، ويتجمَّل سلوكُه. فكلّما نمّاها ووسَّعها
فاضت عليه بالتّخلّق واللُّطف.
ب) جدول المعرفة: وهو
مركَّبٌ من خطَّين متلازمَين تلازماً «ذاتيّاً»: معرفة الذّات، ومعرفة الغير.
كِلا الجدولَين (الفضيلة والمعرفة) يتحرّكان في
سياقٍ واحدٍ. ولئن ظَهر لنا أنَّ جدول الفضيلة هو أمرٌ ثابتٌ من حيث كونه مبتنياً
على الفطرة التّكوينيّة لذات الإنسان، فإنّ جدولَ التَّعرُّف السّاري عبر نشاط
العقل، يجري بلا انقطاعٍ ضمن حركةٍ جوهريّةٍ في الحياة المُشترَكة للأديان والأُمَم.
متى حاز المُتعرِّفُ الجمعَ بين جدولَي الفضيلة
والمعرفة، تحقَّق له الطَّور الأوّل من سعة النّظر، وبذلك يكون قد أنجزَ بمعرفته
الخلّاقة حقلَ إدراكٍ زاخرٍ بقابليّات النّموّ، والامتداد والتّوسُّع والشُّمول.
التّعرُّف
قبل الحوار
تفترضُ
الصُّورةُ، إذاً، مقاربةً للحوار في ما هو مسعًى سامٍ ونبيل، لتتعرَّف الذَّاتُ
إلى صورتها وإلى صورة الآخَر الّذي يُناظرُها، ثمّ لتسعى إلى تلطيف الزّوايا الحادّة
الّتي تحكمُ مساحات الاختلاف. حيث الغير - ضمن هذا المحلّ من الفهم - ليس إلّا ما
تنطوي عليه الأنا من صفاتٍ محمودةٍ لتبلغَ تمامها. فالحوار في هذه المنطقة المعرفيّة،
إنّما هو صيرورةُ الأنا إلى الغير. ثمّ لتَنبسطا معاً به على الرِّضى، والقبول،
والحراك المشترك. لكنّ المقاربةَ تفترضُ تحويلاً للشّائعة الّتي تقومُ على تلك الثّنائيّة
المتنافرة بين الأنا / الآخَر، كأنْ يصيرَ الكلامُ على واحديّة الأنا والغَير،
تظهيراً لمنحًى جديدٍ في مفهوم الحوار. ذلك أنّ الغَير يُصبِحُ هذا الآخَر الّذي
يمكثُ فينا، ولا نملك أن نفارقَه قطّ. وهو نفسُه الّذي سنعقدُ وإيّاه صِلاتٍ، هي
أقرب إلى محاوراتٍ داخليّة، منها إلى مناظراتٍ مع آخَر في الخارج. وهكذا يغدو
الحوارُ ضمنَ هذه الوحدة البنّاءة بديلاً من الجدال العدَميّ، الّذي غالباً ما
ينبني على فرضيّة حضور الآخَر كنظيرٍ سالبٍ للأنا، أو بوصفِه جحيماً حسب تعبير
سارتر Sartre.
وبسبب
تعدُّد أوجه استعمال مصطلح الحوار، ولعوامل تعود إلى سوء توظيفه في حقول النّزاعات
السّياسيّة، والثّقافيّة، والاجتماعيّة، والعقائديّة، فقد لحقتْ بالمفهوم التباساتٌ
شتّى، حتّى إنّنا غَدَونا في مطارح كثيرة، نرى إليه مفهوماً لفظيّاً يوضَع في غير
محلِّه. حيث جرى تحويرُه وتحويلُ المُراد منه، وفقاً لأغراض، وأهواء، ومصالح.
فالآليّات
العامّة الّتي تجعل الحوار يمضي بالمتحاوِرين إلى غاياتهم المأمولة، ينبغي لها أن
تلحظ مبدأ التّكافؤ، والرِّضى، والتّوازن في ما بينهم. ذلك أنّ الحوار في أحواله
ومبانيه وغاياته، قائمٌ على الاعتراف والتّقابل السّويّ، وحقِّ كلِّ فريقٍ، سواء كان
فرداً أم جماعة، في المشاركة المتساوية المتكافئة، في تقرير الصّياغة النّهائيّة لِشَكلِ
المسألة الّتي يجري الحوار بشأنها، ومضمونها.
إنّ
الانطلاق من هذا المبدأ، سوف يُنجز نصفَ المسافة المؤدِّية إلى الصِّيغة الفُضلى
من الاتّفاق والحلّ المُفترَض. وبالتّالي فمن البداهة ألَّا يكون الحوار حقيقيّاً
وسويَّاً في حالة الغلَبة وعدم التّكافؤ، وإلّا صارت كلُّ صيغةٍ تُنتجها مجالات
التّحاور، أدنى إلى عمليّة استلابٍ، أو أنّها مجرَّد فعل أمرٍ يفرضُه الأقوى على
الأضعف، ما يؤدِّي في النّهاية إلى خللٍ في نظام الحياة.
آليّات
الحوار، وقواعدُه
على
هذا الأساس، فإنَّ استقامة الحوار على مبدأ التّوازن، والاعتراف، وحرمة تجاوز حدود
الغير، يفترضُ مراعاةَ جملةٍ من القواعد والآليات، يُمكن إجمالها على النّحو التّالي:
1- المباشرة: أي إجراء
التّحاور من دون وصايةٍ من خارج، لئلّا يتحوَّل الحوار إلى تفاوضٍ، فتكون النّتيجة
تحويل المتحاوِرين إلى أدواتٍ لتحقيق أهداف معاكسة. وعلى هذا، فإنَّ العلاقة
الأفقيّة والمباشرة بين المُتحاوِرين، هي الّتي ينبغي توفيرها أوّلاً لكي يجريَ
حوارُهما على نحوٍ سَوِيّ.
2- وضوحُ
الخطاب: أن تكون اللّغة الّتي يستخدمها كلُّ طرفٍ،
مفهومةً وبيِّنةً وواضحةً بالنّسبة إلى الطّرف المقابل. ومتى يتوفّر وضوح الخطاب،
تنشأ وحدةُ لغةٍ بين المتحاوِرين تمكِّنهم من فهمِ أنفسهم، وبالتّالي الحدود الّتي
ينبغي أن يتوقّف عندها كلُّ فريقٍ، حتّى لا يتعدّى حرمةَ حدود الغير.
3- العقلانيّة: وتقوم
على النّظر إلى الغير بما هو غير، له وجودُه، وشخصيّته، وله مزاياه السّالبة
والموجبة. وعليه ينبغي أن تتوفَّر القناعة الكاملة، بأنَّ الغير هو كيانٌ كاملٌ.
إن لم أستطع النّظر إليه من هذه الزّاوية، فسأكون كَمَن يُحاوِر نظيراً أصنعُه وفقَ
ما أريد، وليس طِبْقاً لوجوده وهويّته الخاصّة.
4- التّسامحيّة: الإعراض
عن إسقاط ما تمتلئ به الأنا المحاوِرَة، على الغير، من يقينيّات. فالحقيقة الكلّيّة
مطلَقة، غير أنّ رؤيتَنا لها أو قدرتَنا على إدراكها، نسبيّةٌ ومتغيِّرة، ومن خلال
التّحاور نصلُ إلى فهمٍ أكبر للحقيقة. ولسوف ننجز المزيد من الفهم، كلّما قطعنا أطواراً
إضافيّة من التّعرُّف.
5- الأخلاقيّة: تقدير
الغير حقّ قدره. هو أن أراه حيث هو، خارجاً عن أيّ اتِّهامٍ، معلَنٍ أو كامنٍ. أن
أحترمَ الآخَر، هو أن أعترفَ أنَّ له القيمةَ نفسَها الّتي أُعطيت لي، من دون
زيادةٍ أو نقصانٍ، فألتقيه حيث هو، وبهذا أكون قد دعوتُه كي ينظر إليَّ حيث أقف،
لا من حيث هو يريدُ لي الوقوف. إنّ ذلك يتطلَّب استعداداً لضبط وقائع مسالك الأنا،
وأهوائها، وأغراضها.
6- الاستقلاليّة:
لا نستطيع القول إنّنا نتحاور، إنْ نحن نظرنا
إلى الغَير انطلاقاً من تعميمٍ يُخرجه من فرادته، فهذا الغَير هو كائنٌ له هويّته
الكاملة، من قبل أن يكون مجرّدَ كائنٍ أُحاوِرُه، لأبلغَ وإيّاه ما هو مشترَكٌ
بيني وبينه. وبالتّالي، أنْ أرى فيه شخصاً جديداً، ليس الآن فقط، بل في كلِّ لحظة.
فكلُّ لحظة حوارٍ مع الغَير، هي نظرةٌ جديدةٌ إليه، تجعلني أراه مولوداً في كلّ
لحظة. إنَّ إخراجَ الغير من التّعميم، ومن الصُّوَر الّتي رسمناها عنه، أو رَسَمها
عنه آخرون، هو خطوةٌ أولى في سبيل تحرير ذواتنا من أَسْرِ العتمة، بما يؤدّي إلى
تحرير سِوانا بالقدرِ عينه.
7- التّناظريّة: أن
يكون التّحاورُ بعد التّعرُّف بين نظيرَين متكافئَين، فلا غَلَبة لأحدٍ على أحدٍ.
فكما ينبغي أن أرى إلى الغير كما هو، وَجَبَ عليَّ السّعيُ ليرى الغيرُ إليَّ كما
أنا. إنّ الغير، باختصار، هو النّظير المُعادِل لذواتنا على التّمام. وهنا بالضّبط،
يمكن أن نؤسِّس لحوارٍ تعرُّفيٍّ خلّاقٍ، وسطَ عالمٍ مُشبَعٍ بالإقصاء والقطيعة.
باحث في الفكر الفلسفي والأخلاقي