الكبائرُ والصّغائر
ماهيّاتها،
وخصائصُها في القرآن الكريم والسُّنّة المُطهّرة
ـــــ الفقيه المحقّق الشّيخ ضياء
الدّين العراقيّ قدّس سرّه ـــــ
«البحثُ
عن الكبائر، وتحديدُها، وَحَصْرُها بسَبع أو سبعين، هو بحثٌ كلاميّ قبلَ أن يكون
بحثاً فقهيّاً وتفسيريّاً. فقد اختلف المتكلّمون في وجود صغائر بالذّات ممتازة عن
الكبائر. وهل يحسن في التّكليف الزّجرُ عن سيّئاتٍ لا عقابَ عليها، حسبما يدّعيه
القائلُ بوجود صغائر هي مغفورة، استناداً إلى ظاهر قوله تعالى: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ
عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا﴾
النّساء:31».
ألا
يكون ذلك إغراءً بارتكاب مُحرّماتٍ نهى اللهُ عنها، فما موقعُ النّهي، وما فائدةُ
التّحريم؟
أسئلة
كثيرة تدور مدارَ هذه القضيّة، وقد اخترنا هذا البحث – المختصَر – من كتاب (شرح
تبصرة المُتعلّمين – كتاب القضاء) للفقيه المحقِّق الشّيخ ضياء الدّين العراقيّ.
«شعائر»
*
قال الشّيخ المفيد: «ليس في الذّنوب صغيرةٌ في نفسه، وإنّما يكون فيه بالإضافة إلى
غيره. وهو مذهبُ أهل الإمامة والإرجاء. وبنو نوبخت يخالفون فيه، ويذهبون في خلافه
إلى مذهب أهل الوعيد والاعتزال».
*
وقال الشّيخ الطّوسيّ: «والمعاصي وإنْ كانت كلّها عندنا كبائر، من حيث كانت معصيةً
لله تعالى. فإنّا نقول: إنّ بعضها أكبر من بعض، ففيها، إذاً، كبيرٌ بالإضافة إلى
ما هو أصغر منه. وقال ابنُ عبّاس : كلّ ما نهى الله عنه فهو كبير».
* وقال الشّيخ الطّوسيّ في (العُدّة): «وعلى أصولنا،
إنّ كلّ خطأ وقبيحٍ، كبيرٌ».
*
وقال الطّبرسيّ: «وإلى هذا ذهبَ أصحابُنا، فإنّهم قالوا: المعاصي كلّها كبيرةٌ من
حيث كانت قبائح. لكنّ بعضَها أكبرُ من بعض، وليس في الذّنوب صغيرة. وإنّما يكون
صغيراً بالإضافة إلى ما هو أكبر منه، ويستحقّ العقابَ عليه أكثر».
*
وقال ابن إدريس - بعد نقل كلام الشّيخ في (المبسوط) بضرورة اجتناب الشّاهد [أمام
القاضي] للكبائر، وأن لا يكون غالب أحواله مُرتكباً
للصّغائر: «وهذا القول لم يذهب إليه - رحمه الله - إلّا في هذا الكتاب، أعني (المبسوط)،
ولا ذهبَ إليه أحدٌ من أصحابنا، لأنّه لا صغائرَ عندنا في المعاصي إلّا بالإضافة
إلى غيرها».
*
وقال الشّيخ بهاء الدّين العامليّ: «لا يخفى أنّ كلام الشّيخ الطّبرسيّ مُشعِرٌ بأنّ
القول: بأنّ الذّنوب كلّها كبائر، متّفقٌ عليه بين علماء الإماميّة، وكفى بالشّيخ
ناقلاً...».
***
وبعد،
فإنّ الخطيئة إنّما تكون معصيةً باعتبارها مُخالفةً لأمره تعالى، وخروجاً عن طاعته
الواجبة. ومن ثمَّ فإنّ الخطيئة لا يُنظَر إلى كبر حجمِها، بل إلى عِظَم مَن خالفتَه
فيها. فقد رُوي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله:
«..لا تَنْظُرْ إِلى صِغَرِ الخَطيئَة، وَلَكِنِ انْظُرْ إلى مَنْ عَصَيْتَ».
وعن
أمير المؤمنين عليه السّلام:
«أشَدُّ الذُّنوبِ عِنْدَ الله، ذَنْبٌ اسْتَهانَ به راكِبُهُ». وأيضاً من
كلامه صلوات الله عليه: «لا تَنْظروا إلى صِغَرِ الذَّنْبِ، وَلَكِنِ انْظُروا
إِلى ما (مَن) اجْتَرَأْتُم [عليه]».
إذاً،
فالجُرأة على الله تعالى هي العظيمة، ولا وقعَ لصِغَر الذّنب بالقياس إلى غيره من
الذّنوب.
وهذا
هو مقصودُ الشّيخ في كلامه المُتقدّم: «وعلى أصولنا: كلّ خطأ وقبيحٍ، كبيرٌ»، نظراً
لأنّ المناط في عظَم الخطيئة هو الجرأةُ على المَولى تعالى، وكفرانُ نِعَمِه،
والأخذ بضدّ مطلوبه. الأمر الّذي يوجَد في كلّ خطيئة، سواء كانت كبيرةً أم صغيرةً
بالقياس إلى غيرها.
فقد
رُوي عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه السّلام:
«الذُّنُوبُ كُلُّهَا شَدِيدَةٌ، وأَشَدُّهَا مَا نَبَتَ عَلَيْهِ اللَّحْمُ والدَّمُ،
لأَنَّه إِمَّا مَرْحُومٌ وإِمَّا مُعَذَّبٌ، والْجَنَّةُ لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا طَيِّبٌ».
ورُوي
عن الإمام الصّادق عليه السّلام
بشأن الاستغفار في قنوت الوتر: «وَصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبٍكَ،
ثمَّ قال عليه السّلام: وَكُلُّ ذَنْبٍ عَظِيمٌ».
نعم،
تختلف الذّنوب حَجماً حسب اختلاف المفاسد المُترتّبة عليها، كثرةً وقلّةً، الأمر
الذي لا يمسُّ جانبَ الاجتراء على الله عزّ وجلّ، وهو كبيرٌ، لا محالةَ، مُطلقاً. قال
تعالى: ﴿..قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ
وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ
أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ..﴾ البقرة:217.
صغائرُ
الذّنوب، عينُ كبائرها
على
أنّ الاستصغار بالذّنب كبيرةٌ موبقة، لأنّه استهانةٌ بمقام إطاعة المولى الجليل.
قال
رسولُ الله صلّى الله عليه وآله:
«وَالذَّنْبُ الّذي لا يُغْفَرُ، قَوْلُ الرَّجُلِ: لَا أُؤاخَذُ بِهَذا الذَّنْب،
اسْتِصغَاراً لَهُ».
وقال
الإمام الباقر عليه السّلام:
«لَا تَسْتَصْغِرَنّ سَيِّئَةً تَعْمَلُ بِها. فَإنَّكَ تَراها حَيْثُ يَسُوؤكَ
(تَسوؤك)».
وفي
حديث المَناهي، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله:
«لَا تُحَقِّروا شَيْئاً مِنَ الشَّرِّ وَإنْ صَغُرَ فِي أَعْيُنِكُم، ولَا تَسْتَكْثِروا
شَيْئاً مِنَ الخَيْرِ وإنْ كَثُرَ في أَعْيُنِكُمْ. فَإِنَّه لا كَبيرَ مَعَ الاسْتِغْفار،
وَلا صَغيرَ مَعَ الإِصْرار».
والمرادُ
من الإصرار هو مجرّدُ تَرْكِ التّوبة عَقيبَ الارتكاب. كما ورد في تفسير قوله
تعالى ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا
اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ
يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ آل
عمران:135.
وعن
أبي جعفر الباقر عليه السّلام:
«الإصْرارُ هو أنْ يُذْنِبَ الذَّنْبَ فَلا يَسْتَغْفِرَ اللهَ، ولا يُحَدِّثَ
نَفْسَهُ بِتَوْبَةٍ، فَذَلِكَ الإِصْرارُ».
إذاً،
فكلّ ذنبٍ مهما كان صغيراً في نظر مُرتكِبه، فإذا ترك التّوبة ولم يندم على خطَئه،
ولم يستغفر اللهَ عليه، فهو كبيرٌ، كما أنّه لا كبيرةَ مُوبقة مع تعقُّب النّدم
والاستغفار.
*
* *
ثمّ
إنّ أصول مذهبنا ترفض إمكان وجود سيّئة مغفورةٍ من غير توبةٍ ولا استغفار، وإن كلّ
محاولةٍ في تفسير آية النّساء (الآية 31 المُتقدّمة) بذلك، هي مُحاولةٌ فاشلةٌ ومُتنافيةٌ
مع حكمتِه تعالى في التّكليف.
إذ لولا كونُها سيّئةً في ذاتها، ومُشتملةً على قُبحٍ
واقعيٍّ ثابت، لَما نهى اللهُ عنها ولا حَرّمها، فكيف يُعلَّق تحريمُها على ارتكابِ
الكبائر، إنّها على هذا التّقدير غير مُحرّمة، فلا مانعَ شرعيّاً من ارتكابها في
هذا الظّرف، وإنّما المانع يختصُّ بصورة ارتكاب الكبائر أيضاً. وهذا غيرُ معقولٍ
على أصول مذهبنا في وجود مصالح ومفاسد واقعيّة ثابتة كامنة وراء الأوامر والنّواهي
الشّرعيّة. وأمّا لو فُرض بقاؤها على مفاسدها في هذا الظّرف أيضاً، ومع ذلك رخَّصَ
[الشّارعُ]
في فعلها، ورفعَ العقاب عن مُرتكبِها تفضُّلاً، فهذا إغراءٌ بفعل القبيح الواقعيّ
من غير ما سببٍ معقول.
...
إِلَّا اللَّمَمَ
أمّا الآية الكريمة
فإنّ لها تفسيراً وجيهاً غير ما زعموه، فإنّها تعرضت لجانب ضَعفِ هذا الإنسان تجاه
مُتطلّبات حياته المادّيّة، ولذائذ تبتغيها شهواتُه النّفسيّةُ المُتراكمة ﴿..وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ النّساء:28.
ومن ثمَّ فإنّه غيرُ معصومٍ عن الخَطأ والزَّلَل في حياته مهما كان جادّاً في
تربية نفسه وتهذيبها، فإنّ نفسه قد تغلبُه أحياناً، فيرتكب خطايا خارج إرادته
العقليّة.
إنّ
الإسلامَ - بما فيه من حدود وتكاليف - يدعو إلى الرّفعة والسُّمو والطُّهر والنّظافة،
لكنّه لا يتغافلُ عن ضَعفِ الإنسان وقصوره، ولا يتجاهل فطرتَه وحدودَها ودوافعَها،
ومُختلفَ دروب حياته ومُنحنياته الكثيرة، ومن ثمَّ وضع برامجَه على أساسٍ من السَّماح
واليُسر والسّعة، فكان التّوازنُ العادلُ بين التّكليف والطّاقة، وبين الدّوافع
والزّواجر، وبين التّرغيب والتّرهيب، وبين التّهديد بالعقاب والتّطميع في الثّواب.
الأمر الذي تتجسّد فيه حكمتُه، سبحانه وتعالى، في الأمر بالطّاعة، والإطماع في
العفو والمغفرة.
إذاً،
فمعنى الآية الكريمة: «إنّكم أيّها المؤمنون، إذا ما ثَبتّم على التزامِكُم بالدّين،
واجتَنبتم محرّماتٍ وفواحشَ نُهيتم عنها، فإنّ ما يفرطُ منكم من الخطايا بين آونةٍ
وأخرى، هي مسموحةٌ مغفورةٌ لكم».
وإلى هذا المعنى أيضاً يُشير قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ
وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ..﴾
النّجم:32، حيث الالتزام
الدّينيّ هو الذي يزجرُهم، ويدعوهم إلى النّدَم والاستغفار إثرَ ما فرطَ منهم من
خطأ. وبذلك جاء التّصريحُ في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً
أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾
آل عمران:135.
* قوله تعالى: ﴿ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا﴾
تفسيرٌ لِلَّمَم، على ما جاء في حديث إسحاق بن عمّار عن الإمام الصّادق عليه
السّلام: «اللَّمَمُ: الرَّجُل يُلِمُّ بالذَّنْبِ
فَيَسْتَغْفِرُ اللهَ»، كأنّه لم يُرد إيقاعَه، وإنّما وقع منه وقوعاً على
خلاف طبعِه، ورغم خُلُقه في الالتزام الدّينيّ، وفوراً يندمُ على ما فرطَ منه،
ويتوبُ إلى الله تعالى. وفي حديثٍ آخر قال عليه السّلام: «اللَّمَّامُ: الْعَبْدُ
الَّذِي يُلِمُّ الذَّنْبَ بَعْدَ الذَّنْبِ، لَيْسَ مِنْ سَلِيقَتِه، أَيْ مِنْ طَبِيعَتِه».
وقال عليه السّلام: «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا ولَه ذَنْبٌ يَهْجُرُهُ زَمَاناً،
ثُمَّ يُلِمُّ بِه..».
*
وقولُه تعالى: ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا﴾: تقدّم تفسيرُ الإمام الباقر عليه
السّلام ذلك بالمبادرة إلى الاستغفار: «الإصْرارُ
هو أنْ يُذْنِبَ الذَّنْبَ فَلا يَسْتَغْفِرَ اللهَ، ولا يُحَدِّثَ نَفْسَهُ بِتَوْبَةٍ،
فَذَلِكَ الإِصْرارُ».
وممّا
يؤكّد أنْ لا صغيرةَ في المعاصي، وأنّها كلُّها كبائر، عدمُ وجود تحديدٍ ضابطٍ
للكبيرة يفصلُها عن الصّغيرة، واستحالةُ حَصْرِها في عددٍ محدّد، الأمر الذي تَحَيّرَ
فيه القائلُ بالصّغائر، ومن ثمَّ ذهبَ بعضُهم إلى أنّ حكمة الباري تعالى هي التي
اقتضتْ إخفاءَ صغائر السّيّئات، وعدم تمييزِها عن الكبائر، لئلّا يلزم إغراءُ
العبادِ إلى ارتكاب المحرّمات.