لا
مُسبِّبَ إلَّا اللهُ سبحانه
اختلافُ الصّفات، بتقدير العزيز العَليم
ـــــ
الفخر الرّازي ـــــ
عند
تفسيرِهِ الآيةَ الرّابعةَ من سورةِ الرَّعد المُباركة، يوردُ الشّيخُ فخرُ الدّين
الرّازي مجموعةَ ملاحظات، تدورُ حولَ تعدّد ماهيّات «الأراضي» و«النّباتات» على
الرّغم من خضوعها جميعاً لظروفٍ مُناخيّة وفلكيّة غير مُتباينة. وقد اخترنا من
نصّه (تفسير الرّازي، ج 19)
ما يلي، مع إضافة بضع عبارات لتوضيح المُراد، حيث يلزم.
قولُه
تعالى: ﴿وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ
وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ
بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ
يَعْقِلُونَ﴾ الرّعد:4.
اِعلمْ
أنّ المقصودَ من هذه الآية إقامةُ الدّلالة على أنّه لا يجوزُ أن يكونَ حدوثُ
الحوادث في هذا العالَم لأجل الاتّصالات الفلكيّة، والحَركات الكَوكبيّة. وتقريرُ
هذا المعنى والمقصود، يكون من وجهَين:
الأوّل:
أنّه توجِدُ في الأرض قِطَعٌ مُختلفةٌ بالطّبيعة والماهيّة، وهي مع ذلك مُتجاورة،
فبعضُها تكون سبخيّة [الأرضُ السَّبَخَة: المالحة]،
وبعضها تكون رِخوة، وبعضها تكون صُلْبَة، وبعضُها تكون مُنْبِتَة، وبعضها تكون حَجَريّة
أو رَمليّة، وبعضها يكون طيناً لَزِجَاً. ثمّ إنّها مُتجاورة، وتأثيرُ الشّمس
وسائر الكواكب في تلك القِطَع على السّويّة، فدلَّ هذا على أنّ اختلافها في صفاتِها
بتقدير العليم القدير.
والثّاني:
أنّ القطعة الواحدة من الأرض تُسقى بماءٍ واحد، فيكون تأثير الشّمس فيها مُتساوياً،
ثمّ إنّ تلك الثّمار تجيءُ مختلفةً في الطّعم واللّون والطّبيعة والخاصّيّة؛ حتّى
أنّك قد تأخذ عنقوداً من العنب فيكون جميعُ حبّاته حلوةً نضيجة، إلّا حبّة واحدة،
فإنّها بقيتْ حامضةً يابسة، ونحن نعلم بالضّرورة أنّ نسبة الطِّباع والأفلاك إلى الكلّ
على السّويّة، بل نقول: هَهنا ما هو أعجبُ منه، وهو أنّه يوجد في بعض أنواع الوَرد
ما يكون أحدُ وجهَيه في غاية الحُمرة، والوجه الثّاني في غاية السّواد، مع أنّ ذلك
الورد يكونُ في غاية الرّقّة والنّعومة، فيستحيلُ أن يُقال: وصلَ تأثيرُ الشّمس
إلى أحد طرفَيه دون الثّاني، وهذا يدلّ دلالةً قطعيّةً على أنّ الكلّ بتدبير
الفاعل المُختار، لا بسبب الاتّصالات الفلكيّة، وهو المرادُ من قوله سبحانه
وتعالى: ﴿..يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ
بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ..﴾
الرّعد:4، فهذا تمامُ الكلام في
تقرير هذه الحُجّة، وتفسيرها وبيانها.
واعلم
أنّ بِذِكْرِ هذا الجواب قد تمّت الحُجّة؛ فإنّ هذه الحوادث السُّفليّة لا بدّ لها
من مؤثِّر، وبيّنّا أنّ ذلك المؤثِّر ليس هو الكواكب، والأفلاك، والطّبائع، فعند
هذا يجبُ القطعُ بأنّه لا بدّ من فاعلٍ آخر سوى هذه الأشياء، وعندها يتمّ الدّليل،
ولا يبقى بعده للفكر مَقامٌ البتّة، فلهذا السّبب قال سبحانه وتعالى هَهنا: ﴿..إِنَّ
فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾
الرّعد:4،
لأنّه لا دافعَ لهذه الحُجّة إلّا أن يُقال: إنّ هذه الحوادث السُّفليّة حدثت لا
لمؤثّرٍ البتّة، وذلك يقدحُ في كمال العقل، لأنّ العلم بافتقار الحادث إلى المُحدِث
لمّا كان علماً ضروريّاً، كان عدمُ حصول هذا العلم قادحاً في كمال العقل، فلهذا
قال: ﴿..إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ
يَعْقِلُونَ﴾ الرّعد:4،
وقال في الآية السّابقة: ﴿..إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ الرّعد:3،
فهذه اللّطائفُ نفيسةٌ في أسرار علم القرآن، ونسأل اللهَ العظيمَ أن يجعلَ الوقوفَ
عليها سبباً للفوز بالرّحمة والغفران.