الشاعر الموهوب «محمود حدّاثا»

الشاعر الموهوب «محمود حدّاثا»

01/06/2011

أمير الشعر الشعبي المُلتزم

إعداد: أكرم زيدان

«محمود حداثا» من بلدة حاريص العامليّة، عاش في مرحلة نهاية الحكم العثماني، لم يُعلم تاريخ ولادته بالتحديد، وإن كانت القرائن تدلّ على أنّه وُلد في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، وقد توفّي عام 1917م في أواخر الحرب العالميّة الأولى.
 ما يلي ترجمة هذا الشاعر العاملي الشهير، مع عرضٍ لقصّة ارتجاله أشهر قصائده في مساجلة شعرية في فلسطين قبل حوالي 123 عاماً.
وفي الترجمة تعريف مختصر بقصيدَتي" الميمية" و"الأبجدية".

في كتابه «حَجَرٌ وطين» قال العالم الجليل -إبن بلدة الشاعر- الشيخ محمد تقي الفقيه قدّس سرّه: «محمود حداثا شاعر زجليّ [أي شاعر باللّهجة العاميّة العامليّة] بارع، له إحاطة وخبرة يعرفها كلُّ مَن سمع شطراً من شعره وتمعَّن فيه، وله ولدان في حاريص وهما:

1- رشيد، وقد تُوفّي ولم يُعقّب إلّا ابنتين ولا تزالان في حاريص.
2- ونعيم، وكان قد هاجر قديماً في أيّام الحرب سنة 1914م تقريباً، وكان لنعيم ولد في حاريص واسمه سعيد نعيم، وكان أكبر منّي سنّاً ، وقد لحق أباه [إلى المهجر] ولا نعرف ما جرى عليهما.
وكان سعيد يجيد النظم في طفولته، وكان الناس يصغون إليه ويستملحون كلامه. وقيل إنّ محمود حدّاثا سكن بلدة جويّا في آخر أيامه، وتزوّج فيها ، وله ولدان فيها على ما قيل.
[كتب حسن محمود قاسم من لبنان تعليقاً على ترجمة الشاعر محمود حدّاثا في الموقع الإلكتروني لـ «مركز الفقيه العاملي» جاء فيه: للشاعر محمود حدّاثا ولدان في بلدة جويّا علي قاسم وحسن قاسم، وكان له أيضاً ولد تُوفِّي في حياته إسمه خليل قاسم..].

ونعيم كان يُنازع أباه على إمرة الشعر، وكان ينادم الشباب، وأبوه ينادم الشيوخ، ".." ومحمود حداثا أدْرَكَتْهُ حِرفَةُ الأدب ، فغضب على أهل حاريص وانتقل إلى حدّاثا ، فنُسب إليها من باب السخرية، وقيل إنّه تزوج امرأة من حداثا، وجعل يتردّد عليها فسُمِّي كذلك من باب الإستملاح والتنكيت.
ويحفظ الناس له من المُلَح والروائع والأمثال ما لا يُحصى، وأشهر قصائده قصيدته المذهبيّة التي نظمها في طيرشيحا سنة 1311 هجريّة على ما قيل، وذلك عندما تحدَّاه شاعر زجلي مسيحي معروف واسمه داوود، وتمتاز القصيدة بالثقة بالنفس والولاء لأهل البيت عليهم السلام، وبقوّة الحُجّة وبالأدب الساخر، فإنّه لم يفرغ من جولته حتى أضحك الجميع على داوود.
ويزعمون أنّ له مشتقّات مُستملحة، كقوله في شخص حسن اللّباس، وضع في جيبه شيئاً من البلّوط، فكان إذا قفز في الدبكة أوهم الحاضرين أنّ في جيبه نقوداً من الفئة المعدنيّة التي تسمى بشَالِك، فأمر بعض حاشيته وهو موسى الجرّيش (من حاريص) أن يلتصق به ويختبر له جيبه، فإذا فيها بلّوط. وكان محمود حدّاثا على الطرف الأيسر من الدبكة، والشخص على الحاشية، فأنشأ رَدّته السّاخرة، ولمَّح لما في جيبه، حتى اضطره لترك الحاشية والخروج من الدبكة (والدّبكة رقصة شعبية معروفة في بلادنا) وممّا قاله:

شيخ شَبّ مْشَكْلِكْ حَالَكْ               مشَكْلِكْ كِلْمِنْ من شِكْـــــلَك
شِكْلَك ما   بيشَكْلِكْنِـــي               ولا المنْشِكْلِــي بـيَـتْـشَكْــلَك
حاطِطْ بجِيابُو   بَــلُّوط                تَيْـقُوْلو   عِندو      بَشَــالِك (وحدات نقديّة)

ومن أروع مُستهلّاته، قوله في عرس ابن وجيه العلماء في زمانه، العلّامة السيد حيدر مرتضى:      

يا زهرا فكّي حدادك           بعرس ابن السيّد حيدر.

[لم يُورد سماحته إلّا هذا البيت، وقد حصلت «شعائر» على الأبيات التالية من الدكتور محمد أمين كوراني، وأفاد أنّه كتبها بإملاء جناب الحاج محمّد دكروب من تبنين، والأبيات بتمامها كما يلي:

يَومِ العاشر بِمْحَرَّمْ    بَكَّى النّاس دْموعِ غْزار
يا زهرا فِكِّي حدادِك    بِعِرس ابنِ السيِّد حَيدر
القولِ الزّاكي بالأَعراف    مْخَصَّص لَمَدْحِ الأبرار
والذِّكر الْمَبْيِتْحَرَّف    لَبَيْتِ الطُّهرِ مْسَطَّر
بْأَفراح السّاده الأشراف    راياتِ الفخرِ بْتُنْشَر
سنْجق تبنين مْشَرَّف].    عهدةْ ناصيفِ النصّار

[يتابع الشيخ الفقيه قدّس سرّه]: وحضر مرةً ديوان الشيخ الوالد، وكان فيه جماعة من العلماء، وكان يستمع إليهم، وكانوا يتذاكرون في الجبر والتفويض والقضاء والقدر، فلمّا فرغوا، نظم محمود مقطوعة حلّ فيها مشكلة القضاء والقدر، وأتمنّى أن أجد من يحفظها لأضعها في هذه الترجمة». (انتهى نصّ الشيخ الفقيه).

**

أبرز قصائده
اشتهر إسم «محمود حداثا» بسبب قصيدته التي اقترنت باسمه «قصيدة محمود حدّاثا»، إلا أنّ له رحمه الله الكثير غيرها، ومن أبرزها، «الميميّة» في مدح النبيّ صلّى الله عليه وآله، وأمير المؤمنين عليه السلام، وقصيدة أخرى معروفة باسم «الأبجديّة»، وثالثة نظمها سنة 1914م صوّر فيها المجاعة التي أصابت العامليّين أيام عبدالحميد العثماني، وتحدّث فيها عن أسعار السلع والحاجيّات. ومن سائر قصائده المتداولة بين أهل جبل عامل تلك التي نظمها في «واقعة الخيام» ويتحدّث فيها عن المنازعات التي حصلت بين السكّان المحلّيّين. 

ونورد في ما يلي نبذة من أهمّ هذه القصائد.

1- القصيدة الأبرز، قصيدة محمود حدّاثا: يدلُّ على أهميّة الشاعر، والبُعد العلمي في شخصيّتة، إثبات عدد من العلماء الكبار لقصيدته هذه في كتبهم كوثيقة بالغة الأهميّة، ومنهم العَلَمان: السيد محسن الأمين في كتابه (خُطط جبل عامل)، والشيخ محمّد تقي الفقيه. كما أوردها العالم الجليل الشيخ علي الأحمدي قدّس سرّه في كتابه (مواقف الشيعة)، باعتبارها موقفاً مشهوداً من مواقف الشيعة في التاريخ.
وقد كَتب في سيرته المغفور له السيد مصطفى مرتضى، والشيخ خضر شرارة، في كتابٍ أصدره قبل سنواتٍ في بيروت، يتناول شرحاً لقصيدة محمود حدّاثا المُسمّاة «بهجة القلوب». كما طُبعت القصيدة قديماً وكانت منتشرة على نطاق واسع، وتجد في هذه الترجمة صورة غلاف لبعض الطبعات القديمة.

حكاية قصيدة «محمود حدّاثا»

لهذه القصيدة قصّة أوردها المقدّس الشيخ محمّد تقي الفقيه في كتابه -المذكور سابقاً- (حَجرٌ وطين) في الجزء الرابع، ونحن ننقلها عنه بتصرّف: ذكروا أنّ رجلاً من (طيرشيحا) التابعة لقضاء عكّا من أعمال فلسطين، عمل حفلة كبيرة لزفاف بعض أولاده سنة 1311 من الهجرة المحمّدية، ودعا إليها كثيراً من أهل البلدان المجاورة لقريته، وحضرها الشيخ صالح، قاضي عكّا الطيرشيحاني، رئيس الشاذليّة، وثُلّة من وجهائها وموظّفيها، واتّفق أنّ محمود حدّاثا كان يومذاك هناك، إذ كان يتعاطى في حرفة المعاش (كار المبيّضين)، وهم يُبيّضون وجوه الطّناجر والقدور وسائر أواني النحاس بالقصدير والشنادر.
وكان الشاعر محمود أُميّاً لا يقرأ ولا يكتب، ولكنّه كان من الأذكياء الماهرين بفنون القول (الشعر الشعبي)، فدعاه أهل العرس إلى ذلك الموكب لعلمهم بما عنده من الخبرة في القول، وحينما جاء إلى محلّ الإجتماع وجد «داوود كَرَم»، وهو رجل مسيحي من قرية «البْقَيْعة»، من المشهورين بفنّ القول والإرتجال في المجامع، قد أخذ مجده، وصال على القوّالين، فألزموا محموداً بمقاولته ومناظرته.
ومن بداية المبارزة، استهان داوود بمحمود حدّاثا، وعَيّره بكونه  «مِِتواليّا» [أي شيعياً يتولّى أهل البيت، ويُسمّى شيعة جبل عامل بـ «المتاولة»] فقال موجّهاً كلامه له:   

شو   حَدّك   يا  مِتوالي         حتى  تِتْعَدّى   عالكار
إمشي  وروح من قْبالي         أحسن ما دِبَّك   بالنار
إنتِ  مش   من  أمثالي          ولا بتبلغ ربع  المقدار
هذا    مَيدان   خَيّالي         ما بْيسلك  فيه  الحمار

فما كان من الشاعر «محمود حدّاثا» إلّا أن قال:

بالشّرعِ الأثبت ما يكون                    بعطيكم بالصدق اْخْبار
عندِ  مْلاقاة    الدُّشمان [العدو]         بِندَهْ    مولايَ   حيدر
بنده   رَكّاب     الميمون                      داحي    بوابِة    خيبر
كلّ    الشّّدايد     بتهون                       بمجرّد    ذكر  الكرّار

وهو ردٌ بالغ القوّة والمتانة، كما أنّه يُظهر توسّله بأمير المؤمنين عليه السلام، وهو أمر يُوضح سرّ هذا التوفيق الذي حالفه في قصيدته الخالدة.
وفي مكان آخر يُظهر محمود افتخاره بتشيّعه لآل البيت عليهم السلام، بأبيات صارت  مشهورة على الألسن: 

متوالي  ومش    مِتخبّي       ألله   أخبَر  فيّي   وفيك
مش   مثلَك  جاحد ربّي        وعامِلّو حُرمي وشريك
عيسى     مِنّك    مِتأبّي        بُكرا  بالنار     بيرميك
مالَك   بقلبو       محبّي       ولا    بِيريدك     يمعَتّرْ

وقال أيضاً:

نحنا   من  أهل التوحيد        رَبْع    محمد    والقرآنْ
ما  أحدثنا  شيء  جديد         ولا   أشركنا   بالرحمن
إحكي  بالقِلْبِ  وبالجِيد         ولا    تتعرّض   للأديان
واللي   ما بينظر لبعيد          بعد     التالي     بيتهوّرْ

والقصيدة  طويلة جداً، وفي آخر المساجلة تقدّم القاضي وفريق من وجوه المجتمعين، وألزموا محمود وداوود بالمصافحة والمصالحة في تفاصيل وافية يطول عرضها. وقد اشتهر الشاعر بعد هذه القصيدة التي هي من عيون الشعر الشعبي الملتزم، والمتميّز بغزارة المعلومات، وقوّة المناظرة والإرتجال.
وبلغتْ شهرة هذه القصيدة إلى حيث  صدق في وصفها «سار بها الركبان» و«حدا بها الحادي»، وهما الوصفان المعروفان لأيّ قصيدة عصماء، ذاع صيتُها، وترنّم بها المُعجبون، هكذا كانت «قصيدة محمود حدّاثا» بين الناس في جبل عامل في زمنها وما تلاه، وما تزال حتّى الآن تَحظى بعناية واسعة.
قال الشيخ الفقيه: «ولقد وَجدتْ كلمات محمود حدّاثا صداها الطيّب في نفوس العامليّين، فتناقلوا قصيدته، وحفظوها في الصدور، ودَوّنها من يعرف الكتابة منهم، وصار الكثيرون يُردّدون الأبيات بالأسلوب الذي أُلقيت فيه، فيتمثّل أحد الحُفّاظ دور داوود كرم، والآخر دور محمود حدّاثا».

****


2- القصيدة «الميمية»: وللشاعر الموالي محمود قاسم (محمود حدّاثا) قصيدة ميميّة في مدح النبيّ صلّى الله عليه وآله، وأمير المؤمنين عليه السلام، قد رتّب مقاطعها على حروف الهجاء، كلّ مقطع منها مؤلّف من بيتَين، يبتدئ الشطر الأوّل من البيت الأوّل بحرف من حروف الهجاء وينتهي به، وكذلك شطره الثاني. وهكذا الحال بالنسبة للبيت الثاني ما عدا الشطر الثاني منه، فإنّه (ميمٌ) في كلّ القصيدة. وممّا جاء فيها:

تاجِر بْمَدح النبي تِبرى من الشِدّات  تربح إذا كان في قلبك يقين وثباتْ
تابع إمامي علياً صاحب الهمّات   تورد على الحوض في يوم تكن ظامي

3- القصيدة «الأبجديّة»: قال الشيخ خضر شرارة في ترجمته للشاعر إنّه ألقاها «بعد مناظرته مع داوود كرم ولا زال المجلس قائماً»، وقد وزّع أبياتها على أدوار، كلّ دور ثلاثة أو أربعة أبيات، ورتّبها على ترتيب حروف «أبجد هوّز»، وبلغت هذه القصيدة حدّاً من الإنتشار أنّ معلّمي الكُتّاب في جبل عامل كانوا يعتمدونها لتعليم الصبيان القراءة والكتابة.
يقول محمود حدّاثا في مطلع هذه القصيدة:

عندي قصّة وشرح جديد   مثل الفضّة والعَسجد
يا قاري بكتاب الله   أُضبُط عاصورة أبجد

دور درج

أبجد هوّز قاريها   حُطّي كَلَمُن بالمصحف
سَعْفَص قُرشت راويها  ثخذٌ ضظغٌ أُصحى [إيّاك أن] تخاف
نِزْلِ المتوكّل فيها   عمحمّد سِيدِ الأشراف
أوّلها عن تاليها    أسماء مْلوك الأمجاد ".."

دور هجاء

أبجد أوّلها مْؤلّف    والبَا قِدّامو مخطوط
هوّز هَـ حَرف مْكلّف   والواو بْراسو مَربوط
والزّين بْنُقطة تخلَّف   كالقِبّي فوق المسجد

دور

كَلمُن كَنْسَب لَنْسَب لا    مُرفع مُو أنْ جزمن
ريت لْساني لا يِبلى   هَلِّي بِيطَيْلِعْ ها الفَن
لا إمِّي كانت هَبْلا   ولا بَيِّي مِن عَقْلو جَن
مِن يومٍ كانت حِبْلَى   تْرَنَّمْتِ بمدح الأمجاد [أهل البيت عليهم السلام].

ويقول في آخر القصيدة:

دور مقلوب

ضَظَغٌ ثَخَذٌ مَقلُوبي    قُرِشَتْ سَعْفَص قِلْب وجِيد
كَلَمُن حُطِّي مكتوبي    هَوَّز أَبْجَد شكل جديد
خلّي بالك مِن صَوبي    أُطلب منّي شو بِتريد
قِلِّي بدَّك مرغوبي    شكل آخر يا مْعَوّد

وفاته ومدفنه

قال المرجع الشيخ محمّد تقي الفقيه قدّس سرّه: «تُوفِّي "محمود قاسم" المعروف بـ "محمود حَدَّاثا" سنة 1917م أو قبلها، وكانت وفاته في حانين، ودُفن في مقبرتها، ونبت على قبره شجرة رمان، ولا تزال، وبها يُعرف قبره. حدّثنا بذلك سبطُه علي زهر من بلدتنا حاريص، والذي توفّي حوالي سنة 1982م».
وموضع قبره رحمه الله على مقربة من المسجد المعروف في حانين بمسجد «بنات يعقوب»، إلّا أنّه دارس، وقد تكفّل بعض أبناء القرية مؤخّراً بتشييده وتجديد عمارته.
وينقُل الشيخ خضر شرارة، في ترجمة الشاعر، أنّه سمع من بعض المسنّين، أنّه رحمه الله تعالى، قد قُتل حِقداً بسبب تلك المناظرة بينه وبين داوود كرم فكان شهيد ولائه لدينه ومُعتقده.


 

اخبار مرتبطة

  إصدارات : دوريات

إصدارات : دوريات

02/06/2011

  إصدارات : كتب أجنبية

إصدارات : كتب أجنبية

02/06/2011

  إصدارات : كتب عربية

إصدارات : كتب عربية

02/06/2011

نفحات