مفهوم الوطنيّة في الفكر الإسلامي

مفهوم الوطنيّة في الفكر الإسلامي

01/06/2011

الوطن في اللّغة هو المنزل الذي يقيم فيه الإنسان ويتّخذه محلّاً وسكناً.

أحمد عبد العزيز الحليبي*

الوطن في اللّغة هو المنزل الذي يقيم فيه الإنسان ويتّخذه محلّاً وسكناً. وقد سمّاه القرآن الكريم بـ«الدار» كما في قوله تعالى: ﴿فكذّبوه فأخذتهم الرَّجفَة فأصبحوا في دارهم جاثمين﴾ العنكبوت:37، وقوله ﴿لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدّين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتُقسطوا إليهم..﴾ الممتحنة:8. والوطنيّة هي من المفاهيم الحديثة التي فرضت نفسها على الفكر الإنساني، وإن كانت ذات جذور عميقة في التاريخ.

في هذه المقالة إضاءة على مفهوم الوطنيّة في الإسلام، للباحث والكاتب السعودي أحمد بن عبد العزيز الحليبي. 

لعلّ انسجام الدين والوطنيّة وامتزاجهما معاً، بحيث تكون الوطنية مُتَشَرَّبة للإسلام، ويكون الوطن داراً له، هو الذي جعل للوطنيّة هذا المعنى الواسع الذي يتجاوز الحدود الإقليميّة، ليرقى به من الأرض والموقع الجغرافي، إلى القيمة والمكانة والحُرمة، ويُقرنه بالمبادئ والقِيَم التي يؤمن بها من يُقيم على هذا الوطن. ولقد أظهر الرسول صلّى الله عليه وآله هذا المعنى في خطابه لمَكَّة، وهو مُهاجِرٌ مِنها: «ما أطيبُكِ من بلَدٍ وأحبُّها إليّ، ولو أنّ قومي أخرجوني منكِ ما سكنتُ غيرك!».

إنّ هذا المعنى يجلي مواقف الفِطرة في محبّتِهِ صلّى الله عليه وآله لبلده مكَّة، مُعَلَّلاً هِجرته منها رغم تعلَُّقِه به ومحبّته له، بإخراج كُفّار قُريش له، ومنعُهم إيّاه من إقامة مبادئ الإسلام فيه.
وإذا كان الرسول صلّى الله عليه وآله قد ضحَّى بالبقاء في وطنِهِ في سبيل مبادئِه وقِيَمِه التي حال بينه وبينها كُفّار قُريش حينما ساوموه عليها –فإنّ ذلك كان في حالٍ من التخيير بين المُضيّ في الدّعوة إلى الإسلام مع الهجرة عن الوطن، أو التّخلَّي عنها مع البقاء في الوطن، والعيش بين الأهل والعشيرة، لِذا قدّم الرسول صلّى الله عليه وآله وأصحابه (رض) الدين في حدث الهِجرة على غيره، وقد أكّد القُرآن الكريم اِستِحقاق الدّين هذه الأولويّة في قوله تعالى: ﴿قل إن كان أَباؤُكُم وأَبناؤُكُم وإخوانُكُم وأَزواجُكُم وعشيرتُكُم وأموالٌ اِقتَرَفتُموها وتِجارَةٌ تخشَون كَسَادَها ومَسَاكِنَ ترْضَونَها أحبَّ إليكُم مِنَ الله ورسُولِه وجِهادٍ في سبيلِه فَتَرَبَّصوا حتّى يأتيَ الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين﴾ التوبة:24.
ولا يعني ذلك أنّ الإسلام يُغيّر انتماء الناس إلى أرضِهِم وشعبهم وقبائلهم؛ فإنّ هذا أمرٌ ماديٌّ حسيٌّ واقعٌ، لا سبيل إلى تغييره، فالذي يولد في بلد يُنسَب إليه، ولا ينكَر عليه محبّته له، وإنّ بلالاً رضي الله عنه الذي هاجر إلى المدينة مُضَحَّياً بكلّ شيء في سبيل عقيدته، هو الذي يهتُف في دار الهِجرة بالحنين إلى بلده مكّة، في أبياتٍ تَمتَلِئُ رِقّة وتقطر حلاوة، ينشِدُ فيقول:
                  هلْ أرِدَنْ مياه مجنَّةٍ                وهل يبدوَنْ لي شامةٌ وطفيلٌ؟!

وطن المسلم ليس له حدود جغرافيّة

إنّ الأمر في علاقة الإنتماء إلى الإسلام بالإنتماء إلى الوطن يتعدّى حدود نفي التناقُض إلى دائِرة الإمتزاج، والترابط، والإعتراف بما هو فطري. فالإسلام دين لا تتأتّى إقامته في وطن، ومكان، وجغرافيا، وهذا الواقع والمكان والجغرافيا لن يكون دار إسلام، إلّا إذا أصبح الإنتماء إليه بُعداً من أبعاد الإنتماء الإسلامي العام، ومن هنا تأتي ضرورة الوطن لإقامة الدين، كما قال تعالى: ﴿الَّذينَ إن مكنّاهم في الأرض أقاموا الصّلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونَهُوا عن المُنكَر ولله عاقِبةُ الأُمور﴾ الحج:41.
ويتقرَّر حقُّ المُسلِم فطريّاً ودينيّاً في أن يعلِن محبّتُه لِوطَنِه، وانتماءه إليه وتفضيله على غيره في السكنى، والإقامة به وحبُّ الخير له، ونصرته من دون عصبيّة تقطع آصِرة أخوة الدين، أو تشغل عن الإهتمام ببقيّة أجزاء الوطن الإسلامي، فوطن المسلم ليس له حدود جُغرافيّة، فهو يمتدُّ مع امتِداد العقيدة وانتِشارِها في بقاع الأرض، إذ لا تعارض بين حُبَّ الوطن والإنتماء إلى الأُمّة الإسلاميّة، فبوسع الإنسان أن يُحِبَّ وطَنَه، ويحبّ إخوانه المسلمين في الأقطار الأُخرى، فكما أنّ حبّ الوطن لا يُناقِض حٌبّ الأُسرة؛ بل يكون مُتمّماً لها، كذلك حبّ الوطن لا يُناقِض حبّ المُسلمين أينما كانوا؛ بل يكون مُتَمّماً له أيضاً.

قتال المعتدي فرضُ عينٍ على المسلم

كذلك فإنّ الإسلام جعل الوطنيّة حقّاً من حقوق الشعب، والمُحافظة عليه حياة لها بين الأُمم، فلا معنى لحياة أُمّة وهي تفقِد حقّ استِقلالها في أرضِها وبلدِها، وتعيش تحت هيمنة عدوَّها وحُكمِه: فتلك أُمّة ميتة وإن كانت في حُكم الأحياء، يقول الأُستاذ  العلّامة محمّد عبده في هذا المعنى:
«تلك سُنّة الله تعالى في الأمم التي تجبن فلا تدفع العادين عليها، وحياة الأُمم وموتها في عرف الناس جميعهم معروف. فمعنى موت أولئك القوم هو أنّ العدوّ نكَّل بهم فأفنى قوَّتهم، وأزال استقلال أُمّتهم حتى صارت لا تُعدّ أُمّة، بأن تفرّق شملها، وذهبت جماعتها، فكلّ ما بقي من أفراده خاضعون للغالبين، ضائِعون فيهم، لا وجود لهم في أنفسهم، وإنّما وجودهم تابع لوجود غيرهم، ومعنى حياتهم عودة الإستقلال إليهم. إنّ الجبن في مدافعة الأعداء، وتسليم الديار بالهزيمة والفرار، هو الموت المحفوف بالخزي والعار، وإنّ الحياة العزيزة الطيّبة هي الحياة المليّة المحفوظة من عُدوان المُعتَدين، والقتال في سبيل الله أعمّ من القتال في سبيل الدَّين، لأنّهُ يشمُلُ أيضاً الدَّفاع عن الحوزة إذا همَّ الطّامِع المُهاجِر باغتِصاب بلادنا، والتّمتُّع بخيرات أرضنا، أو أرادَ العدوّ الباغي إذلالنا، والعدوان على استِقلالنا، ولو لم يكُن ذلك لأجل فِتنتنا عن ديننا، فالقتال لحماية الحقيقة كالقتال لحماية الحقّ، كلُّه جِهاد في سبيل الله. ولقد اتّفقَ الفُقَهاء على أنّ العدوّ إذا دخل دار الإسلام يكون قِتالُهُ فرض عيْن على كلّ المُسلِمين». 

*باحث من السّعوديّة


 

اخبار مرتبطة

  إصدارات : دوريات

إصدارات : دوريات

02/06/2011

  إصدارات : كتب أجنبية

إصدارات : كتب أجنبية

02/06/2011

  إصدارات : كتب عربية

إصدارات : كتب عربية

02/06/2011

نفحات