منزلة
الزهراء عليها السلام عند الله تعالى
مقام القُرب فوق مقام الأبرار
ـــــــــــــــــــــــ
العلامة المحقّق الشيخ محمّد السند ـــــــــــــــــــــ
من
كتاب (مقامات فاطمة الزهراء عليها السلام في الكتاب والسنّة) للعلّامة المحقّق
الشيخ محمّد السند هذا المقال الذي يتناول مقام الصدّيقة الكبرى السيّدة فاطمة
الزهراء عليها السلام من حيث معرفتها بكتاب الله وبواطنه وعلومه، ومن حيث ولايتها
التشريعية والتكوينية معاً، وأنّها شاهدةٌ لله تعالى على الخلق، وتُعرَضُ عليها
أعمالهم.
«شعائر»
قال الله تعالى في
سورة الدهر: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا
كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا *
يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا *
وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا *
إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا
شُكُورًا﴾ الإنسان:5-9.
هذه الآيات وصفٌ لحال
الأبرار الذين نعموا برضوان الله تعالى وكرامته وبيانٌ لمقامهم، وأظهرُ مصاديق هذا
المقام الكريم أنّهم يشربون كأساً صفته (أنّه) ممزوجٌ بكافور.
ثمّ تنتقل الآية إلى
وصف هذه العين التي هي شراب المقرّبين، وهي عينٌ يتولّى أمرها عبادُ الله إذ
يفجّرونها تفجيراً، فمَن هم هؤلاء الذين يتولّون تفجير هذه العين وأمرها، ومن ثَمّ
يسقون منها الأبرار؟
إنّ الآية تكفّلت
ببيان هؤلاء المتولّين لأمر هذه العين وهم عباد الله الذين صفاتهم:
1 - يُوفون بالنذر.
2 - يخافون يوم
القيامة الذي يكون شرّه مستطيراً مهولاً.
3 - يطعمون المسكين
واليتيم والأسير لله تعالى، عطاءً خالصاً لا يرجون من غيره جزاءً ولا شكوراً.
فمَن هؤلاء إذاً؟
اتّفق الفريقان أنّها
نزلت في عليٍّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام.
فقد أورد الحاكم
الحسكاني في (شواهد التنزيل) بأربعةٍ وعشرين طريقاً أنّها نزلت في عليٍّ وفاطمة
والحسن والحسين عليهم السلام، وخلاصة القصّة أنّهم، عليهم السلام، نذروا إن عُوفيَ
الحسنان أن يصوموا لله تعالى ثلاثاً، فلمّا عُوفيا، وفَوا بنذرهم؛ فجاءهم في اليوم
الأوّل مسكين فأعطوه طعامهم، وسألهم في اليوم الثاني يتيم فأعطوه طعامهم، ووقف
ببابهم أسير فأعطوه طعامهم، فباتوا ثلاثاً طَاوِين، فأنزل الله بهم هذه الآيات،
فثبتت صفة عباد الله الذين يفجّرون هذه العين لهم عليهم السلام.
فإذاً، هم الذين
يفجّرون عين الكافور ويفيضون منها على الأبرار ليمتزج شرابهم بقليل من العين، أي
أنّهم واسطة فيض على الأبرار ولهم القيمومة التامّة على ذلك، وهذا يطابق قيمومتهم
على الأبرار وأنّهم المقرّبون في قوله تعالى: ﴿ كَلَّا
إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ
* كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ المطففين:18-21.
قيمومة المقرّبين على
الأبرار
فشهادة كتاب الأبرار
من قبل المقرّبين دليلٌ على قيمومة المقرّبين على الأبرار وشهادتهم عليهم،
فالمقرّبون هم الشهداء على كتاب الأبرار؛ أي على أعمالهم، ولذلك ورد في الزيارة
الجامعة الكبيرة: «أَنْتُمُ الصِّراطُ الأقْوَمُ، وَشُهَداءُ دارِ الْفَناءِ،
وَشُفَعاءُ دارِ الْبَقاءِ..».
وفي موضعٍ آخَر من
الزيارة: «..شُهَداءَ عَلى خَلْقِهِ وَأَعْلاماً لِعبادِهِ».
هذه هي شهادة
المقرّبين وهيمنتُهم على الأبرار، والمقرّبون هؤلاء هم السابقون الذين وصفتهم
الآية بقوله تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ﴾ الواقعة:10-11،
مع أنّ سورة (الدهر) لم تزل في سياقات وصف المقرّبين وهم الذين يوفون بالنذر:
﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا *
وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا *
إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا
شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا *
فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا *
وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا * مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى
الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا * وَدَانِيَةً
عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا * وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ
بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ * قَوَارِيرَ مِنْ
فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا * وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا
زَنْجَبِيلًا * عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا﴾ الإنسان:7-18.
هذا حال المقرّبين،
ويطابق هذا الوصف لعباد الله وارتفاع مقامهم عن الأبرار ما في سورة (المطفّفين) من
قوله تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا
أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ *
إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * تَعْرِفُ
فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ *
خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ
مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ﴾ المطففين:18-28،
فهذه الآيات تشير أيضاً إلى أنّ المقرّبين واسطة فيض للأبرار، وهم الذين يمزجون
شراب الأبرار بشيءٍ من التسنيم، ولأنّهم وسطاء فيض فهم يشهدون أعمال الأبرار، وهذا
يتطابق مع ما تقدّم من أنّ المُطهَّرين في هذا الشرع المقدّس، هم المعصومون،
يمسّون الكتاب في اللّوح المحفوظ المكنون الذي يستطر فيه كلُّ غائبة، ومنها أعمال
العباد؛ فالمطهّر هو المقرّب، وهم عباد الله الذين يسقون الأبرار من عينٍ
يفجّرونها تفجيراً، وهذه العين هي عين الكافور، وهي عينٌ فوقَ مقام الأبرار، «والسلسبيلُ»
الذي هو مصدر المقرّبين والعين التي يسقون منها هو رسول الله صلّى الله عليه وآله،
إذ هو القيّم على المقرّبين الذين هم أهل البيت عليهم السلام، وهو مصدرهم. فتلخّص
إذاً، أنّ الأبرار يُسقون كأساً ممزوجة بالكافور، والمقرّبون هم مصدر الأبرار،
والسلسبيل مصدر المقرّبين التي يسقون ويُسقوْنَ منها.
على أنّ السقاية من
العين وتفجيرها، تعني أنّ المقرّبين هم واسطة إفاضة على الأبرار، وهم يفيضون
بالنور والعلم والحكمة والهداية على الأبرار، وهؤلاء المقرّبون هم عليّ وفاطمة
والحسن والحسين عليهم السلام، يُفاض عليهم من عين السلسبيل بواسطة رسول الله صلّى
الله عليه وآله، فعلومهم وراثة من رسول الله صلّى الله عليه وآله، كما في الروايات
الواردة عنهم، ما يعني أنّ المقرّبين هم في مقام الحجّيّة والقيمومة المهيمنة على
الخلق؛ إذ قيمومتُهم تصدر من رسول الله صلّى الله عليه وآله، الذي ينصّ على
حجّيّتهم وإمامتهم بأمر الله تعالى.
وبذلك يتّضح مقام
فاطمة عليها السلام، وكونها إحدى وسائط الإفاضة على الخلق، النابعة من مصدر إلهيّ
يمثّله رسول الله صلّى الله عليه وآله، وظهر أنّها شاهدة لله على الخَلق، وأنّها
هادية لهم، وأنّها من الراسخين في العلم الذين يمسّون الكتاب المكنون في اللوح
المحفوظ، فهي من الذين أوتوا العلم وأُثبت في صدورهم، وأنها ممّن تُعرَض عليها
أعمال العباد.
فاطمة عليها السلام من
المطهَّرين الذين يمسّون الكتاب
وإذا ثبت أنّ
المطهَّرين هم محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، بحكم آية التطهير:
﴿..إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ
وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ الأحزاب:33،
فإنّ من خصوصيّات المطهَّرين أنّهم هم الذين يمسُّون كتاب الله تعالى: ﴿إِنَّهُ
لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا
الْمُطَهَّرُونَ﴾ الواقعة:77-79،
أي لا يعلمه إلّا المطهّرون، ولا يعني المسّ هنا مسّ نفس الوجود الخطّي والكتبي
للقرآن الكريم، إذ لا معنى لذلك.
والآية في مقام
الإشارة إلى مكنونية هذا الكتاب بمثل هذا القسَم المغلّظ الذي يتعلّق بالأمر الخبري
لا الإنشائي، فلفظ (لا) في الآية نافية لا ناهية، بل قصد الإخبار، كما أنّه قد وصف
الكتاب المكنون بأنّه الذي تنزّل منه القرآن المصحف الذي بين الدفّتَين، فالقرآن
في الكتاب المكنون له حقيقة علويّة لا يتناولها إلا المطهّر المعصوم، فالحقيقة العُلويّة
بعيدة عن أفهام الناس إلّا بواسطة المطهّرين، فالمطهّرون هم أهل بيانه وتفسيره
ومعرفته، وهم العالمون ببطونه وعلومه: ﴿وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا
لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ الزخرف:4،
ولا يعلم تأويل الكتاب إلّا الراسخون في العلم: ﴿..وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ
إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ
عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ آل
عمران:7.
قال أبو عبد الله عليه
السلام: «نَحْنُ الرَّاسِخونَ في العِلْمِ وَنَحْنُ نَعْلَمُ تَأْويلَهُ».
وإذا ثبت أنّ المطهّرين هم المقرَّبون، كما تقدّم ذكره من أنّ المقرّبين هم عليّ
وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، فإنّ الكتاب المكنون لا يمسّه إلّا (المقرّبون).
أخرج السيوطي عن ابن
مردويه بسندٍ رواه عن ابن عبّاس، عن النبيّ صلّى الله عليه وآله، في قوله تعالى:
﴿إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ﴾ الواقعة:77-78،
قال: «عِنْدَ اللهِ في صُحُفٍ مُطَهَّرَةٍ»، ﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا
الْمُطَهَّرُونَ﴾ قال: «المُقَرَّبونَ».
وإذا كان المطهّرون
[هم] المقرّبين الذين يمسّون الكتاب، ويعلمون تأويل بواطنه، فإنّ لهم الحجّيّة من
الله تعالى على الخلق؛ إذ الحجّة هو الموصل لمعرفة الطريق إلى الله، ومن هنا نعلم
أنّ إحاطتهم، عليهم السلام، بكلّ شيءٍ دليلُ حجيّتهم، إذ علمُهم بالكتاب يعمّ علمَهم
بكلّ شيء، فالكتاب محفوظٌ فيه علمُ كلّ شيء لقوله تعالى: ﴿..وَلَا حَبَّةٍ فِي
ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ الأنعام:59،
فالحجّيّة تعني ولايتَهم على الخلق بقسمَيها:
1) ولايتهم التشريعية
المنبعثة من مقام علمهم بالكتاب الذي يضمّ علم كلّ شيء، إذ الولاية التشريعية لا
تتمّ إلّا بمعرفة أحكام كلّ شيء، فهي من لوازم العلم.
2) وبحكم علمهم بكتاب
الله فإنّ لهم الولاية التكوينية على الخلق، إذ هذا القرآن بحقيقته العلمية
المكنونة التكوينية الملكوتية الذي لا يعلمه إلّا المطهّرون، موصوفٌ بقابلياته
الإلهيّة المودَعة فيه: ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآَنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ
قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى..﴾ الرعد:31،
وقوله تعالى: ﴿قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ
قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ..﴾ النمل:40.
فالحجيّة هي المقام
الإلهيّ المنبعثة منها ولايتهم عليهم السلام بقسمَيها. وبهذا سيتمّ لنا معرفة مقام
فاطمة عليها السلام من حيث معرفتها بكتاب الله وبواطنه وعلومه، ومن حيث ولايتها
التشريعية والتكوينية معاً. وقد رُويت في عرض ولايتها على الخلق كباقي ولاية أصحاب
الكساء والأئمّة المعصومين عليهم السلام روايات عديدة، فلاحظ.