الإمام الخميني قدّس سرّه في ذكراه.. كما تحدّث عنه العلّامة
الشيخ حسين كوراني
الفقيهُ العارف
النوعي، ومُجدّد أمر الدِّين
ــــــــــــــــــــــ إعداد: «شعائر»
ــــــــــــــــــــــ
حظيَتْ مكانةُ الإمام الخميني قدّس سرّه في العالم الإسلامي باهتمامٍ استثنائيّ لما تختزنُه هذه الشخصية الفذّة من
معارف وقِيَم إيمانية وعقائدية ونَهضوية في تاريخ الأمّة الحديث.
حول صفات الإمام ومزاياه وإنجازاته
الاجتماعية توجّه عددٌ من علماء الحوزة العلمية وطلّابها في البحرين بمجموعة من
الأسئلة أجاب عنها سماحة العلّامة الشيخ حسين كوراني، وهي تتعلّق بشخصية الإمام
وموقعيّته في إحياء النهضة العالمية المعاصرة.
لنا أن نشير إلى أنّ هذا الحوار جرى
قبل سنوات قليلة، وفي ما يلي نصّ المحاورة التي نعيد نشرها بمناسبة ذكرى ولادة
الإمام الخميني المتزامن مع يوم ولادة الصدّيقة الكبرى عليها السلام في العشرين من جمادى الثانية، وقد أضفنا في آخرها ثلاثة أسئلة افتراضية حول «خطّ الإمام الخميني»
اقتبسنا الإجابات عليها من بحث لسماحة الشّيخ
الكوراني بعنوان: «خَطُّ الإمامِ الخمينيّ: المُنجزات والتَّحدّيات»، نُشر سنة
1427 للهجرة.
*
ما هي أبرز الصفات التي تجسّدت في شخصية الإمام الخميني رضوان
الله عليه؟
أبرز الصفات في شخصية العبد الصالح، والفقيه العارف والحكيم المتألِّه:
جامعيّة شخصيّتة الإسلامية، القائمة على قاعدة العبودية، الملازمة للتوسّل خصوصاً،
وسائر مفردات العبادة بشكل عامّ.
جسّدت
شخصيته قدّس سرّه،
العناية «الخمينيّة» بالأبعاد التي أمر الشرع الشريف بتجسيدها، وأمضى عمره الشريف
في رحلة التزكية والتعليم، والإعداد والاستعداد بما يتناسب مع الواقع الذي هو غيبٌ
أكثر منه شهادة.
*
ما هي الإبداعات العلمية المهمّة للسيّد الإمام، وما هي نتاجاته العلمية؟
أعظم إبداعات الإمام العلميّة على
وفرتها وفرادتها:
1) تقديمه الرؤية التوحيدية – خصوصاً في
كُتبه في الفقه والعقائد والأخلاق والصلاة - كما بيّنها النصّ المعصوم في الكتاب
والسُّنّة القطعية، لتأخذ «الولاية» وتجلّياتها
الثلاث - النبيّ، الإمام، الفقيه في زمن الغَيبة - المتوحّدة في ولاية الحقّ
سبحانه، موقعها الحقيقي في منظومة هذه الرؤية التوحيدية، في متن الاهتمام العملي
المؤسَّس على رؤية نظرية مترابطة قائمة بدورها على الدليل العلمي والبرهان المنطقي
العقلي ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ﴾ فاطر:19.
2) توكيده الدائم على نقل ما عُقِدَ
عليه العقل ليستقرّ في شِغاف القلب، ويستقيم بناء الشخصية «السَّلَم»
الموحِّدة الخالصة التوحيد، ويخرج المسلم من دائرة الأكثرية المشركة: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ
مُشْرِكُونَ﴾ يوسف:106، ويظلّ القلب وجِلاً لذكر الله تعالى
مردّداً: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي...﴾ يوسف :53. «يا مَنْ يَرْحَمُ مَنْ لا يَرْحَمُهُ العِبادُ»... «يَا
دَليلَ المُتَحَيِّرينَ».
*
ما هي أعظم الأهداف التي حقّقها الإمام الراحل رضوان الله عليه طوال حياته في حقل إحياء الدين والشريعة، واستعادة الكرامة
الإنسانية للفرد المسلم؟
أهمّ من الثورة الإسلامية والجمهورية
الإسلامية وثمراتِها الأنضج: المقاومة الإسلامية في لبنان، وفلسطين، والتحوّل
الجذري - الذي لم يكتمل - في العراق، ما يشكّل القاعدة للمَدّ الإسلامي الهادر
المتوالي فصولاً، ألا وهو: إعادة الأخلاق والتزكية وتهذيب النفس، إلى موقعها كهدف
من بعثة سيّد الرسل محمّد صلّى الله عليه وآله، وتركيز التلازم بين الأخلاق الفاضلة
والولاية الحقّ، فلا تَولِّي بدون تبرّؤ، ولا تبرّؤ بدون تولِّي. محاسنُ الأخلاق
هي «الأنوار» ومساوىء الأخلاق هي «الظلمات»، ولا نور لمن لم يجعل الله تعالى له
نوراً يمشي به في الناس، وهو المعصوم الحجّة الظاهرة، «نُورُ اللهِ في ظُلماتِ
الأرض».
*
كيف تمكّن الإمام الخميني رضوان
الله عليه من
الوصول إلى هذا المستوى العظيم، وكيف يُمكن للإنسان المؤمن الاقتداء به؟
حرص الإمام على تطبيق الأحكام الخمسة،
في حين كان الغالب نتيجة الغزو الثقافي خاصّة، وتَراكم عهود الطواغيت - وما يزال -
بخلاف ذلك، وأخلصَ لله تعالى، وأراد الحياة الطيّبة، وسَعى لها سعيَها مقتدياً بمن
أمر المصطفى الحبيب بالاقتداء بهم؛ أي «أهلِ بيت العصمة»؛ الحصن الحصين، «الأَدِلّاءُ
إلى الله تعالى».
*
تمكّن الإمام الخميني من نفخ روح جديدة في الدولة، ما هي أسباب انبعاث الروح فيها
من جديد، وما هو تأثير ثورته المباركة في ذلك؟
لم يطلب الإمام الخميني السلطة،
بل طلب خدمة عيال الله تعالى: «أن تقولوا لي
(خادم) خيرٌ»، مدركاً عظيم عبادة خدمة الناس بإنقاذهم من التِّيه إلى الفردوس،
وتأمين ما تستلزمه رحلتهم في الحياة الدنيا والآخرة.
ليست الشهادة في سبيل إعلاء
كلمة الله تعالى إلا نوع خدمةٍ للناس في وضع الإصْر عنهم والأغلال. «صَدَقَةُ
السِّرِّ تُطْفِىءُ غَضَبَ الرَّبِّ».
والدولة في الجوهر وسيلة خدمة في جميع
المجالات بأفضل السُّبل، ومتى تجرّدت من طلب التسلّط وجد الناس حلمَهم في نظم
الأمر، لأنّهم مفطورون على العدل ومجانبة الظلم، وعندما رأوا فقيهاً عابداً
مخلصاً، ثائراً، تفجّر بركان الثورة الكامن فيهم، وما يزال يتوالى فصولاً. ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ
نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ﴾ ص:88.
*
في الحديث الشريف: «إِذا ماتَ العالِمُ ثُلِمَ في الإِسْلامِ ثُلْمَةٌ لا
يَسُدُّها شَيْءٌ». كيف تصوّرون خسارة الأمّة الإسلاميّة لفقد الإمام الخميني قدّس سرّه؟
﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ
الرُّسُلُ...﴾ آل
عمران:144. رغم فادح
الخسارة إلا أنّ في التأسّي بفرقة المصطفى الحبيب صلّى الله عليه وآله - كما قال
نفسه المرتضى عليه السلام - موضعَ تعزٍّ.
تضيقُ حلقة الحصار برحيله وضاقت، ويعسر
الامتحان والزلزال، إلّا أنّ المسيرة بحوله تعالى أصبحت الشغلَ الشاغل لأهل الأرض
جميعاً، وللطواغيت بشكل خاصّ.
*
هل تمكّنت الثورة بعد رحيله من مواصلة دربها في إحياء الدين وكرامة الإنسان
المسلم؟
قال السيّد القائد ذات مرّة لأحد قادة (دول)
الجوار الإيراني: «المحافظة على الحكم أصعب من الوصول إليه». لقد تمكّنت الثورة من
المحافظة على الدولة وعلى أبرز أهدافها وأهمّها، كما قطعت الدولة أشواطاً بعيدة
المدى في اكتساح جميع المخاطر التي لم تواجهها دولة في هذا القرن ولا في غيره.
ما دامت فلسطين نبضَ القلب
والعروق، فالثورة بألف خير والدولة في خدمة هذا المسار البوصلة والميزان.
*
ما هي وصيّة الإمام الخميني للأُمّة، وما هي أهم الوصايا التي ينبغي دراستها
والعمل بها في وصيّته؟
حب الله تعالى، ويشمل:
1) تعاهد القرآن الكريم بكلّ تدبّر
وتقديس، والعبودية وعنوانها التواضع لله تعالى، والعبادة، بحيث يكون المسلم من
مدرسة الإسلام العمليّ بالصلاة والصوم والدعاء والذِّكر والورد.
2) حبّ رسول الله صلّى
الله عليه وآله، وإلّا ﴿فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ...﴾ التوبة:24.
3) تأكيده على ما أجمعت عليه الأُمّة
نظريّاً وبالدليل والبرهان: لا اتّباع للمصطفى الحبيب إلا باتّباع أهل البيت عليهم
السلام.
4) الزهراء عليها
السلام هي المقياس، والإمام
عليّ عليه السلام نفس المصطفى، والحسنان النهج، وسائر النقباء الاثني عشر،
وأخرهم الإمام المهديّ المنتظر، محقّقُ حلم الأنبياء عليهم جميعاً صلوات الله
تعالى وسلامه.
5) النفر الدائم للجهاد في سبيل الله
تعالى في ميادين الجهاد الأكبر والأصغر.
6) اليأس من أنظمة الجور ووعّاظ
السلاطين.
7) طاعة وليّ الأمر، وعدم التأثّر
بشائعات أعداء الإسلام، وفي الوقت نفسه النصح لأئمّة المسلمين، فليست ولاية الفقيه
إلّا في خط: «كُلُّكُمْ راعِ وَكُلُّكُمْ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» وخط: ﴿وَقِفُوهُمْ
إِنَّهُمْ مَسْؤولُونَ﴾ الصّافات:24. فلا يحقّ لأحد التنصّل من النقد
البنّاء بحجة الثقة بالقيادة، وغالباً ما يكون هذا انعدام وزن لم يأذن الله تعالى
به، ولا يحقّ للقيادة منع التعدّدية تحت سقف ولاية الفقيه، شرط أن يكون الالتزام
بهذا السقف حقيقياً وليس ادعاءً بهدف التستّر والتمويه.
***
* ما هي أُطروحة «خطّ
الإمام الخميني» ولماذا تأكّدون ضرورة الالتزام بها؟
لو لم يكن «خطّ الإمام» عبارة عن «تقديم
الإسلام للأُمّة كما هو، بعيداً عن التحريف والانتقاء ولَوثة البُعد الواحد» لما
كان ثمّ مسوّغ للالتزام به، فضلاً عن الذَّوَبان فيه والتّفاني.
من هنا فإنّ أطروحة «خطّ الإمام» تعني: «الأصالة»
التي يشعر معها وبها المسلم ببراءة الذِّمّة، ونقاء المسار، وحُسن العاقبة والمصير
بحوله تعالى.
إنّها الصّورة الصّافية عن المحمّديّة
البيضاء، التي بدونها لا سبيل إلى الاستقلال واليقين الفكريَّين اللّذين هما منطلق
كلّ فتح في جميع الميادين.
* ما هي أبرز عناوين
البُعد السياسي في «خطّ الإمام الخميني»؟
يغلب على المؤمنين من الأُمّة، ممّن
التحقوا بالرّكب الخمينيّ، أنهم لم يسيّسوا انتماءهم، بل «دَيَّنوا» سياستهم...
شدّهم إلى الإمام الخمينيّ، في البُعد
السّياسيّ:
1- لأوّل
مرّة في هذا القرن، وجدت الأُمّةُ ذاتَها، واستشعرت وحدتَها، وتلمّست قلبَها يخفقُ
بهمِّ «الجسدِ الواحد»...
2- ولأوّل
مرّة طرقَ مسامعَ قلوب الأُمّة حديثٌ جذريٌّ عن تحرير فلسطين، لا يقيمُ لـ«سايكس
بيكو» وزناً، فضلاً عن الرأي العالميّ العام!
3- ولأوّل
مرّة أيقنت الأُمّةُ بأنّ بين الطروحات السياسيّة، طرحاً يهدف حقيقةً إلى حلّ أزمة
الأمّة، بعد أن هدّها الركض وراء «الممثّلين» المناورين الذين يُجيدون فنّ «اللُّعبة
السياسيّة» ليحلّوا بها مشاكلهم على أساس التّلاعب بمصير الشعوب ووجودها، سواءً
أرادوا ذلك أم لم يريدوه.
* وما هي أبرز سِمات
البُعد العقائدي في «خطّ الإمام»؟
لقد تماوجت شغافُ القلوبِ المحمّديّة ترنّماً
بالشّكر، حين رأتْ أنّ هذا (الهدير) الخمينيّ، ينبعثُ من لهيبٍ باطنيّ، توحيديّ،
قرآنيّ، ما جعلَ المحمّديّين يُجيدون الإصغاءَ إلى «المنطلَقِ العقائديِّ»
المتجلّي في كلِّ نَفَسٍ خُمَيْنِيٍّ. ويُمكن تلخيص هذه المنطلقات في العناوين
التالية:
1- أنّ
توحيد الله تعالى هو أصلُ فقه القلب والحياة، ولذلك فإنّ الدِّين كلّ شيء..
2- أنّ التديّن والتقوى رهنُ اليقين بالقانون
الإلهيّ: كتاب الله تعالى، والسُّنّة الشريفة، ورعاية «حدود الله تعالى»...
3- أنّ
رسولَ الله صلّى الله عليه وآله، سيّدُ الخلق، وهو رسول الله تعالى لكلّ عصر، ولا
سعادة للبشريّة في هذا العصر وكلّ ألفيّة إلّا بالاقتداء به، وكُلّ تجاوزٍ لهذا
الأصل يعني التخلّفَ والهلاكَ.
4- أنَّ
كلَّ خَيْرٍ عند الأُمّةِ كربلائيٌّ: كلّ ماعندنا من عاشوراء. وعلى هذا
الأساس صارت حقيقة «انتصار الدّم على السّيْف» مثلاً، ونِبْراساً وَمَنْهجاً.
5- أنّ
العناية التّامّة بإعمار الدنيا - وفي الطليعة إقامة الحكم لخدمة الناس، وليس للتّسلّط
على رقابهم - هي من شؤون الآخرة، ولذلك فلا نظرةَ إلى أيٍّ من أمور الممرّ إلّا
بمنظار الآخرة والمستقَرّ.
6- أنّ
الواقعيّة الحقيقيّة، والموضوعيّة السّليمة، والمنطقيّة المستقيمة، هي أنّ الغَيب
هو الواقع الموضوعيّ، وفي إطاره تقع الرّحلة البشريّة كلّها، ومن هنا فإنّ عمى
القلب الأخطر هو البناء على أنّ الغَيب نقيض الواقع الموضوعيّ! وبالتّالي: الدِّين
نقيض العقلانيّة! والحداثة أكبر من الخلود!!
وعلى أساس هذه المنطلقات العقائديّة
بايعت قلوبُ الأمّةِ عبدَ الله المسدَّدَ الإمامَ الخمينيّ، إلى حدّ أنّ فقيهاً
ومرجعاً نوعيّاً هو الشَّهيد السيّد محمّد باقر الصّدر رضوان الله تعالى عليه، ذابَ
في حبّ الإمام وطاعته، وأمَر كلّ مَن يلتزم بقيادته أن يذوبَ في الإمامِ الخمينيّ
بقدر ما ذابَ هو في الإسلام.