الاختلاف والمكابرة
____ الشيخ حسن بن
فرحان المالكي* ____
ليس من المهمّ أن نتّفق
في كلّ شيء، لأنّ الاختلاف من سُنن الله التي قدّرها في هذه الحياة الدنيا؛ فلا
يزال الحقّ والباطل في صراعٍ إلى يوم القيامة، ولولا وجود الباطل لما عرف الناس
قيمة الحقّ، ولولا مرارة المصائب لما عرف المبتلون نعمةَ السلامة والعافية، ولولا
الجَدْب لما عرفنا فضلَ الغيث، لذلك يجب ألا نتوهّم بأننا سنصل إلى اتفاق عام بين
كلّ الناس؛ مسلمِهم وكافرهم، سُنّيّهم** ومبتدعهم، مُصيبهم ومخطئهم، فهذا خلافُ سُنن
الله تعالى في هذه الحياة.
لكن في الوقت نفسه نحن
مطالبون من الله عزّ وجلّ بدعوة الكافر إلى الإسلام، ودعوة المبتدع إلى السُّنّة،
ودعوة المخطئ المذنب إلى الصواب والتوبة. فالله الذي قدّر الاختلاف هو الذي أوجب علينا
العمل لتقليصه بالحقّ وإلى الحقّ، فدعوة الغير وتصحيح الذات عنوان كلّ مسلم مخلص
ومطلب كلّ عارف بمهمته في هذه الحياة.
ليس من مهمّتنا القضاء
نهائياً على كلّ اختلاف، لكن من مهمّتنا محاربة التلوّث الذي أصاب العلم والحقّ، ومحاربة
الجهل ببيان العلم، ومحاربة المكابرة، ومحاربة تضليل الناس عن الحقيقة. فهناك كافر
لا يعرف أنّ الإسلام حقّ فهذا يبقى في دائرة الجهل، لكن قد يوجد آخر يعرف أنّ
الإسلام حقّ لكنه يأبى اتّباعه والاعتراف به فهذا خرج من دائرة الجهل إلى دائرة
المكابرة، وهو بهذا بحاجة إلى حرب فكريّة تكشف تضليلَه للناس وتكسر مكابرته..
كذلك قد يوجد مبتدع
يعرف أنّ السنّة حقّ فهذا مكابر، وقد يتيقّن مخطئ من خطئه لكنه يستمرئ المواصلة
فيه لمصلحة من المصالح على حساب الحقيقة والمتلقّي، فهذا مكابر وصلنا معه إلى طريق
مسدود، فهل نستمرّ في وصف هذا بالاجتهاد فـ«اختلاف الرأي لا يُفسد للودّ قضية»؟!
هناك قضايا واضحة لا
تخضع للاجتهاد؛ فالذي ينسب آية للقرآن الكريم وليست فيه لا نقول إنّه مجتهد، خاصّة
بعد أن نبيّن له أنّ هذه الآية ليست في القرآن، ثم يصرّ ويزعم أنها فيه!
كذلك قد ينسب أحدهم
أحاديث للصّحيحَين أو أحدهما، فإذا بيّن أحدهم له أنّ هذا خطأ ثمّ أصرّ على خطئه
يكون مكابراً لا مجتهداً. وكذلك إن زعم مؤرّخ أنه قد أورد روايات معيّنة بعد أن بيّن
له أنه لم يوردها ثمّ أصرّ على ذلك فهذا مكابر لا مجتهد والضحية هو القارئ
والحقائق.
في أحايين كثيرة لا
يشعر المكابر بمكابرته أو لا يحبّ أن يُشعِر نفسه ولا الآخرين بذلك، يأتيه الشيطان
وينفخ فيه قائلاً: «أنت الآن تقاوم أهل الضلال فلا تظهر بمظهر الضعف، لا تعترف بالأخطاء
لأنّ الناس سيفسّرون هذا بأنّ الآخر مُصيب في كلّ شيء وأنت مخطئ، على كلّ حال
استمرّ في ما أنت عليه، هي زوبعة وتنتهي، ثم ترجع لتصحيح الأخطاء بهدوء..»! فيظن المكابر
المسكين أنّ هذه الأقوال نابعة من إحساس مرهف سليم، والواقع أنها من شيطان رجيم!
وهذا سرٌّ من أسرار عدم إسلام الكافر وعدم توبة المبتدِع وإصرار المخطئ على خطئه؛
كلٌّ منهم يأتيه الشيطان مبغِّضاً له الخصم وأقواله، ونافخاً فيه الجاهلية، فتجد أحدهم
لا يصارح نفسه ولا ينقد ذاته، بل يستسلم لـ«سواليف الشيطان»! ويُصغي لها ويحسّ لها
حلاوة تفوق مرارة الاعتراف بالخطأ والرجوع إلى الصواب واتّباع ما يقوله خصم الأمس،
فالخصومة تذكي «سواليف» الشيطان، فإذا فكّر المخطئ في الرجوع جاءه قرينُه مذكِّراً
له بيوم «بُعاث»***!
_____________________
* من كتابه (نحو إنقاذ
التاريخ الإسلامي)
** عبارة «السُّنّي» في
هذا النصّ بمعنى الملتزم بسُنّة النبيّ صلّى الله عليه وآله، بصرف النظر عن مذهبه،
ويُقابله المُبتَدِع الذي يُدخل في سُنّة النبيّ صلّى الله عليه وآله ما ليس منها،
أو يعمل بخلافها.
*** بُعاث: اسم حصن للأوس،
ويوم بعاث يوم مشهور من أيّام العرب قبل الهجرة بستّ سنين، كانت فيه مقتلة عظيمة للأوس
على الخزرج. وقيل إنّ فظاعة هذه الحادثة هي سببُ دخولهم في الاسلام.