ملّا صدرا شارحاً (الأصول من الكافي) للكليني
الحكيم الإلهي.. فقيهاً أصوليّاً ـ
ــــــــــــــــــــــــــــ محمود إبراهيم ـــــــــــــــــــــــــــــ
الكتاب: (شرح الأصول من الكافي)
المؤلف: صدر الدين محمّد بن إبراهيم الشيرازي (ملا صدرا)
الناشر: «مؤسسه مطالعات وتحقيقات»
لو كان من ميزة معرفية فارقة للحكيم الإلهي صدر الدين الشيرازي المعروف بـ
ملّا صدرا غير (الأسفار الأربعة) في الحكمة المتعالية، لوجدناها على النحو الأتمّ
في شرحه (الأصولَ من كتاب الكافي) للعلّامة المُحدّث الكليني. نقول هذا لأنّ
الطائفة العظمى من فلاسفة المسلمين كالفارابي وابن سينا وابن رشد وصولاً إلى الكِندي
ومن تلاه، آثروا الاكتفاء بالحكمة ولم يقتربوا بنصوصهم من الفقه وأصوله إلّا على
نحو الندرة والإجمال. أمّا ملّا صدرا، فقد مضى إلى الإمساك بناصية العلوم (عقلية
ونقلية) بلا تريّب. وهو ما دلّت عليه (الأسفار الأربعة) لجمعها أركان المعارف
الإلهية على الجملة: العقل والشرع والكشف. حيث البرهان والعرفان حاضران حضوراً
بيّناً ومتوازياً مع القرآن الكريم والحديث الشريف.
في هذا المقام أيضاً، جاز لنا القول إنّ (شرح الأصول من الكافي) هو النظير المعادل لكتاب الأسفار. ذلك لتواصلهما
المنطقي والمعرفي في إطار شخصية ملّا صدرا التي فارقت التقليد الفلسفي والكلامي في
آن، وذلك من دون الإعراض عن علوم الشريعة والتفسير. وعلى راجح الظنّ أنّ كتاب (مفاتيح
الغيب) سيأتينا بمثال صريح على خصيصة ملّا صدرا في الجمع الخلاَّق بين مناهج
العلوم كافّة. لكن (شرح الأصول) يكتسب من هذا الوجه سمةً علميةً استثنائية لو
عاينا أسلوبه المبدع في تناول الروايات الشريفة وتصنيفها ناهيك بشرحها تفسيراً
وتأويلاً.
خصائص المنهج الصدرائي
يذهب عدد من الباحثين في الحكمة المتعالية إلى تظهير مجموعة من الخصائص
التي شكّلت علامة فارقة في أعمال ملّا صدرا. منها:
أولاً: المنهج
الشمولي، في استعراض جميع الآراء السابقة من كتب المتكلّمين والفلاسفة
والعرفاء، مضافاً إليها آراء اليونان والفهلويين من حكماء فارس؛ إذ يناقشها ويرد
عليها حين يلزم، ويقبلها إذا اقتضى الأمر، وهو لا يهاب في ذلك مخالفة المشهور؛ إذ
يصرّح بذلك في أكثر من موقع من كتبه، وعلى وجه التحديد في كتاب (الأسفار)، وشرحه القرآن
الكريم.
ثانياً: المنهج التاريخي، حيث إنّ قراءة معظم مؤلّفات الشيرازي تدلّنا على السياق الزمني، وحتى
السياسي والاجتماعي الذي يدور في فلكه هذا المؤلّف أو غيره. وفي هذا السياق تظهر
لنا مختلف الشرائح التي كان يخاطبها في كتاباته. فالمخاطبون هم العامّة وأمثالهم
من رجال الدين الظاهريين، والفقهاء القشريين، والحكماء المنحرفين. أما كتاب (الأسفار)،
فشاهد على مرحلة النضج عند الشيرازي؛ إذ جاء في المراحل الأخيرة من حياته، وهو
يحوي فلسفته ومذهبه في الحكمة المتعالية.
ثالثاً: المنهج
اللّغويّ، حيث ستبدو لنا مفارقة في غاية الأهمّية لجهة أنّ الشطر الأعظم من
أعمال ملّا صدرا كتبت باللغة العربية التي أتقنها صرفاً ونحواً وبياناً وبلاغة،
وهو ما ساعده على إبراز أعقد المسائل الفلسفية والكلامية التي تعرّض لها.
رابعاً: المنهج الأسلوبي، حيث تميّزت بعض آثار ملّا صدرا بالتفصيل والإسهاب في استعراض الأفكار
والآراء، كما في (الأسفار)، حتى تصل أحياناً إلى حدّ المطوّلات. واتصف البعض الآخر
بالإيجاز، كما هو حاله في الرسائل والأجوبة على المسائل في بعض كتبه. ومن جهة
أخرى، تميّز صاحب الحكمة المتعالية بنوعين من الكتابة، فهو يستخدم الأسلوب العلمي
تارة، حيث همّه الدليل والبرهان، والكشف عن الحقائق والواقع بنفسه، متّخذاً موقف
الحياد أمام الموضوعية التي يصل إليها البحث والنظر، كما هو حاله في أصالة الوجود
ووحدته في عين كثرته. وتارة أخرى يكتب بلغة الأدب معبّراً عن مشاعره، ووجدانه أمام
حدثٍ ما، أو مشكلة تواجهه في سياق حياته الاجتماعية أو الفكرية.
خامساً: المنهج العلمي التوثيقي، وهو ما يبدو جليّاً حين نستعرض كتب ملّا صدرا ولا سيّما
منها التي تتصل بأُمّهات الكتب في الفلسفة والتصوّف، والحكمة اليونانية. ففي هذا
المجال نجده يشير إلى المحلّ الذي ورد فيه الاقتباس، الأمر الذي يعكس حرصه الشديد
على الأمانة العلمية في النقل والاقتباس.
سادساً: المنهج
النقلي، حيث لم يترك الشيرازي أبحاثه العقلية دون أن يستشهد عليها بالنصّ
الديني، سواء القرآني أم المرويّ، وهذا الأمر هو أحد تجلّيات منهجه الجامع، ويكاد
لا يمرّ بحث أو مسألة في كتبه دون أن يربط بينها وبين بعض النصوص الدينية. لقد تجذّر
في آثار صدرا إدراكه الواسع للفلاسفة، وأخذه النصّ الديني المتجلّي في النبيّ صلّى
الله عليه وآله والمفسرين وهم الأئمّة عليهم السّلام. (راجع كتاب مراتب
المعرفة وهرم الوجود للكاتب كمال إسماعيل لزّيق)
منهجية الشرح
هذه الخصائص المنهجية التي وسمت أعمال صدر الدين الشيرازي سنجدها مجتمعة،
على الجملة، ضمن مسار منطقي واحد في المجلّدات الستّة لشرح الأصول من الكافي. إلّا
أنّه يزيد عليها إيضاحات وردت في المجلّد الأوّل تحت عنوان «باب العقل والجهل»،
وهي على نسق إجابات المؤلّف الشيخ الكليني عندما سُئل عن المشكلات المنهجية التي
قد تواجه الشارح لروايات المعصومين، ولا سيّما لجهة صحّة ثبوتها، حيث أجاب سائله
بقوله: «اعلم يا أخي - أرشدك الله - أنّه لا يسع أحداً تمييز شيء ممّا اختلف
الرواية فيه عن العلماء عليهم السلام برأيه إلّا على:
- ما أطلقه العالم [المقصود بالعالم الإمام المعصوم] عليه السلام بقوله: (اعْرِضوها عَلى كِتابِ اللهِ، فَما
وافَقَ كِتابَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَخُذوهُ، وَما خالَفَ كِتابَ اللهِ فَرُدّوهُ).
- وقوله عليه السلام: (دَعوا ما وافَقَ القَوْمَ، فإنَّ الرُّشْدَ في خِلافِهِمْ).
[والمراد به علماء الدنيا وأتباعهم الراغبون في الشهوات والحظوظ العاجلة. ومن هذا
الباب عرض الأمور المشتبهة فيه الصواب والخطأ على النفس؛ فما وافق النفس، فالرشد
في خلافه، لأنّها بطبعها ميّالة إلى الشهوة والبطالة والكسل؛ وهكذا حال الطالبين
للدنيا، لكونهم في مقام النفس وليسوا من أصحاب القلوب].
- وقوله عليه السلام: (خُذوا بِالمُجْمَعِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ المُجْمَعَ
عَلَيْهِ لا رَيْبَ فيهِ)..».
ثمّ إنّه لمّا لم يسع لكلّ أحد من الناس فهم القرآن وعرض المقاصد عليه وكذا
الاطلاع على المجمع عليه؛ لأنّه إن اتَّفق ففي قليل من المسائل. وأمّا المخالفة
والموافقة مع القوم، فهي أيضاً قد لا تتطرّد في بعض الأمور، فلأجل ذلك قال الكليني:
«ونحن لا نعرف من جميع ذلك إلّا أقلّه»، أي لا تحصل المعرفة لنا من جميع ذلك
المذكور إلّا في أقلّ موضع من المواضع التي وقع اختلاف الرواية فيها، أو نحن لا
نعرف الاعتماد والتعويل عليه لكلّ أحد من المتعلّمين من جميع ما ذكر إلّا ما هو
أقلّه تعباً وأسهله عليهم مأخذاً، وهو المشار إليه بقوله: «ولا نجد شيئاً أحوط ولا
أوسع من ردّ علم ذلك كلّه إلى العالم عليه السلام، وقبول ما وسع من الأمر فيه بقوله
عليه السلام»، أي الذي علم أصول المذهب وفروعه ببصيرة وبرهان، أو العالم من أهل البيت
عليهم السّلام.
وإلى ذاك: «قبول ما وسع من الأمر فيه بقوله»، أي قبول كلّ ما وسع لذلك
العالم، وصحّ له من التحقيق والتوفيق فيما اختلف الرواية فيه، بمجرّد قوله
للاعتماد عليه فيما صحّحه أو ردّه من الروايات والفتاوى والأحكام، تسلّماً عنه
وتسليماً له «بأيّما أخذتم من باب التسليم وَسِعَكُم»، وهنا الجملة
استئنافية: مبتدأ وخبر، وتقديره أيّما أخذتم به من أقواله تسليماً وقبولاً وَسِعَكُم
العمل به. ويحتمل أن تكون الجملة - كما يستدرك صدرا - مفعولاً لقوله: «بقوله»،
وتكون حديثاً منقولاً عن العالم إذا أريد به المعصوم عليه السّلام.
وما من ريب فإنّ الشرح الذي قدّمه ملّا صدرا على كتاب (الكافي) للعلّامة
الكليني إنّما يدخل ضمن الكتب المرجعية النادرة لعلماء الإمامية، بل يمكن القول إنّ
(شرح الأصول) يكتسب فرادته بين نظائره لأنّه يصدر عن حكيم إلهي قلّ نظيره في عصره
والعصور اللّاحقة إلى يومنا هذا.