الموقع ما يزال قيد التجربة
الجوّ السياسيّ العام قبل خطبة الإمام الحسين عليه السلام
ضراوةُ التحريف الأموي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ تنسيق: «شعائر» ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
* حين يستعيد المسلمون اليوم خطبة الإمام الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهما السلام، التي ألقاها أمام جمعٍ غفير من خيرة الأصحاب قبل عامٍ من موت معاوية بن أبي سفيان، فلا مناصَ من أن يتوقّفوا مليّاً على عمق دلالاتها، ومبانيها، وعظَمة مقاصدها.
فلقد جاءت الخطبة عند منعطف لحظة تاريخية بدا معها الإسلام أمام مفترقٍ خطير، إمّا العودة إلى الوحي الإلهي ومكارم الأخلاق المحمّدية، وإمّا الانسياق في المسار الانحرافي الذي أسّست له السلطة الأموية.
كان كلّ شيء في تلك اللحظة من تاريخ الإسلام يومئ إلى الخطر المحدق بالأمّة؛ من تحريف الشريعة الإلهية وتوظيفها في خدمة الاستبداد الأموي ومصالحه الدنيوية، إلى الانقلاب الشامل على قيم العدل والرحمة التي أرسى أسُسها النبيّ الأعظم وأهل بيته صلوات الله عليهم.
أراد الإمام الحسين عليه السلام، أن يذكّر المسلمين بالحقيقة الدامغة في المكان الأطهر من أرض الله. وما ذاك إلّا لأنّ الجهر بكلمة الحقّ في عاصمة الوحي مكّة المكرّمة، له مغزاه وعظمته وأثره العميق في وجدان المسلمين.
في تلك السنة، أي قبل موت معاوية بسنة، حجّ الحسين عليه السلام، ومعه صاحباه عبد الله بن عبّاس وعبد الله بن جعفر، فجمع الحسين عليه السلام، بني هاشم وجمعاً من الأنصار والمؤمنين، فاجتمع إليه أكثر من سبعمائة رجل من التابعين، ونحوٌ من مائتي رجل من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وآله، فقام فيهم خطيباً ليبيّن لهم حقيقة الوحي، ويذكّرهم بوصايا جدّه الأعظم صلّى الله وآله، ويفصّل على أسماعهم أباطيل الخطّ الأموي واستبداده وطغيانه وانحرافه عن جادّة الوحي وصراطه المستقيم.
وفي ما يلي نصّ الخطبة الشريفة، يسبقها نصٌّ يُقدّم صورة وافية عن الجوّ السياسيّ العام؛ حيث يوثّق تفاصيل دخول معاوية إلى الكوفة، ويعكس النقمة عليه وعلى البيت الأمويّ عموماً في أوساط كبار الصحابة والتابعين.
نشير إلى أنّ هذه الخطبة الشريفة، والنصّ الذي يسبقها وردا في الجزء الثالث والثلاثين من (بحار الأنوار) للعلامة المجلسي، نقلاً عن كتاب سُليم بن قيس الكوفي.
«شعائر»
الجوّ السياسيّ العامّ
... قَدِمَ مُعَاوِيَةُ حَاجّاً فِي خِلَافَتِهِ الْمَدِينَةَ بَعْدَمَا قُتِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وصَالَحَ الْحَسَنُ - وفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى بَعْدَ مَا مَاتَ الْحَسَنُ عَلَيهِ السّلامُ - واسْتَقْبَلَهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ؛ فَنَظَرَ فَإِذَا الَّذِي اسْتَقْبَلَهُ مِنْ قُرَيْشٍ أَكْثَرُ مِنَ الْأَنْصَارِ. فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ، فَقِيلَ: إِنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ لَيْسَتْ لَهُمْ دَوَابُّ.
فَالْتَفَتَ مُعَاوِيَةُ إِلَى قَيْسِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، مَا لَكُمْ لَا تَسْتَقْبِلُونِّي مَعَ إِخْوَانِكُمْ مِنْ قُرَيْشٍ؟
فَقَالَ قَيْسٌ - وكَانَ سَيِّدَ الْأَنْصَارِ وابْنَ سَيِّدِهِمْ: أَقْعَدَنَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ لَمْ يَكُنْ لَنَا دَوَابُّ.
قَالَ مُعَاوِيَةُ: فَأَيْنَ النَّوَاضِحُ؟
فَقَالَ قَيْسٌ: أَفْنَيْنَاهَا يَوْمَ بَدْرٍ ويَوْمَ أُحُدٍ ومَا بَعْدَهُمَا فِي مَشَاهِدِ رَسُولِ اللهِ حِينَ ضَرَبْنَاكَ وأَبَاكَ عَلَى الْإِسْلَامِ، حَتَّى ظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وأَنْتُمْ كَارِهُونَ.
قَالَ مُعَاوِيَةُ: اللّهُمّ غَفْراً.
قَالَ قَيْسٌ: أَمَا إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِه وَسَلّمَ قَالَ: سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً.
ثُمَّ قَالَ: يَا مُعَاوِيَةُ! تُعَيِّرُنَا بِنَوَاضِحِنَا؟! واللهِ لَقَدْ لَقِينَاكُمْ عَلَيْهَا يَوْمَ بَدْرٍ وأَنْتُمْ جَاهِدُونَ عَلَى إِطْفَاءِ نُورِ اللهِ وأَنْ يَكُونَ كَلِمَةُ الشَّيْطَانِ هِيَ الْعُلْيَا، ثُمَّ دَخَلْتَ أَنْتَ وأَبُوكَ كَرْهاً فِي الْإِسْلَامِ الَّذِي ضَرَبْنَاكُمْ عَلَيْهِ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: كَأَنَّكَ تَمُنُّ عَلَيْنَا بِنُصْرَتِكُمْ إِيَّانَا، فللّهِ ولِقُرَيْشٍ بِذَلِكَ الْمَنُّ والطَّوْلُ. أَلَسْتُمْ تَمُنُّونَ عَلَيْنَا يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ بِنُصْرَتِكُمْ رَسُولَ اللهِ وهُوَ مِنْ قُرَيْشٍ وهُوَ ابْنُ عَمِّنَا ومِنَّا؟ فَلَنَا الْمَنُّ والطَّوْلُ أَنْ جَعَلَكُمُ اللهُ أَنْصَارَنَا وأَتْبَاعَنَا فَهَدَاكُمْ بِنَا.
فَقَالَ قَيْسٌ: إِنَّ اللهَ بَعَثَ مُحَمَّداً صَلّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِه وَسَلّمَ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ؛ فَبَعَثَهُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً وإِلَى الْجِنِّ والْإِنْسِ والْأَحْمَرِ والْأَسْوَدِ والْأَبْيَضِ، اخْتَارَهُ لِنُبُوَّتِهِ واخْتَصَّهُ بِرِسَالَتِهِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ صَدَّقَهُ وآمَنَ بِهِ ابْنُ عَمِّهِ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ. وأَبُو طَالِبٍ يَذُبُّ عَنْهُ ويَمْنَعُهُ ويَحُولُ بَيْنَ كُفَّارِ قُرَيْشٍ وبَيْنَ أَنْ يَرْدَعُوهُ ويُؤْذُوهُ. وأَمَرَ أَنْ يُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّهِ؛ فَلَمْ يَزَلْ مَمْنُوعاً مِنَ الضَّيْمِ والْأَذَى حَتَّى مَاتَ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ.
وأَمَرَ [أبو طالب] ابْنَهُ بِمُوَازَرَتِهِ؛ فَوَازَرَهُ ونَصَرَهُ وجَعَلَ نَفْسَهُ دُونَهُ فِي كُلِّ شَدِيدَةٍ وكُلِّ ضِيقٍ وكُلِّ خَوْفٍ. واخْتَصَّ اللهُ بِذَلِكَ عَلِيّاً عَلَيهِ السّلامُ مِنْ بَيْنِ قُرَيْشٍ، وأَكْرَمَهُ مِنْ بَيْنِ جَمِيعِ الْعَرَبِ والْعَجَمِ. فَجَمَعَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِه وَسَلّمَ جَمِيعَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؛ فِيهِمْ أَبُو طَالِبٍ وأَبُو لَهَبٍ وهُمْ يَوْمَئِذٍ أَرْبَعُونَ رَجُلًا، فَدَعَاهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِه وَسَلّمَ وخَادِمُهُ عَلِيٌّ عَلَيهِ السّلامُ، ورَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِه وَسَلّمَ فِي حِجْرِ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: أَيُّكُمْ يَنْتَدِبُ أَنْ يَكُونَ أَخِي ووَزِيرِي ووَصِيِّي وخَلِيفَتِي فِي أُمَّتِي ووَلِيَّ كُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ بَعْدِي؟
فَأَمْسَكَ الْقَوْمُ حَتَّى أَعَادَهَا ثَلَاثاً. فَقَالَ عَلِيٌّ عَلَيهِ السّلامُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ.
فَوَضَعَ رَأْسَهُ فِي حِجْرِهِ وتَفَلَ فِي فِيهِ، وقَالَ: اللّهُمّ امْلَأْ جَوْفَهُ عِلْماً وفَهْماً وحُكْماً.
ثُمَّ قَالَ لِأَبِي طَالِبٍ: يَا أَبَا طَالِبٍ، اسْمَعِ الْآنَ لِابْنِكَ وأَطِعْ، فَقَدْ جَعَلَهُ اللهُ مِنْ نَبِيِّهِ بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى.
وآخَى صَلّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِه وَسَلّمَ بَيْنَ عَلِيٍّ وبَيْنَ نَفْسِهِ..
فَلَمْ يَدَعْ قَيْسٌ شَيْئاً مِنْ مَنَاقِبِهِ إِلَّا ذَكَرَهَا واحْتَجَّ بِهَا وقَالَ: مِنْهُمْ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ الطَّيَّارُ فِي الْجَنَّةِ بِجَنَاحَيْنِ اخْتَصَّهُ اللهُ بِذَلِكَ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ. ومِنْهُمْ حَمْزَةُ سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ. ومِنْهُمْ فَاطِمَةُ سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ. فَإِذَا وَضَعْتَ مِنْ قُرَيْشٍ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِه وَسَلّمَ وأَهْلَ بَيْتِهِ وعِتْرَتَهُ الطَّيِّبِينَ فَنَحْنُ واللهِ خَيْرٌ مِنْكُمْ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، وأَحَبُّ إِلَى اللهِ ورَسُولِهِ وإِلَى أَهْلِ بَيْتِهِ مِنْكُمْ.
لَقَدْ قُبِضَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِه وَسَلّمَ فَاجْتَمَعَتِ الْأَنْصَارُ إِلَى أَبِي ثُمَّ قَالُوا: نُبَايِعُ سَعْداً. فَجَاءَتْ قُرَيْشٌ فَخَاصَمُونَا بِحَقِّهِ وقَرَابَتِهِ، فَمَا يَعْدُو قُرَيْشٌ أَنْ يَكُونُوا ظَلَمُوا الْأَنْصَارَ أَوْ ظَلَمُوا آلَ مُحَمَّدٍ، ولَعَمْرِي مَا لِأَحَدٍ مِنَ الْأَنْصَارِ ولَا لِقُرَيْشٍ ولَا لِأَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ والْعَجَمِ فِي الْخِلَافَةِ حَقٌّ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيهِ السّلامُ ووُلْدِهِ مِنْ بَعْدِهِ.
فَغَضِبَ مُعَاوِيَةُ وقَالَ: يَا ابْنَ سَعْدٍ عَمَّنْ أَخَذْتَ هَذَا وعَمَّنْ رَوَيْتَهُ وعَمَّنْ سَمِعْتَهُ؛ أَبُوكَ أَخْبَرَكَ بِذَلِكَ وعَنْهُ أَخَذْتَهُ؟
فَقَالَ قَيْسٌ: سَمِعْتُهُ وأَخَذْتُهُ مِمَّنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْ أَبِي وأَعْظَمُ عَلَيَّ حَقّاً مِنْ أَبِي.
قَالَ: مَنْ؟
قَالَ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيهِ السّلامُ، عَالِمُ هَذِهِ الْأُمَّةِ وصِدِّيقُهَا الَّذِي أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ: (.. قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ)... فَلَمْ يَدَعْ قَيْسٌ آيَةً نَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ عَلَيهِ السّلامُ إِلَّا ذَكَرَهَا. (الرعد:43)
قَالَ مُعَاوِيَةُ: فَإِنَّ صِدِّيقَهَا أَبُو بَكْرٍ، وفَارُوقَهَا عُمَرُ، والَّذِي عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلَامٍ.
قَالَ قَيْسٌ أَحَقُّ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ وأَوْلَى بِهَا الَّذِي أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ...). والَّذِي نَصَبَهُ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِه وَسَلّمَ بِغَدِيرِ خُمٍّ فَقَالَ: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ أَوْلَى بِهِ مِنْ نَفْسِهِ فَعَلِيٌّ أَوْلَى بِهِ مِنْ نَفْسِهِ. وقَالَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ: أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي. (هود:17)
وكَانَ مُعَاوِيَةُ يَوْمَئِذٍ بِالْمَدِينَةِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ نَادَى مُنَادِيَهُ وكَتَبَ بِذَلِكَ نُسْخَةً إِلَى عُمَّالِهِ: أَلَا بَرِئَتِ الذِّمَّةُ مِمَّنْ رَوَى حَدِيثاً فِي مَنَاقِبِ عَلِيٍّ وأَهْلِ بَيْتِهِ وقَامَتِ (الْخُطَباءُ) فِي كُلِّ مَكَانٍ عَلَى الْمَنَابِرِ بِلَعْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيهِ السّلامُ والْبَرَاءَةِ مِنْهُ، والْوَقِيعَةِ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ واللَّعْنَةِ لَهُمْ بِمَا لَيْسَ فِيهِمْ عَلَيهِمُ السّلامُ.
احتجاج ابن عبّاس على معاوية
ثُمَّ إِنَّ مُعَاوِيَةَ مَرَّ بِحَلْقَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَلَمَّا رَأَوْهُ قَامُوا إِلَيْهِ غَيْرَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ! مَا مَنَعَكَ مِنَ الْقِيَامِ كَمَا قَامَ أَصْحَابُكَ إِلَّا لِمَوْجِدَةٍ عَلَيَّ بِقِتَالِي إِيَّاكُمْ يَوْمَ صِفِّينَ؟ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ إِنَّ ابْنَ عَمِّي عُثْمَانَ قُتِلَ مَظْلُوماً!
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَدْ قُتِلَ أَيْضاً مَظْلُومَاً. قال: (أَفَتُسَلِّمُ) الْأَمْرَ إِلَى وُلْدِهِ؟ وهَذَا ابْنُهُ.
قَالَ: إِنَّ عُمَرَ قَتَلَهُ مُشْرِكٌ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَمَنْ قَتَلَ عُثْمَانَ؟
قَالَ: قَتَلَهُ الْمُسْلِمُونَ.
قَالَ: فَذَلِكَ أَدْحَضُ لِحُجَّتِكَ وأَحَلُّ لِدَمِهِ. إِنْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ قَتَلُوهُ وخَذَلُوهُ فَلَيْسَ إِلَّا بِحَقٍّ.
قَالَ: فَإِنَّا قَدْ كَتَبْنَا فِي الْآفَاقِ نَنْهَى عَنْ ذِكْرِ مَنَاقِبِ عَلِيٍّ وأَهْلِ بَيْتِهِ، فَكُفَّ لِسَانَكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ وارْبَعْ عَلَى نَفْسِكَ.
قَالَ: فَتَنْهَانَا عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ؟
قَالَ: لَا.
قَالَ: فَتَنْهَانَا عَنْ تَأْوِيلِهِ؟
قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: فَنَقْرَؤُهُ، ولَا نَسْأَلُ عَنْ مَا عَنَى اللهُ بِهِ؟
قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: فَأَيُّمَا أَوْجَبُ عَلَيْنَا؛ قِرَاءَتُهُ أَوِ الْعَمَلُ بِهِ؟
قَالَ: الْعَمَلُ بِهِ.
قَالَ: فَكَيْفَ نَعْمَلُ بِهِ حَتَّى نَعْلَمَ مَا عَنَى اللهُ بِمَا أَنْزَلَ عَلَيْنَا.
قَالَ: يُسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ مَنْ يَتَأَوَّلُهُ عَلَى غَيْرِ مَا تَتَأَوَّلُهُ أَنْتَ وأَهْلُ بَيْتِكَ!!
قَالَ: إِنَّمَا أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى أَهْلِ بَيْتِي، فَأَسْأَلُ عَنْهُ آلَ أَبِي سُفْيَانَ وآلَ أَبِي مُعَيْطٍ والْيَهُودَ والنَّصَارَى والْمَجُوسَ؟
قَالَ: فَقَدْ عَدَلْتَنِي بِهَؤُلَاءِ؟
قَالَ: لَعَمْرِي مَا أَعْدِلُكَ بِهِمْ إِلَّا إِذَا نَهَيْتَ الْأُمَّةَ أَنْ يَعْبُدُوا اللهَ بِالْقُرْآنِ وبِمَا فِيهِ مِنْ أَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ أَوْ حَلَالٍ أَوْ حَرَامٍ أَوْ نَاسِخٍ أَوْ مَنْسُوخٍ أَوْ عَامٍّ أَوْ خَاصٍّ أَوْ مُحْكَمٍ أَوْ مُتَشَابِهٍ. وإِنْ لَمْ تَسْأَلِ الْأُمَّةُ عَنْ ذَلِكَ هَلَكُوا واخْتَلَفُوا وتَاهُوا.
قَالَ مُعَاوِيَةُ: فَاقْرَؤوا الْقُرْآنَ ولَا تَرْوُوا شَيْئاً مِمَّا أَنْزَلَ اللهُ فِيكُمْ ومِمَّا قَالَ رَسُولُ اللهِ، وارْوُوا مَا سِوَى ذَلِكَ!
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُون﴾. (التوبة:33)
قَالَ مُعَاوِيَةُ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، اكْفِنِي نَفْسَكَ وكُفَّ عَنِّي لِسَانَكَ. وإِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ فَاعِلًا فَلْيَكُنْ سِرّاً فَلَا تُسْمِعْهُ أَحَداً عَلَانِيَةً.
ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ فَبَعَثَ إِلَيْهِ بِخَمْسِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ - وفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ.
تنكيل معاوية بالموالين
ثُمَّ اشْتَدَّ الْبَلَاءُ بِالْأَمْصَارِ كُلِّهَا عَلَى شِيعَةِ عَلِيٍّ وأَهْلِ بَيْتِهِ. وكَانَ أَشَدَّ النَّاسِ بَلِيَّةً أَهْلُ الْكُوفَةِ لِكَثْرَةِ مَنْ بِهَا مِنَ الشِّيعَةِ، واسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا زِيَاداً؛ ضَمَّهَا إِلَيْهِ مَعَ الْبَصْرَةِ وجَمَعَ لَهُ الْعِرَاقَيْنِ، وكَانَ يَتتبّعُ الشِّيعَةَ وهُوَ بِهِمْ عَالِمٌ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْهُمْ؛ قَدْ عَرَفَهُمْ وسَمِعَ كَلَامَهُمْ أَوَّلَ شَيْءٍ، فَقَتَلَهُمْ تَحْتَ كُلِّ كَوْكَبٍ وتَحْتَ كُلِّ حَجَرٍ ومَدَرٍ، وأَخَافَهُمْ وقَطَعَ الْأَيْدِيَ والْأَرْجُلَ مِنْهُمْ وصَلَبَهُمْ عَلَى جُذُوعِ النَّخْلِ، وسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ وطَرَدَهُمْ وشَرَّدَهُمْ حَتَّى انْتَزَحُوا عَنِ الْعِرَاقِ، فَلَمْ يَبْقَ بِهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا مَقْتُولٌ أَوْ مَصْلُوبٌ أَوْ طَرِيدٌ أَوْ هَارِبٌ.
اختلاق المناقب، والكذب على رسول الله صلّى الله عليه وآله
وكَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى عُمَّالِهِ ووُلَاتِهِ فِي جَمِيعِ الْأَرَضِينَ والْأَمْصَارِ أَنْ لَا يُجِيزُوا لِأَحَدٍ مِنْ شِيعَةِ عَلِيٍّ ولَا مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ ولَا مِنْ أَهْلِ وَلَايَتِهِ الَّذِينَ يَرْوُونَ فَضْلَهُ ويَتَحَدَّثُونَ بِمَنَاقِبِهِ شَهَادَةً. وكَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ: انْظُرُوا مَنْ قِبَلَكُمْ مِنْ شِيعَةِ عُثْمَانَ ومُحِبِّيهِ وأَهْلِ بَيْتِهِ وأَهْلِ وَلَايَتِهِ الَّذِينَ يَرْوُونَ فَضْلَهُ ويَتَحَدَّثُونَ بِمَنَاقِبِهِ فَأدْنُوا مَجَالِسَهُمْ وأَكْرِمُوهُمْ وقَرِّبُوهُمْ وشَرِّفُوهُمْ، واكْتُبُوا إِلَيَّ بِمَا يَرْوِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِيهِ بِاسْمِهِ واسْمِ أَبِيهِ ومِمَّنْ هُوَ.
فَفَعَلُوا ذَلِكَ حَتَّى أَكْثَرُوا فِي عُثْمَانَ الْحَدِيثَ، وبَعَثَ إِلَيْهِمْ بِالصِّلَاتِ والْكِسيّ وأَكْثَرَ لَهُمُ الْقَطَائِعَ مِنَ الْعَرَبِ والْمَوَالِي، فَكَثُرُوا فِي كُلِّ مِصْرٍ وتَنَافَسُوا فِي الْمَنَازِلِ والضِّيَاعِ واتَّسَعَتْ عَلَيْهِمُ الدُّنْيَا، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَأْتِي عَامِلَ مِصْرٍ مِنَ الْأَمْصَارِ ولَا قَرْيَةٍ فَيَرْوِي فِي عُثْمَانَ مَنْقَبَةً أَوْ يَذْكُرُ لَهُ فَضِيلَةً إِلَّا كُتِبَ اسْمُهُ وقُرِّبَ وشُفِّعَ، فَمَكَثُوا بِذَلِكَ مَا شَاءَ اللهُ.
ثُمَّ كَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ أَنَّ الْحَدِيثَ قَدْ كَثُرَ فِي عُثْمَانَ وفَشَا فِي كُلِّ مِصْرٍ ومِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، فَإِذَا جَاءَكُمْ كِتَابِي هَذَا فَادْعُوهُمْ إِلَى الرِّوَايَةِ فِي أَبِي بَكْرٍ وعُمَرَ، فَإِنَّ فَضْلَهُمَا وسَوَابِقَهُمَا أَحَبُّ إِلَيَّ وأَقَرُّ لِعَيْنِي وأَدْحَضُ لِحُجَّةِ أَهْلِ هَذَا الْبَيْتِ وأَشَدُّ عَلَيْهِمْ مِنْ مَنَاقِبِ عُثْمَانَ وفَضْلِهِ. فَقَرَأَ كُلُّ قَاضٍ وأَمِيرٍ مِنْ وُلَاتِهِ كِتَابَهُ عَلَى النَّاسِ، وأَخَذَ النَّاسُ فِي الرِّوَايَاتِ فِيهِمْ وفِي مَنَاقِبِهِمْ.
ثُمَّ كَتَبَ نُسْخَةً جَمَعَ فِيهَا جَمِيعَ مَا رُوِيَ فِيهِمْ مِنَ الْمَنَاقِبِ والْفَضَائِلِ وأَنْفَذَهَا إِلَى عُمَّالِهِ وأَمَرَهُمْ بِقِرَاءَتِهَا عَلَى الْمَنَابِرِ فِي كُلِّ كُورَةٍ وفِي كُلِّ مَسْجِدٍ، وأَمَرَهُمْ أَنْ يُنْفِذُوا إِلَى مُعَلِّمِي الْكَتَاتِيبِ أَنْ يُعَلِّمُوهَا صِبْيَانَهُمْ حَتَّى يَرْوُوهَا ويَتَعَلَّمُوهَا كَمَا يَتَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ حَتَّى عَلَّمُوهَا بَنَاتِهِمْ ونِسَاءَهُمْ وخَدَمَهُمْ وحَشَمَهُمْ، فَلَبِثُوا بِذَلِكَ مَا شَاءَ اللهُ.
قتلُ الشيعة على التُّهمة والظنّ
ثُمَّ كَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ نُسْخَةً وَاحِدَةً إِلَى جَمِيعِ الْبُلْدَانِ:
انْظُرُوا مَنْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ يُحِبُّ عَلِيّاً وأَهْلَ بَيْتِهِ فَامْحُوهُ مِنَ الدِّيوَانِ ولَا تُجِيزُوا لَهُ شَهَادَةً.
ثُمَّ كَتَبَ كِتَاباً آخَرَ: مَنِ اتَّهَمْتُمُوهُ ولَمْ تُقَمْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَاقْتُلُوهُ.
فَقَتَلُوهُمْ عَلَى التُّهَمِ والظَّنِّ والشُّبَهِ تَحْتَ كُلِّ كَوْكَبٍ. حَتَّى لَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَسْقُطُ بِالْكَلِمَةِ فَيُضْرَبُ عُنُقُهُ. ولَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْبَلَاءُ فِي بَلَدٍ أَكْبَرَ ولَا أَشَدَّ مِنْهُ بِالْعِرَاقِ - ولَا سِيَّمَا بِالْكُوفَةِ - حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ مِنْ شِيعَةِ عَلِيٍّ - ومِمَّنْ بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِهِ بِالْمَدِينَةِ وغَيْرِهَا - لَيَأْتِيهِ مَنْ يَثِقُ بِهِ فَيَدْخُلُ بَيْتَهُ ثُمَّ يُلْقِي عَلَيْهِ سِرَّهُ فَيَخَافُ مِنْ خَادِمِهِ ومَمْلُوكِهِ؛ فَلَا يُحَدِّثُهُ حَتَّى يَأْخُذَ عَلَيْهِ الْأَيْمَانَ الْمُغَلَّظَةَ لَيَكْتُمَنَّ عَلَيْهِ.
وجُعِلَ الْأَمْرُ لَا يَزْدَادُ إِلَّا شِدَّةً، وكَثُرَ عِنْدَهُمْ عَدُوُّهُمْ، وأَظْهَرُوا أَحَادِيثَهُمُ الْكَاذِبَةَ فِي أَصْحَابِهِمْ مِنَ الزُّورِ والْبُهْتَانِ فَنَشَأَ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ ولَمْ يَتَعَلَّمُوا إِلَّا مِنْهُمْ، ومَضَى عَلَى ذَلِكَ قُضَاتُهُمْ ووُلَاتُهُمْ وفُقَهَاؤُهُمْ.
وكَانَ أَعْظَمَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ بَلَاءً وفِتْنَةً الْقُرَّاءُ الْمُرَاؤونَ الْمُتَصَنِّعُونَ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ لَهُمُ الْحُزْنَ والْخُشُوعَ والنُّسُكَ، ويَكْذِبُونَ ويُعَلِّمُونَ الْأَحَادِيثَ لِيَحْظَوْا بِذَلِكَ عِنْدَ وُلَاتِهِمْ ويَدْنُوْا بِذَلِكَ مَجَالِسَهُمْ، ويُصِيبُوا بِذَلِكَ الْأَمْوَالَ والْقَطَائِعَ والْمَنَازِلَ؛ حَتَّى صَارَتْ أَحَادِيثُهُمْ تِلْكَ ورِوَايَاتُهُمْ فِي أَيْدِي مَنْ يَحْسَبُ أَنَّهَا حَقٌّ وأَنَّهَا صِدْقٌ؛ فَرَوَوْهَا وقَبِلُوهَا وتَعَلَّمُوهَا وعَلَّمُوهَا وأَحَبُّوا عَلَيْهَا وأَبْغَضُوا. وصَارَتْ بِأَيْدِي النَّاسِ الْمُتَدَيِّنِينَ الَّذِينَ لَا يَسْتَحِلُّونَ الْكَذِبَ ويُبْغِضُونَ عَلَيْهِ أَهْلَهُ فَقَبِلُوهَا وهُمْ يَرَوْنَ أَنَّهَا حَقٌّ، ولَوْ عَلِمُوا أَنَّهَا بَاطِلٌ لَمْ يَرْوُوهَا ولَمْ يَتَدَيَّنُوا بِهَا، فَصَارَ الْحَقُّ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ بَاطِلًا والْبَاطِلُ حَقّاً والصِّدْقُ كَذِباً والْكَذِبُ صِدْقاً. وقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِه وَسَلّمَ: لَتَشْمَلَنَّكُمْ فِتْنَةٌ يَرْبُو فِيهَا الْوَلِيدُ ويَنْشَأُ فِيهَا الْكَبِيرُ، تَجْرِي النَّاسُ عَلَيْهَا ويَتَّخِذُونَهَا سُنَّةً، فَإِذَا غُيِّرَ مِنْهَا شَيْءٌ قَالُوا: أَتَى النَّاسُ مُنْكَراً؛ غُيِّرَتِ السُّنَّةُ!
فَلَمَّا مَاتَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَيهِ السّلامُ لَمْ يَزَلِ الْفِتْنَةُ والْبَلَاءُ يَعْظُمَانِ ويَشْتَدَّانِ، فَلَمْ يَبْقَ وَلِيٌّ للهِ إِلَّا خَائِفاً عَلَى دَمِهِ... أَنَّهُ مَقْتُولٌ وإِلَّا طَرِيداً. ولَمْ يَبْقَ عَدُوٌّ للهِ إِلَّا مُظْهِراً حُجَّتَهُ غَيْرَ مُسْتَتِرٍ بِبِدْعَتِهِ وضَلَالَتِهِ.
0
أيـــــــــــــــــــــــــن الرَّجبيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــون؟ يستحب في شهر رجب قراءة سورة التوحيد عشرة آلا مرة..
يدعوكم المركز الإسلامي- حسينية الصديقة الكبرى عليها السلام للمشاركة في مجالس ليالي شهر رمضان لعام 1433 هجرية. تبدأ المجالس الساعة التاسعة والنصف مساء ولمدة ساعة ونصف. وفي ليالي الإحياء يستمر المجلس إلى قريب الفجر. نلتمس دعوات المؤمنين.