يا ليتنا كنّا معكَ...
في
دلالة العبارة ومكانتها في النهضة الحسينية
ــــــــــــــــــــــــــــ
الشيخ حسين كوراني ــــــــــــــــــــــــــــ
* في هذه المقالة يستحضر العلّامة الشيخ
حسين كوراني العبارة المأثورة التي يردّدها المسلمون من أتباع أهل البيت عليهم
السلام، في المجالس الحسينية، حيث يشرح معانيها ودلالاتها والأسرار التي تنطوي
عليها، وبالتالي ضرورة العمل بها قولاً وفعلاً، ليتحقّق الفوز الأعظم بالقرب من
الدوحة النبويّة، ونيل رضى الحقّ تعالى.
نشير
إلى أنّ هذا النص مختار من الجزء الأول من كتاب (في محراب كربلاء).
«شعائر»
«يَا لَيْتَنَا كُنَّا مَعَكَ سَيِّدِي
فَنَفُوزَ فَوْزَاً عَظِيمَاً»..
شعارٌ نردّده باستمرار.. وقد أُمرنا بذلك كما في الرواية عن الإمام الرضا عليه السلام: «يَا ابْنَ شَبِيبٍ، إِنْ سَرَّكَ أَنْ يَكُونَ لَكَ
مِنَ الثَّوَابِ مِثْلُ مَا لِمَنِ اسْتُشْهِدَ مَعَ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ عليهما
السلام؛ فَقُلْ مَتَى ذَكَرْتَهُ: يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ
فَوْزاً عَظِيماً..».
ولكن هل وقفنا مليّاً وحاولنا الدخول إلى دلالات هذا
الشعار والمضامين؟
باختصار، هل سألتُ نفسي أو سألتَ أيّها العزيز نفسك:
أحقّاً لو كنتُ في زمن الإمام الحسين عليه السلام كنتُ وقفتُ معه؟
ولو أنّي وقفتُ معه وسمعتُه يقول: «فانْطَلِقوا
جَميعاً في حِلٍّ ليسَ عليكُم مِنِّي ذمامٌ، وَهذَا اللَّيْلُ قَدْ غَشِيَكُمْ
فَاتَّخِذُوهُ جَمَلاً، وَلْيَأْخُذْ كُلُّ رَجُل مِنْكُمْ بِيَدِ رَجُلٍ مِن
أَهلِ بَيْتِي وتَفرَّقوا... فَإِنَّ الْقَوْمَ إِنَّما يَطْلُبُونِي»..
لو أنّنا سمعنا منه ذلك، هل كنّا آثرنا البقاء معه
ونحن حينذاك على مفترق طريقين.. بين الحياة والقتل.. بين بهجة الدنيا وبهجة
الآخرة.. بين زخارف ملموسة محسوسة بهذه الحواسّ تُبهر الألباب كما يقال، وبين
مواعيد الله الصادقة وما أَعدّ للمتقين.. هل كنّا حقاً سنقوى على اتّخاذ القرار
الحاسم الذي ترتعد منه الفرائص، وحتّى فرائص القائد العسكري المقدام كالحرّ بن
يزيد الرياحي.. الذي أخذَته رعدة كالأفكل لأنّه كان يخيّر نفسه بين الجنة والنار؟
قبل أن نقول: «يَا لَيْتَنَا
كُنَّا مَعَكَ سَيِّدِي فَنَفُوزَ فَوْزَاً عَظِيمَاً»، ينبغي لي ولك،
أيّها العزيز، أن نفكّر بهذه الحقيقة الكبيرة إلّا على الخاشعين.. يَا لَيْتَنَا كُنَّا مَعَكَ.. إنْ كانت صادقة
نابعة من الروح والضمير والوجدان.. منبعثة من شغاف القلب.. فإنّها تستبطن أنّنا
عرفنا الدنيا على حقيقتها ظِلاً زائلاً وسراباً ﴿..بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ
الظَّمْآَنُ مَاءً..﴾ النور:39، وأنّنا عرفنا أنّ أعلى مراتب الحياة الحقيقية الحياة الطيّبة.. هي تلك
التي نقرع بابها من بين مشتبك القنا وصليل السيوف، بل أزيز الرصاص ودويّ القذائف
وتشجّي الجسد أشلاء مبعثرة على طريق الحسين، وأصحاب الحسين، الَّذِينَ بَذَلُوا
مُهَجَهُم دُوْنَ الحُسَينِ عَلَيهِ السّلامُ..
مراتب الفوز في القرآن الكريم
«يَا لَيْتَنَا» تمنٍّ يكشف عن مضمونه معنى الفوز
العظيم، وهو يعني أنّنا عندما نردّد هذا الشعار نعتبر القتل فوزاً، فهل نحن كذلك؟!
ثمّ إنّنا لا نكتفي بطلب الفوز فقط، وإنّما نتمنّى
الفوز العظيم.. والفوز العظيم في ما يبدو في ضوء آيات كتاب الله أعلى درجات الفوز؛
فقد بيّن عزّ وجلّ أنّ للفوز مراتب متعدّدة:
الأولى: مرتبة الفائزين: ﴿..فَمَنْ
زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ آل عمران:185.
﴿لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ
الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ الحشر:20.
الثانية: مرتبة الفوز الكبير: ﴿إِنَّ
الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ﴾ البروج:11.
الثالثة: مرتبة الفوز المبين: ﴿قُلْ إِنِّي
أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ
يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ﴾ الأنعام:15-16.
الرابعة: مرتبة الفوز العظيم: ﴿إِنَّ اللهَ
اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ
الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا
عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى
بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ
وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ التوبة:111.
ومرتبة الفوز العظيم مرتبة أولياء الله: ﴿أَلَا إِنَّ
أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ
آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ﴾ يونس:62-64.
وهكذا يتّضح أنّ هذه العبارة التي نُكثر ترديدها،
تحمل بين طيّاتها أغلى وأعلى درجات الإيمان والعمل الصالح..
وليس الهدف من بيان ذلك أن نمتنع عن التلهُّف بها..
بل الهدف أن نردّدها ونحن نعرف حدودها، وتخضع لله جوارحنا معترفةً بالقصور، طالبةً
منه عزّ وجلّ التوفيق لنصبح من أهل: «يَا لَيْتَنَا
كُنَّا مَعَكَ سَيِّدِي فَنَفُوزَ فَوْزَاً عَظِيمَاً»..
أمّا ترديد هذا الشعار غافلين عن مضمونه فربّما
يجعلنا - لا سمح الله - من أولئك الذين بيّن الله تعالى حبّهم للدنيا وحرصهم
عليها، في حين أنّهم يتكلّمون بكلام الشهداء والمجاهدين..
قال عزّ من قائل: ﴿وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ
لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ
إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا * وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ
لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي
كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ النساء:72-73.
ويبدو أن هاتين الآيتين تعالجان حالة نعيشها نحن
الذين لم نُوفَّق بعد لحسم خيارنا.. فنحن من جهة ندرك عظمة الشهداء، ومن جهة أخرى
نجد أنّنا مشدودون إلى الدنيا، وفي حالة مراوحة من الطبيعي أن يمرّ فيها الكثيرون،
ثمّ يُوفّق مَن يستحقّ التوفيق الإلهي، فيجتازها ويتخفّف من أثقال الدنيا محلّقاً
في آفاق الرضوان والفوز العظيم.. اللّهمّ ارزقنا..
وجوبُ التحرّر من أَسْر الدنيا
حقاً.. هل أنا وأنت من أهل «يَا لَيْتَنَا كُنَّا مَعَكَ سَيِّدِي فَنَفُوزَ فَوْزَاً
عَظِيمَاً».. إذا كنا كذلك، فما الذي يمنعنا عن خوض غمرات الجهاد؟ وهل
وراء عبّادان قرية؟ هل بعد الظلم الذي يملأ الدنيا اليوم ظلمٌ أشدّ منه؟ هل بعد
السهام التي تُدمي قلب مولانا صاحب العصر والزمان سهامٌ أشدّ فتكاً؟
سمع جدُّه أمير المؤمنين بذِمّيّة تُسلب خلخالها
فقال: «فَلَو أَنَّ مُؤْمِنَاً مَاتَ مِنْ دُوْنِ هَذَا أَسَفَاً مَا كَانَ عِنْدِي
مَلُوْمَاً»..
ويرى الإمام المنتظر، أرواحنا فداه، أمّة جدّه
المصطفى تُسلب كرامتها، فلِم لا نشاطره الحزن ونمضي في ساحات الجهاد سراعاً نلقى
الله تعالى ونلقى الأحبّة؛ محمّداً وحزبه؟!
آهِ من حبّ الدنيا ما أشدّ فتْكَه بالنفوس.. وأيّ
دنيا هذه التي نحبّها، وكافرٌ من خلف البحار نَجِسٌ يتدخّل في أدقّ تفاصيل شؤوننا
العقيديّة، فضلاً عن الشؤون السياسية الداخلية.. يحدّد المسموح به والممنوع في
السلاح والاقتصاد والسياسة والثقافة، ويُفتي في الإسلام المعتدل والمتشدّد، ويفرض
على أنظمتنا أن تسوق أمّة المصطفى الحبيب ذليلةً إلى بيت الطاعة «الإسرائيلي»..
ومع ذلك يتبجّح بحماية الإنسان وحقوق الإنسان.. يحمل عقليّة العصر الحجري، ويفرض
علينا بإرهابه أن نردّد أنّه السيّد المتحضّر، رائد النظام الدولي الجديد.. ورغم
أنّه العدوّ، فإنّ الأعدى منه هذه النّفس التي تصبر على مَضَض إذلاله، وتبحث عن
مبرّرات القعود والتعقّل الجبان المجنون..
هنيئاً لشهيد عملية (مقرّ المارينز)، وكلّ شهداء
العمليات النوعيّة فوزهم العظيم.. وهنيئاً لكم يا أبطال المقاومة الإسلامية
المرابطين في خندق الشهادة، الماضين كحدّ السيف في الدرب الكربلائي، المردّدين
بفوّار دمكم الزاكي: «يَا لَيْتَنَا كُنَّا مَعَكَ
سَيِّدِي فَنَفُوزَ فَوْزَاً عَظِيمَاً»...